تتكرر ” خرافة المخ الصغير ” مع تكرر القول بأن الطفل حول السنة الثانية من عمره، “لا يفهم” أو أن “عقله ما يزال صغيرًا”!([i])” وأصبحنا نعد ذلك من قبيل المسلمات”، ونبرر لهم بعض السلوكيات الاجتماعية غير السوية، خاصة تلك المتسمة بالعنف اللفظي أو حتى البدني.
ويتصور الكبار – بهذه الرؤية – أن مخ الطفل الصغير ما زال غير قادر على التذكر، أو التعلم، بكفاءة، بما يكفي لتمرير الخبرات السيئة عليه دون أن تترك أثرًا على “عقله الصغير”.
ويترتب على هذه “المسلمات” أيضًا أن الاهتمام بتكوين عقل الطفل قبل الالتحاق بالمدرسة غير مُجْد، وأن الأطفال الأكبر سنًّا يكونون أقدر على اكتساب مهارات معينة، مثل اكتساب لغات غير اللغة الأم؛ ولذلك تقضي النظرة التقليدية في دوائر التعليم مثلاً بتأجيل تعليم اللغات الإضافية إلى ما بعد العاشرة.
غير أن الدراسات الأكثر حداثة في دراسة تكوين المخ، ونشاطه، وعلاقتهما بالتعلم([ii])، تقطع بأنه ليس أبعد عن الحقيقة من هذه “المسلمات”. الأمر الذي ينطوي على تبعات جوهرية لِفَهْم عملية تعلم الأطفال الصغار، وعملية التنشئة الاجتماعية بوجه عام؛ ويفرض، من ثَمَّ، تغييرات عملية أساسية في المنطق التقليدي لهاتين العمليتين المجتمعتين بالغتي الأهمية، للفرد وللمجتمع على حد سواء.
فجماع الرأي العلمي الآن أن المخ ليس مجرد جهاز عضوي – كما كان يظن في السابق – وأن الاهتمام بتطوير مخ الطفل قبل الالتحاق بالمدرسة، بل منذ لحظة الولادة، أو حتى قبلها، أمر لا يدانيه في الأهمية – في تنشئة الطفل العقلية – أي اعتبار آخر، حيث تؤثر الخبرات التي يتعرض لها الطفل في السنوات الأولى من العمر تأثيرًا بالغ الأهمية على معمار المخ، وعلى أدائه طول الحياة.
معمار المخ
يتكون معمار المخ من عنصرين أساسيين: خلايا متخصصة “خلايا عصبية”، ووصلات بين هذه الخلايا تمكنها من الاتصال ببعضها. ولا شك في أن عدد الخلايا محدد جوهري لمعمار المخ، فكلما زاد عدد وحدات البناء، توافرت مقومات بناء أضخم. ولكن ثراء المعمار يتحدد بمدى كثافة الوصلات بين الخلايا. وتتحدد كفاءة أداء هذا المعمار بجودة هذه الوصلات.
والمثال المعتاد لتوضيح هذه العلاقات، وإن كان أقل تعقيدًا بكثير من المخ البشري، هو شبكات الاتصالات التليفونية، فالشبكة الكبرى تربط عددًا أكبر من نقاط الاتصال (أجهزة التليفونات) الممكنة. ولكن مدى ثراء الشبكة يتوقف على عدد الوصلات بين نقاط الاتصال، ويتحدد مدى كفاءة الشبكة بجودة هذه الوصلات (متانتها، وسعتها، وسرعة التوصيل عبرها).
ويحوي المخ البشري أعدادًا هائلة من الخلايا، وأعداد حتى أكبر من الوصلات، فيدور عدد الخلايا في مخ الفرد البالغ حول مائة بليون، بينما يقارب عدد الوصلات، في المتوسط، 500 تريليون([iii]).
تطور معمار المخ
السمة المميزة لتطور معمار المخ هي النمو فائق السرعة، أو التفجري، في مراحل مختلفة من الحمل وحياة الطفل.
تبدأ مرحلة أولى من النمو التفجري في خلايا المخ أثناء الحمل، فمنذ لحظة الإخصاب حتى منتصف فترة الحمل تقريبًا يقفز عدد خلايا المخ، في المتوسط، إلى 200 بليون، ثم يبدأ عدد الخلايا في التناقص، حتى يصل إلى حوالي نصف ذلك عند الولادة، ويبقى على هذا المستوى تقريبًا فيما بعد. أي أن المكون الأول لمعمار المخ، يكتمل قبل الميلاد.
