طبعة جديدة من كتاب الشاعرة والناقدة الرائدة نازك الملائكة “سيكولوجية الشعر ومقالات أخرى” ، بعد أكثر من عشرين عامًا من صدور الطبعة الأولى في بيروت عام 1979م.

ولأن ما تثيره “نازك الملائكة” في هذا الكتاب، يُعَدُّ ساري المفعول حتى الآن، فإن طبعته الثانية تُعَدُّ طبعة أولى، فحديث “نازك” لا يزال مطروحًا على الساحة الأدبية، والقضايا التي تثيرها لا تزال طازجة، والكتاب بأبوابه الأربعة لا يزال قابلاً للعرض والطرح والنقاش، خاصة أن هناك أجيالاً شعرية جديدة نَمَت وتَرَعْرَعت في السنوات السابقة، وربما لم يُتَح للكثيرين منهم قراءة كتاب “نازك” في طبعته الأولى الذي يكاد يكون الجزء الثاني من كتابها المهم “قضايا الشعر المعاصر”، وهي تؤكد ذلك بقولها في المقدمة: “يكاد كتابي هذا يكون الجزء الثاني من كتابي “قضايا الشعر المعاصر”؛ لأنني أتناول فيه بقية القضايا التي لم تَرِد في الكتاب الأول”.

صدر الكتاب في طبعته الجديدة عن سلسلة “كتابات نقدية” التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر، وأخذ رقم 98 في هذه السلسلة الشعبية التي يرأس تحريرها الناقد الدكتور مجدي توفيق، ووقع في (382 صفحة)، وتعرضت الشاعرة في الفصل الأول إلى الجانب السيكولوجي من الشعر، فتحدثت عن الشاعر واللغة، والقافية في الشعر العربي الحديث، وسيكولوجية القافية، وسيكولوجية القصيدة المُدَوَّرَة.

وعن الشاعر واللغة ترى نازك الملائكة أن الشاعر لا بد أن يُوَثِّق صلته باللغة وقوانينها بحيث تصبح مَلَكَة اللغة فطرة في نفسه يغرف منها بلا انتهاء، فيبدع الصور والموسيقى، ويأتي بأروع الأنغام دون أن يخرج على أسس اللغة وقواعدها. وبهذا تَرُدُّ “نازك” على شائعة انتشرت بين أدباء الوطن العربي – وقت تأليف الكتاب وأعتقد أنها ما زالت منتشرة حتى الآن – مضمونها أن الغلط في قواعد النحو واللغة مباح كل الإباحة في الشعر.

وعن القافية في الشعر العربي الحديث، تدعو الشاعرة – بل تتمنى – أن يتمسك الشاعر المعاصر بالقافية ولا يتفلت منها؛ لأنها جزء أساسي من موسيقى الشعر لا يصح الاستغناء عنه. وفي هذا الفصل رصدت “نازك” بعض محاولات الخروج على القافية الموحدة بدأت منذ العصر الجاهلي، حيث نسب إلى امرئ القيس نوع من أنواع الموشح سَمُّوه “المُسْمَط” كان فيه خروج مبكر على نظام القافية الموحدة.

ويُعَدُّ حديث المؤلفة عن سيكولوجية القافية من أهم فصول الكتاب؛ حيث ترى أن تقفية القصيدة مطلب سيكولوجي فني مُلِحّ، وتتحدث في هذا عن تسعة عوامل مهمة تجعل من القافية تلك الضرورة التي لا سبيل إلى أن يستغني عنها الشعر. ومن أهم هذه العوامل: أن القافية تُقَوِّي بصيرة الشاعر تَقْوِية عجيبة، وتفتح له الأبواب المغلقة الغامضة، وتقوده في دروب خلابة تموج بالحياة، وأنها تفتح كنوز المعاني الخفية، بل إنها تُنْبِتُ الأفكار، وتغير اتجاه القصيدة إلى مجالات خصبة مفاجئة، وأن القافية وسيلة أمان واستقرار لمن يقرأ القصيدة، ووجودها يُشعر بوجود نظام في ذهن الشاعر وبتنسيق الفكر لديه ووضوح الرؤية، وقوة التجربة.

وهي في كل ذلك تأتي بنماذج شعرية تُدلِّل بها على رأيها وتقنع بها قارئها. وعلى سبيل المثال عندما تتحدث عن أثر القافية في شعر النضال والمقاومة تأتي بنموذج من شعر نزار قباني يقول فيه:

يا آلَ إسرائيل لا يَأْخُذْكُمُ الغُرور

عقارب الساعات إن توقفت لا بد أن تدور

إن اغتصاب الأرض لا يُخِيْفُنا

فالريش قد يسقط عن أجنحة النسور

والعطش الطويل لا يخيفنا

فالماء يبقى دائمًا في باطن الصخور

هنا ترى نازك الملائكة أن ترادف القافية يعطي إحساسًا بأن الشاعر مجهز بعزيمة صلبة لا تلين، فالقافية قتال ومصاولة، وهي تنزل على السمع نزول الرعود، وكل قافية قنبلة تنفجر في آخر الشطر.

وفي ختامها لهذا الفصل تذهب إلى القول: إن الشاعر المبدع هو الذي يُلْهِمُهُ حِسُّه الفني المواضع التي يتخلى فيها عن القافية والمواضع التي يلتزم بها فيها. وإن القافية ليست مجرد كلمات عابرة موحدة تُرْوى، وإنما هي حياة كاملة.

