يقدم لنا العلم الصحيح أدلة عديدة على وجود الله ووحدانيته، ويقف بقوة مع دعوة الدين إلى إعمال العقل بعيدًا عن كل ضروب الهوى والتعصب لكشف حقائق الوجود، والاهتداء إلى الإيمان الخالص بالخالق الواحد سبحانه وتعالى على هدى وبصيرة، إذ ليس من المعقول فيما يزعم الملحدون، أن تمنح الطبيعة الجامدة نفسها قبس الحياة، أو أن تحكم المصادفة حركة الكون، ومن المستحيل أيضًا أن تتكرر المصادفة لتتخذ شكل ظاهرة عامة تسري على ملايين الكائنات والظواهر في السماء والأرض. فما هي دلائل التوحيد في طواف الكائنات يا ترى؟
منطق التوحيد في الفكر العلمي
من أبسط القضايا العلمية التي توضح منطق التوحيد في الفكر العلمي وأثره الواضح في تطور العلم، العلاقة المتبادلة بين المادة والطاقة باعتبارهما أساس الكون المادي. ولقد تمكن العالم الفيزيائي “أينشتين” من إثبات التكافؤ بين المادة والطاقة وحقق بذلك إنجازًا علميًا هائلاً يتمثل في اعتبار المادة طاقة حبيسة، فالمادة التي نراها بأعيننا ونمسكها بأيدينا تشغل في هذا الكون مكانًا أو حيزًا، لكنها قد تتخلى عن صفات التحيز والتجسيد هذه وتتحرر من قيودها وتحديد مكانها بحيز معين في الفراغ وتنطلق على هيئة طاقة، أو موجات تتحدى قيود المكان والزمان. وكان إنتاج الطاقة النووية وصناعة القنبلة النووية من ثمار هذا الاكتشاف الكبير.
كذلك نجح العلماء في القيام بالعملية العكسية، أي تجسيد الطاقة وتحويلها إلى مادة. وبهذا أمكن إثبات التوحد والاندماج والتكافؤ بين المادة والطاقة، وتحقق العلماء من صحة العلاقة الرياضية التي تعبر عن علاقة التحول بينهما. أما الطاقة نفسها فتوجد في صور عدة: حرارية وميكانيكية وصوتية وضوئية وكهربية ومغناطيسية. لكنها في أي من هذه الصور يمكن أن تتحول إلى صورة أخرى.
وحدة الزمان والمكان
اقتضى منطق التوحيد في الفكر العلمي أن يغير الإنسان من نظرته القديمة لكل من الزمان والمكان (الحيز أو الفضاء) باعتبارهما مستقلين عن بعضهما. وهذه من عجائب العلم الحديث التي يحتاج فهمها واستيعابها إلى نوع من التدريب العقلي، ربما لم يسبق لنا مزاولته، حيث يجب أن نتجرد بعض الشيء من طريقة التفكير التقليدية التي تعودنا عليها. بل إن “أينشتين” نفسه، صاحب هذه الفكرة، وجد صعوبة بالغة في التعبير عنها باللغة العادية المألوفة، وكان عسيرًا عليه أن يقنع الناس بما توصل إليه خياله العلمي من فهم أعمق لحقائق الأشياء، لكن تطور المعرفة العلمية كان كفيلاً بأن يسمح للعقول تدريجيًا أن تتقبل طريقة التفكير الجديدة وتتلمس الحقيقة العلمية من خلال الوقائع المشاهدة في الحياة اليومية.
والغرض من هذا الإيضاح هو التمهيد لقبول فكرة التوحيد بين الزمان والمكان في نسق واحد ضروري لتفسير الظواهر الكونية. وهذا يعني أننا إذا كنا نحدد الحيز أو الفراغ عادة، مثل حيز الغرفة أو الحيز الذي يشغله صندوق بأبعاد ثلاثة هي الطول والعرض والارتفاع، فإنه لا بد من اعتبار الزمن كبعد رابع. وعلى ذلك فالجسم الساكن في عرف الرأي القديم الذي يتعامل مع الكون ثلاثي الأبعاد، يكون متحركًا حسب النظرية العلمية الجديدة على محور رابع هو الزمن الممتد من الماضي والمار بالحاضر إلى المستقبل، أي أن هذا الجسم يكون ساكنًا في الفضاء ولكنه متحرك على محور الزمن. وهكذا يلتئم الزمان مع المكان في وحدة اندماجية بحيث لا ينبغي الفصل بينهما، تمامًا مثلما تم التوحيد بين المادة والطاقة.
ومهما تكن صعوبة هذا التصور على الفهم بسرعة، فإن الأخذ به ساعد على تطوير النظريات العلمية القديمة، وظهرت تجارب هامة تؤكد سلامته.
كذلك استطاع “أينشتين” أن يتوصل إلى نظرية شاملة تبين لنا أن الكون يظهر بمجال واحد وقوانين واحدة تنطبق على كل شيء فيه، سواء كان هذا الشيء إلكترونًا دقيقًا، أو كوكبًا كبيرًا، أو شعاعًا ضوئيًا سريعًا. أما الحياة في جميع صورها فإنها تنتفع بالمادة والطاقة معًا، وتتوقف عليهما، وهذه وحدة تجمع الحياة والمادة والطاقة في إطار متكامل، متصل ومتواصل، يؤلف بين الكثرة مهما كانت درجة تنوعها.
طواف الكائنات
إن جميع المخلوقات والكائنات في هذا الكون على اختلاف أنواعها وأحكامها ونواميسها تجمع بينها مهمة التسخير للإنسان من قبل الله تعالى، ويوحد بينها أنها مقدرة بمشيئة الخالق الواحد. قال تعالى: “وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون” سورة الجاثية: آية 13.