غير أن الوضع جد مختلف في حالة المكون الثاني: الوصلات بين الخلايا؛ إذ يبدأ النمو التفجري في الوصلات بين الخلايا أيضًا أثناء الحمل، ففي عينة من المخ توازي حجم رأس الدبوس، وتضم حوالي 70 ألف خلية تقريبًا، يصل عدد الوصلات بين هذه الخلايا في جنين عمره سبعة شهور إلى حوالي 125 مليون. وعند الميلاد يكون عدد الوصلات في هذه العينة قد تضاعف. ويصل المعدل الأقصى لتكوين الوصلات بين خلايا المخ إلى ثلاثة بلايين في الثانية الواحدة، حتى يتضاعف عدد الوصلات مرة أخرى حول بلوغ الطفل سبعة أشهر – بعد الميلاد – أي في أقل من فترة الحمل.
ونتوقف هنا للإشارة إلى أن هذا النمط المتفاوت في تطور مكوني معمار المخ لا بد يعني أن الخبرات الحياتية التي تبدأ بعد الميلاد ذات علاقة وثيقة بتكون الوصلات بين خلايا المخ، وليس بالخلايا، حيث إن بناء الخلايا قد اكتمل تقريبًا قبل الميلاد.
يستمر النمو التفجري في الوصلات بين خلايا المخ بعد الميلاد إذًا، ولكن فقط حتى بلوغ الثانية من العمر، ثم يبدأ عدد الوصلات في التناقص، فعند بلوغ الثانية من العمر يناهز عدد الوصلات ألف تريليون، ثم يتناقص تدريجيًّا، وعند سن العاشرة يكون عدد الوصلات قد تقلص – في المتوسط – إلى حوالي النصف كما ذكرنا، بينما يبقى عدد خلايا المخ دائمًا عند حد الميلاد. ويبقى حجم معمار المخ عند هذا الحد تقريبًا منذ بلوغ العاشرة، وطوال باقي العمر.
لماذا التقلص بعد النمو في مكوني معمار المخ؟
يثير النمط الموصوف أعلاه سؤالاً جوهريًّا: لماذا يتبع النمو الانفجاري في مكوني معمار المخ تقلص في كلا المكونين – في الخلايا في النصف الثاني من الحمل، وفي الوصلات بعد بلوغ الثانية من العمر؟
تقوم الإجابة على هذا التساؤل على أن التعليمات الوراثية للكائن البشري (المتضمنة في “الجينات” أو “المورثات”) لا تكفي لتحديد تفاصيل بناء المعمار الهائل للمخ البشري بكامله (يصل عدد المورثات في الكائن البشري حوالي مائة ألف، يختص نصفها تقريبًا بتعليمات تشييد معمار المخ والجهاز العصبي – راجع، للمقارنة، الأعداد، الأكبر كثيرًا، لخلايا المخ والوصلات بينها المعطاة أعلاه).
ولذلك يتم إنتاج عدد يفوق الحاجة، من الخلايا قبل الميلاد، ومن الوصلات حتى الثانية من العمر، بحوالي المثل في كلتا الحالتين، بحيث يقوم المخ ذاته، بعد اكتمال معماره بما يكفي لمهام كل من المراحل الأولى للحياة، باستكمال تشييد المعمار على صورته النهائية.
فوجود فائض في مكوني المعمار يضمن توافر ما يكفي، ويزيد من قدرة المخ، باعتباره مركز التحكم في الكائن البشري، لضبط كل أجهزة الجسم الحيوية أولاً، ثم العلاقة بالعالم خارج الرحم، بعد الميلاد، ثانيًا. وبيديهي أن الاحتياط بالوفرة أحكم من التقتير في مثل هذه المجالات، كما أنه يوفر فرصة انتقاء أفضل عناصر المعمار للمهام المطلوبة.
وإعمالاً لهذه الحكمة، فإن ما يزيد عن حاجة ضبط الوظائف العضوية للجسم من خلايا المخ يفقد قبل الميلاد.
أما في حالة الوصلات بين خلايا المخ، فلا شك في أن قسمًا منها مطلوب للتحكم في الوظائف العضوية. ولكن، في منظور الاجتماع البشري، يتصل قسم آخر، أضخم كثيرًا، بالعلاقات مع البيئة، المادية والبشري. ومنطقي أن يتوقف هذا القسم الثاني من الوصلات على تفاعل الطفل مع هاتين البيئتين. وكما في حال الخلايا، يبدأ إنتاج الوصلات بين الخلايا بوفرة، بل بمعدل متصاعد، حتى بلوغ الثانية من العمر، ثم يتقلص مكوِّن الوصلات من معمار المخ حتى يستقر حول العاشرة، كما رأينا.
وبينما يستغرق التخلص من خلايا المخ الزائدة عن الحاجة حوالي أربعة شهور، تتطلب العملية هذه في حالة الوصلات ثمانية أعوام (أي أربعة وعشرين مثلاً تقريبًا). ويستدل من هذه المقارنة على أن جانب التفاعل مع البيئة، المادية والبشرية، من شق الوصلات في معمار المخ أعقد بكثير من جانب ضبط الوظائف العضوية للجسم، ويحتاج، من ثم، لرصيد هائل من الوصلات.
والاستخلاصان الأهم هما أن تشكيل جانب التفاعل مع البيئة – المادية والبشرية – من معمار المخ لا بد أن يكون – في حد ذاته – رهن بالتفاعل مع البيئة من خلال نشاط المخ نفسه، من ناحية؛ وأنه يصل أقصى نشاط له حول الثانية من العمر، ويكاد ينتهي ببلوغ العاشرة، من ناحية أخرى.
وهكذا، فإن الإجابة على التساؤل المثار في بداية هذا القسم من المقال تشير إلى الأهمية القصوى لعوامل البيئة، أو التنشئة، في مقابل الوراثة، في تشكيل شق الوصلات بين الخلايا في معمار المخ.
وتبرز الإجابة كذلك الأهمية الفائقة للعشرة أعوام الأولى من العمر، وعلى وجه الخصوص العامين الأولين، في تشكيل معمار العقل الخاص بالتعامل مع المحيطين، المادي والبشري، للوجود الإنساني.
تطور معمار المخ والتعلم
يكمن في هذا النمط من تطور معمار المخ تفسير لظاهرة مثل تعلم الأطفال الصغار للغة بلد أجنبي بسهولة، وطلاقة، لا يقدر عليها من هم أكبر منهم سنًّا، خاصة البالغين. لقد أصبح معروفًا الآن أن هذه الميزة تتأتى في الوقت الذي تبنى فيه العلاقات بين خلايا المخ (المتخصصة في اللغات). وإذا لم تنشأ الوصلات الخاصة بلغة معينة في هذه الفترة، تقل قدرة الفرد على اكتساب هذه اللغة باطِّراد، خاصة بعد بلوغ العاشرة من العمر (في هذا أيضًا تفسير لبعض عيوب النطق التي تلازم من يتعلمون اللغات في الكبر، وإن أجادوا في اللغة، خاصة عبر عائلات اللغات – العربية واللاتينية مثلاً).
وتثير خصائص تطور معمار المخ، وتفسير سهولة اكتساب الأطفال للغات الأجنبية، فكرة أن هناك فترات حرجة (أو نوافذ فرص windows of opportunity زمنية)؛ لتكوين الوصلات الخاصة بمهارة معينة، على أعلى مستوى من الكفاءة، بحيث يتدنى مستوى كفاءة هذه المهارة إن اكتسبت بعد فوات هذه الفترة الحرجة من تشكل المخ، وتقع غالبية هذه النوافذ الحرجة لاكتساب المهارات في السنوات الأولى من العمر. وهذا هو، بالضبط، ما تؤكده نتائج البحوث الأكثر حداثة في دراسات تشكل المخ.
وينطوي مجمل المعرفة المتاحة عن النوافذ العمرية الحرجة لاكتساب بعض المهارات الأساسية على ضرورة مراجعة جذرية لتنشئة الأطفال وتعليمهم، خاصة تعلمهم الذاتي، قبل المدرسة، بل قبل رياض الأطفال. ومن أمثلة الفترات الحرجة لبعض المهارات الأساسية.
* الإبصار: من الميلاد حتى الشهر السادس.
* التطور العاطفي: من الميلاد حتى ثمانية عشر شهرًا.
* الثروة اللغوية والكلام: من الميلاد حتى السنة الثالثة.
* اللغة الأم: من الميلاد حتى السنة الخامسة.
* المنطق والرياضيات: من إتمام السنة الأولى حتى الرابعة.