وكلمة “التسخير” من أقوى التعابير في الدلالة على التذليل للخدمة المستمرة الدائبة، وخير دليل على هذا التسخير ذلك النظام الكوني المعجز الذي تعتمد الحركة فيه على الدوران حول مركز معين. فقد توصل العلم الحديث إلى أن الأرض التي نعيش عليها تدور في فلك خاص بها حول الشمس مرة كل عام. والقمر يدور في فلك خاص به حول الأرض مرة كل شهر عربي، كما أن الكواكب الأخرى تدور في أفلاك خاصة بها حول الشمس، ومعظم هذه الكواكب لها أقمار تدور حولها.
والمجموعة الشمسية التي ينتمي إليها كوكب الأرض تدور حول مركز مجرة “درب التبانة” أو “الطريق اللبني” الذي يحتشد فيه حوالي 130 بليون نجم، وهذه المجرة تدور بدورها حول مركز لم يحدده العلم بعد. أي أننا نعيش في كون لانهائي تعتمد الحركة فيه على الدوران الذي هو أشبه بالطواف، وكأننا بهذا نلفت الأنظار إلى ناموس كوني وسنة عامة تتجلى في الخلق كله.
ومن دلائل التوحيد في طواف الكائنات أيضا، وإذا انتقلنا إلى عالم الذرة، فإن العلم الحديث قد أثبت أنها تتكون من نواة تحمل شحنة كهربية موجبة وإلكترونات تحمل شحنة سالبة، ونظرًا للجذب الكهربي بينهما، فإن خالق الخلق وفاطر الفطرة قضى للمادة بالوجود على أساس اتزان حركة الإلكترونات في مدارات خاصة حول نواة الذرة. وبهذا فإن جميع ذرات المواد في هذا الكون تعمل فيها ظاهرة الطواف، يدخل في ذلك جميع الذرات التي تؤلف أجسامنا وطعامنا وشرابنا والهواء الذي نستنشقه، وكل كائن حي من نبات أو حيوان، وكل شيء مادي على الأرض من جبال أو بحار ورمال، أو في السماء من نجوم وكواكب وأقمار، أو بين السماوات من غازات ونيازك وشهب ومذنبات. قال تعالى: “وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون” سورة الأنبياء: آية 33.
ولا يتخلف عالم الأحياء عن هذه السنة الكونية التي تدل على وحدة الكون ووحدانية الخالق، فقد كشف العلم الحديث من خلال تقنية المجاهر (الميكروسكوبات) أن “السيتوبلازم” في الخلية الحية يدور أو يطوف حول نواتها.
وهكذا يتعدد الطائفون، سواء في حالة الإلكترونات حول نواة الذرة أو الكواكب حول الشمس أو الأقمار حول الكواكب مراكز المجرات، أو المجرات حول مركز كوني لا نعرفه، فالكل يسبح ويطوف مصداقًا لقوله تعالى: “كل في فلك يسبحون.
وتتوجه بنا الفطرة المؤمنة إلى صورة أخرى من صور الطواف جعلها الله تعالى من أهم مميزات الإسلام، وهو الطواف حول الكعبة المشرفة الذي يعتبر من أهم شعائر الحج والعمرة. وهذه من أعظم دلائل التوحيد في طواف الكائنات.
والطواف حول الكعبة المشرفة أمر تعبدي لا يدرك البعض حكمته، لكنه -طبقًا لحقائق العلم الحديث عن طواف التسخير- يرمز إلى سر عظيم من أسرار الكون يقوم على شهادة التوحيد الخالص، تلبية للنداء الإلهي الذي أمر إبراهيم الخليل أن يؤذن في الناس بالحج مصداقًا لقوله تعالى: “وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئًا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود. وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق” سورة الحج: الآيتان 26، 27.
فكأن الكعبة المشرفة مركز للجاذبية الروحية التي ينبغي أن تكون بين العبد المؤمن وبيت الله العتيق، هذا البيت الذي يستقبله المسلمون ويتجهون إليه في صلاتهم خمس مرات على الأقل كل يوم وهم بعيدون عنه. وهذه الجاذبية الروحية هي القوة الخفية التي تجعل كل قادم يطوف حول الكعبة بمجرد الوصول إليها، تمامًا مثلما يطوف أي جِرم سماوي بمجرد وقوعه في أسر جاذبية جِرم آخر أكبر منه.
وتدل هذه الرؤية الإيمانية الشاملة على أن الطواف سلوك كوني يشير إلى مظاهر الوحدة والتماثل بين التكاليف الشرعية والظواهر الكونية. ومن دلائل التوحيد في طواف الكائنات كان شعار التلبية في الحج أثناء الطواف حول الكعبة هو النداء التوحيدي “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك”.
وهكذا فإن الكشوف العلمية الصحيحة التي يتوصل إليها الباحثون تدل بما لا يدع مجالاً للشك على أن الدين الإسلامي الحنيف يقدم للإنسان الرؤية الصائبة لحقائق الكون والوجود، وهي رؤية تنسجم مع حقيقة الوجود الإلهي المهيمن على نواميس الكون. ومن هنا فإن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله يجب أن تُفهم عقلاً قبل نطقها باللسان في إطارها الشامل من الفكر التوحيدي الذي يجمع بين وحدة المادة والطاقة بردها إلى أصل واحد وإن تعددت صورها، وبين وحدة النظام في بناء الذرة وبناء المجموعة الشمسية، وبين وحدة الحركة في طواف الإلكترونات حول النواة، وطواف الأقمار حول الكواكب، وطواف الكواكب حول الشمس، وطواف السيتوبلازم حول نواة الخلية، وطواف المسلمين حول الكعبة المشرفة.
فتبارك الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل.
أ. أحمد فؤاد باشا