* الموسيقى: من إتمام السنة الثانية حتى العاشرة.
ونعود الآن إلى مسألة ارتكاب العنف أمام الأطفال الصغار، فمثل هذا السلوك في حضرة طفل في الثانية من العمر مثلاً يقع في الفترة العمرية التي يكون الطفل فيها من أقصى درجات التنبه العقلي للتفاعل مع البيئة، وتشكيل معمار المخ بشأنها، متضمنًا أنماط السلوك، وردود الفعل لها. ومن ثم، فإن السلوك العنيف، في هذه المرحلة من نمو الطفل، يكون أشد وقعًا على الطفل منه في المراحل العمرية التالية، التي قد يراعي فيها الكبار الابتعاد عن تعريض الأطفال للعنف، على أساس أنهم “أصبحوا يفهمون”. والحق أنهم كانوا يفهمون قبل أن يفهم الكبار ذلك.. بكثير! بل الأخطر أن التعرض لهذا السلوك يترك أثرًا أكثر دوامًا على معمار مخ الطفل، عمَّا لو حدث بعد بلوغ الطفل العاشرة مثلاً.
أين كل هذا من التصورات التقليدية عن متى “يفهم” الأطفال، وكيف يتعلمون، وعن التنشئة الاجتماعية بوجه عام؟
تجارب الحياة وتطور المخ
الاستثارة التي يتلقاها المخ في سني الطفولة الأولى من البيئة المحيطة تلعب الدور الأساس في تطور معمار المخ بعد الميلاد، وتأتي هذه الاستثارة أساساً عبر الحواس: الإبصار، والسمع، والشم، واللمس، والتذوق، التي تعلم المخ كيف يستكمل تشييد معماره.
ولنبحث علاقة الاستثارة البيئية بتطور معمار المخ، وبزوغ الموهبة، وصقلها، مع التركيز على الإرشادات التي يتمخض عنها البحث الحديث للمربين، وحيث اكتشف كثير من المعلومات المعروفة الآن من خلال تجارب على حيوانات في معامل، نشير إلى بعض من أهم هذه التجارب.
من أولى التجارب التي أسهمت في فهم أعمق لتطور المخ وعلاقته بالاستثارة البيئية عن طريق الحواس تلك التي أجراها “ويسل” و “هوبل” في السبعينيات.
(تجربة “ويسل” و “هوبل”)، أغلقت إحدى عيني مجموعة من القطط عند ولادتها ثم فتحت بعد أسبوعين من الولادة، ورغم أن العيون كانت، بعد فتحها سليمة تمامًا من الناحية التشريحية فإن القطط لم تتمكن من الرؤية بهذه العيون. وكان في هذا دليل واضح على أن المخ يحتاج إلى استثارة خارجية مناسبة، عن طريق الحواس كما أشرنا، لكي تتطور خلايا المخ وتشابكاتها، للقيام بوظائف معينة. وإن لم تتوافر هذه الاستثارة، في فترات حرجة معينة، فإن الوظائف المعنية لا تتطور. وفي الفترة الحرجة لتطور وظيفة الرؤية لا تتعلم خلايا المخ، وتشابكاتها، التي تخصص عادة لوظيفة الرؤية، هذه الوظيفة إذا لم تتلقَّ الاستثارة الخارجية اللازمة، البصرية في هذه الحالة.
ومن الأهمية بمكان التمعُّن فيما تعنيه نتيجة هذه التجربة لتطور معمار المخ ووظائفه.
أولاً: معمار المخ قابل للتشكل عبر الاستثارة البيئية، وهذا هو المعنى الأساسي للتعلم. والتعلم، بهذا المعنى، إن شئنا، هو غذاء المخ، فالاستثارة الخارجية، عبر الحواس، تشكل المخ إلى حد التأثير في أي من وظائفه تنمو أو لا تتطور أساسًا. ولقد كانت الوظيفة محل الدراسة في التجربة المعروضة هي الرؤية، ولكن المبدأ واحد بالنسبة لوظائف الكلام وغيرها.
ثانياً: السؤال المهم الآن هو ماذا يحدث لخلايا المخ، وتشابكاتها التي لا تتطور لأداء الوظيفة المنوطة بها عادة نتيجة لفقر الاستثارة البيئية؟ الشواهد أن أجزاء المخ هذه إما تتحول لوظائف أخرى تنشطها هي الاستثارة الخارجية، أو تضمر وتذوي. وفي النتيجة الأخيرة تفسير إضافي لما سقناه في المقال الأول من تفسير لتناقص عدد خلايا المخ،، في النصف الثاني من الحمل، والوصلات بينها، بين الثانية والعاشرة من العمر، فالمخ البشري يبدأ، في مراحل مختلفة، مجهزًا بطاقة واسعة من الخلايا، والتشابكات بينها، ولكن معماره النهائي، حول العاشرة من العمر، يتوقف نموًّا وضموراً، على الاستثارة الخارجية التي يتلقاها المخ عبر الحواس.
وفي تجارب مهمة أخرى (تجارب “جرينوه”، جامعة إلينوي، و”ديامون”، جامعة بركلي، كاليفورنيا) عرض الباحثون مجموعة من الفئران لبيئة ملأى بالاستثارة: لعب، وألوان، وألعاب تمرينات، وأقران، وتحديات بينما وضعت مجموعة مقارنة من الفئران في أقفاص عادية خالية من الاستثارة. وعند فحص أمخاخ كلتا المجموعتين، اتضح للباحث أن عدد التشابكات بين خلايا المخ في المجموعة الأولى أضحى أكبر من الثانية بحوالي الربع، وكان فئران المجموعة الأولى أذكى من الثانية بدرجة معنوية، كما ظهر لتغيير مثيرات البيئة دور مهم في ثراء تكوين الوصلات بين خلايا المخ، حيث كان عدم تغيير المثيرات البيئية يؤدي إلى ضمور الوصلات التي تتكون بين خلايا المخ.
وقد أظهر باحثون آخرون النتائج نفسها في حالة الآدميين، فقد أجرى كريج رامي من جامعة ألاباما، تجربة بدأت بأطفال صغار (بدءاً من سن ستة أسابيع) أظهرت أنه يمكن استنقاذ أطفال فقراء من تدني الذكاء والتخلف الذهني من خلال تعريضهم لبرنامج يحوي خبرات غنية تستثير بناء معمار المخ وترقية وظائفه. وبعد ثلاث سنوات من بدء التجربة مثلاً، كانت نسبة ذكاء الأطفال الذين أُغنوا من خلال التجربة عادية، وأعلى بدرجة معنوية من أقرانهم في الأحياء الفقيرة الذين لم يستفيدوا من مثل هذا البرنامج. وعند بلوغ الثانية عشرة من العمر، كان معدل إعادة الصفوف الدراسية أقل جوهريًّا في المجموعة المغناة عن أقرانهم.
الدفء والتلامس لنمو وتطور طبيعي للمخ
ظهر في تجارب معملية “شانبرج” و “فيلد” أن الفئران حديثي الولادة الذين يفصلون من أمهاتهم يتوقفون عن النمو على الرغم من وجود غذاء، واكتشف الباحثون أن العامل الحاسم في ذلك التوقف عن التغذي هو توقف لحس الأمهات للفئران الصغار؛ حيث كان ذلك السلوك الحاني من قبل الأمهات ينقل للفئران الصغار الإحساس بأن كل شيء على ما يرام، ويصدر المخ توجيهاته بمزاولة الحياة بطريقة عادية. أما في حالة توقف اللحس،، أي بُعْد الأمهات، يتعامل المخ مع الوضع على أنه حالة أزمة لا تسمح بمزاولة الحياة بصورة عادية، وبطول فترة توقف لحس الأمهات، يبدأ الفئران الصغار في الضمور، كذلك تبين أن الفئران الصغار تعود إلى التغذي والحياة الطبيعية عند عودة الأمهات إلى لحسهم أو عند تحسس الباحثين لهم بفرشاة رسم مبتلة، وكأنها لسان الأم.
وقد ترتب على هذه التجربة تطبيق مهم في حالة الآدميين، فقد لاحظ الباحثان أن الأطفال المبتسرين (من يولدون قبل تمام الحمل) الذين يوضعون في حضَّانات، ويحظر لمسهم، لا ينمون بسرعة. واهتديا إلى فكرة احتضان هؤلاء الأطفال والتمسيد على أجسادهم كما يحدث للأطفال حديثي الولادة العاديين.. وبالفعل تبين من التجربة أن الأطفال المبتسرين الذين تعرضوا للاحتضان والتمسيد قد قلَّت لديهم هرمونات القلق وزاد معدل نموهم لحوالي الضعف.
وقد امتدت هذه التجارب لتوضح أن التمسيد يفيد جميع الأطفال جسديًّا ووجدانيًّا (نرجو أن نتعرض في مقال تالٍ لمفهوم الذكاء الوجداني، وهو من أهم مفاهيم الذكاء حاليًا).
المخ إذًا قابل للتشكل، والنماء، من خلال التعلم، أو الاستثارة من البيئة.
ومن ناحية أخرى أخطر يتبين أن المخ يمكن أن يتعرض للضرر بسبب فقر التعلم، أو الاستثارة من البيئة.
في إحدى الدراسات المهمة (داوسون”، جامعة واشنجتون) تبين أن أطفال النساء اللاتي يعانين من الاكتئاب يقاسين من نقص في نشاط النصف الأيسر الأمامي من المخ، وهو مرتبط بمشاعر البهجة والمرح وحب الاستطلاع. وعند بلوغ الثالثة من العمر، يبدي هؤلاء الأطفال مشاكل سلوكية واضحة. ولكن تبين أيضاً أن الأمهات اللاتي يتغلبن على الاكتئاب قبل بلوغ أطفالهن الثالثة من العمر، أو ينجحن، رغم الاكتئاب، في إضفاء عناية محبة عادية على أطفالهم، يتغلب الأطفال، بيسر، على المشاكل التي عانوا منها من قبل. وفي هذا دليل آخر على قدرة المخ الهائلة على التغلب على الصعاب التي تواجه مخ الأطفال الصغار بسبب فقر الاستثارة البيئية، إذا تحسنت الظروف المحيطة بهم.
لقد صار معروفاً الآن أن التخلف الذهني ينتج عن الفشل في إمداد المخ بالخبرات البيئية الثرية التي يحتاجها للنمو.
ولكنْ معروف أيضاً أن قدرة المخ الهائلة على التشكل، خاصة قبل بلوغ العاشرة من العمر، تتيح السبيل لتفادي هذه النتائج الوخيمة إذا ما توافرت البيئة المثرية للمخ، في التربية قبل المدرسية، كما أشرنا أعلاه. بل إن هذه القدرة تُنير السبيل أيضاً إلى علاج الضرر الذي يتعرض له المخ في مقتبل العمر، لأسباب بيئية أو حتى عضوية.
ففي حالة مشهورة، استأصل الأطباء نصف المخ الأيسر للطفل “أوستن رونسلي”، من كاليفورنيا بالولايات المتحدة، وعمره أقل من عامين لعلاجه من حالة من الصرع العنيف، ومع ذلك فقد أمكن بالمثابرة، وبإغناء بيئته بالمحبة والخبرات المثرية أن يصبح طفلاً عاديًّا تقريباً بحلول الخامسة من العمر، بحيث يمكن القول بأن المخ قد أعاد بناء معماره، رغم الفقد التشريحي، من خلال ثراء الاستثارة البيئية.
نصائح للمربين
ونتحول الآن لإيراد مجموعة من النصائح المحددة للمربين بشأن الاستثارة السليمة اللازمة لحفز تبلور المهارات الأساسية التي أوردنا الفترات الحرجة لتطورها قرب نهاية المقال السابق، والتي ربما بدا بعضها غاية في القصر لبعض القراء (الأمر الذي يفرض في حد ذاته الاهتمام باغتنام هذه النوافذ الزمنية القصيرة من خلال الاستثارة الخارجية السليمة). ويلاحظ أن كلاًّ من هذه المهارات الأساسية يشكل أساساً لمهارات، ومواهب أرقى.
الإبصار: تتطور الرؤية في معظم الأطفال بدون حاجة لمساعدة خارجية، ولكن لتقوية الرؤية لدى الأطفال، تمهيداً لتقوية ما يترتب عليها من مهارات أعلى، ينبغي على المربين حمل الأطفال بحيث ينفسح مجال الرؤية أمامهم فسيحًا، وتتاح لهم الفرصة لمشاهدة أشياء كثيرة ومتنوعة. ويتعين كذلك إعطاء الأطفال أشياء مشوقة، متعددة الأشكال والألوان عند تركهم وحدهم (مثل الأشكال شديدة التباين التي كانت في هدية العدد السابق من “خطوة”).
الثروة اللغوية/الكلام – اللغة الأم: ينبغي التحدث مع الأطفال، بعبارات سليمة قدر الإمكان، والقراءة لهم دائماً، بغض النظر عمَّا إذا كان المربي يرى أنهم يفهمون أو لا يفهمون، فالأطفال، حتى حديثي الولاة – وعند البعض أيضاً وهم ما زالوا في الرحم – يحللون تراكيب الكلام، ويتمثلونها، قبل أن ينطقوا أو يفهموا بالكامل.
اللغات الأخرى: عند الولادة يكون الأطفال مهيئين للتحدث بأية لغة، ولكن في خلال عدة شهور تقوى وصلات خلايا المخ التي تمكنهم من استيعاب وصنع الأصوات التي تكون اللغة الأم التي تصلهم من البيئة المحيطة، وفي الوقت نفسه تضعف الوصلات الخاصة بالأصوات التي لا تتردد في كلام البيئة المحيطة، وقد يكون بعضها جوهريًّا للغات الأخرى. ويدل البحث الحديث على أن عدم بناء الوصلات اللازمة لأصوات لغة ما قبل الخامسة من العمر، يعني صعوبة أن يتمكن الشخص من التحدث بهذه اللغة دون لكنة. وعلى هذا، خلافاً للحكمة التربوية التقليدية، فإن التعرض للغات الأجنبية مبكراً، وبأشكال متنوعة، يساعد على تقوية فرصة إتقانها والتحدث بها بطلاقة.
التطور العاطفي: تساعد البيئة المُحِبَّة الحانية على بناء وصلات خلايا المخ التي تشجع الاستقرار العاطفي، بينما يؤدي التعرض المتكرر للقلق والضغوط والنفسانية إلى بناء وصلات بين خلايا المخ تقوى مشاعر الخوف والعدوانية. ومن المهم، للمساعدة على بناء الاستقرار العاطفي للأطفال، الاستجابة السريعة، والمحبة بدفء، خاصة عندما يبكون – فالبكاء أحد أشكال التعبير عند الأطفال، والأهم هو تفادي الاستجابة المتكررة لتصرفات الأطفال بإحباط ونفاد صبر.
المنطق/ الرياضيات: المخ عند الأطفال الصغار أوفر استعدادًا لاستيعاب “مفاهيم” المنطق والرياضيات – مثل الفرق بين القلة والكثرة ومفاهيم التصنيف والعلاقات (التناظر) – أكثر من “الحقائق”؛ ولهذا فمن المفيد جدًّا اغتنام الفرص لشرح مثل هذه المفاهيم في مواقف عملية مشوقة مثل فصل الملابس البيضاء عن الملونة قبل الغسيل، ووضع شوكة أو ملعقة بجوار كل طبق عند ترتيب المائدة.
وإذا كان غياب الاستثارة (الملل) مدمرًا لوصلات المخ، فإن الاستثارة الزائدة عن الحد ترهق خلايا المخ ووصلاته وتضعفها.
الاستثارة السليمة للمخ إذًا ليست مجال لعب أو تجريب، بل هي مسألة معقدة وباهظة الثمن إذا أهملناها، والاستثارة السليمة للمخ هي في الأساس علاقة حب وعاطفة تفاعل مثرية بين الطفل ووالديه أولاً، أو بينه وبين من يقومون على رعايته تربويًّا بشكل أساسي حتى تكاد تنشأ بينه وبينهم علاقة عاطفية قوية تقترب من الأمومة أو الأبوة (ولذلك فمن المهم ألا يتعدد هؤلاء كثيراً أو يتغيرون بسرعة).
نادر عبد المقصود
([i]) “العقل” في اللغة هو “ما يكون به التفكير والاستدلال”. أما “الدماغ” فيعني “حوش الرأس من أعصاب ونحوها، وفيه المخ والمخيخ و…”، و”المخ” هو “معظم المادة العصبية في الرأس، أو هو الدماغ كله إلا المخيخ والقنطرة والبصلة” (المعجم الوجيز، مجمع اللغة العربية، القاهرة). واللفظ الأقرب لموضوعنا هنا هو “الدماغ”. غير أن “المخ” أكثر تداولاً ففضلناه.
([ii]) وقد تسارعت نتائجها، على صورة طفرة واضحة، في عقد التسعينيات.
([iii]) البليون يساوي ألف مليون (واحد أمامه تسعة أصفار) والتريليون يساوي مليون مليون، أي واحد أمامه اثني عشر صفرًا.