هذا عن أثر القافية وأهميتها في الشعر الحديث، فما بالنا إذن بالشعر المُدَوَّر أو بالقصيدة المُدَوَّرَة التي لا يظهر فيها أثر للقافية أو التي تُعَدُّ ثورة على القافية، فالتدوير والتقفية أمران متعارضان لا يمكن أن يجتمعا. وقد ظهر التدوير في الشعر العربي منذ عام 1953م، وأصبح الشاعر يوقع نفسه في هذا التدوير. وعلى الرغم من أن “نازك” لا ترتاح للقصيدة المدورة، فإنها ترى أن انتشار هذه القصيدة أمر يمتلك دلالات اجتماعية وسياسية معينة، فهو يشير إلى أن الشاعر الحديث يُحِسُّ بأنه مسلوب الإرادة تحت ظل موقف تسيطر فيه الإمبريالية التي تعترف بعدوتنا إسرائيل وتؤمن بما تسميه حقها في البقاء، وأن القافية التي هي عنصر القوة والقتال في القصيدة قد كسرها التدوير وطردها خارج مملكته. ولا أحسب أن “نازك” قد وضعت يدها على السبب الحقيقي للجوء الشاعر المعاصر إلى التدوير المستمر في قصيدته. ذلك أن هناك شعراء يكتبون القصيدة المدورة بعيدًا تمامًا عن الإمبريالية وإسرائيل وما إلى ذلك. وأعتقد أن الشاعر المعاصر قد يلجأ إلى التدوير بسبب لهاثه في الحياة، فكما يلهث الشاعر المعاصر في ذلك العصر سريع الإيقاع، يلجأ إلى اللهاث أيضًا في قصيدته تعبيرًا عن لهاثه الخارجي، فيمزج الخارجي بالداخلي أثناء إبداعه لقصيدته. وهو في لهاثه هذا يقوم بوصل همزة القطع، ويُكثر من الجمل الاسمية، إلى آخر تقنيات القصيدة المدورة. وعمومًا فقد بدأ يخفت صوت القصيدة المدورة الآن، ولم يَعُدْ يجد قبولاً حسنًا لدى القارئ أو السامع، وبدأ يعود الشاعر المعاصر تدريجيًّا إلى التقفية من جديد.

وفي الفصل الأول من الباب الثاني توجه الشاعرة رسالة إلى الشعراء الناشئين الذين كتبوا إليها يسألونها كلمة توجيه ونصح تعينهم على درب القوافي. أما الفصل الثاني فكان بعنوان “الإبرة والقصيدة” وهو عبارة عن قصيدة حوارية بين الشاعرة “هدى” التي نسيت إبرة على المكتب وانساقت وراء القصيدة الجديدة، وزوجها “نبيل” الذي لم يقبل في البداية عذرها عن النسيان، فيقول لها: إن النسيان نقيصة في الإنسان، وكل نقيصة لا يصح أن تُقَدَّم على أنها عذر. ولكن بعد أن أفاضت الشاعرة في الدفاع عن المعاناة الشعرية والأشواك التي تسير عليها إلى أن تبدع القصيدة، يقتنع زوجها بمبرراتها ويطلب منها سماع القصيدة الجديدة. وهي عمومًا حوارية لطيفة تفجر السؤال الأزلي: كيف نبدع ؟!

وتأخذ “نازك الملائكة” في فصل تالٍ دور المدافع عن شعرها، فتقوم بالرد على الباحث عبد الجبار داود البصري الذي ينقد قصيدتها “أغنية لطفلي”، ويكشف هذا الفصل عن أن “نازك” كتبت شعرًا للأطفال مثلها في ذلك مثل فَدْوى طوقان وغيرها من شواعرنا العربيات.

ثم تتعرض في الباب الثالث إلى بعض الجوانب العروضية، فتتحدث عن الخليل والدوائر الشعرية مُسْتَبْعِدَة الأصول غير المألوفة لبحور الشعر العربي المألوفة، فتقول: “إن علينا اليوم أن نستعمل البحور على أساس الوزن العربي الموجود القائم الذي استعمله شعراؤنا في كل عصورهم دون أن نفترض لكل بحر مألوف أصلاً غير مألوف، فذلك ما لا نفع له، وإنما هو شيء يقرب من التعجيز للشعراء والنقاد وطلاب العروض”. ثم تخوض بعد ذلك حديثًا عروضيًّا في مسرحية شوقي “مصرع كليوباترا” تحصر فيه أخطاء القافية التي وقع فيها شوقي.

وفي الباب الأخير – وهو بعنوان “في النقد التطبيقي للشعر” – تجلس الشاعرة في مقعد النقد، فتتناول بالنقد والدراسة والتحليل موضوع الحب والموت في شعر ابن الفارض، ثم تتوقف طويلاً عند شعر إيليا أبي ماضي، فتخصه بفصلين، الأول ملامح عامة في شعره، والثاني كان عن ديوانه “الجداول”، وتخرج من هذين الفصلين بنتيجة مؤداها أن إيليا أبي ماضي فتح نمطًا جديدًا يضعه في مكان مقابل مكان شوقي في فضله على بعث الحياة في الشعر، فإذا كان شوقي هو خالق الغنائية المبدعة في شعرنا المعاصر، فإن إيليا بحق صانع الاتجاه الحديث كله “فهو الشاعر المجدد الذي قدم في شعره وجهة نظر جديدة تحدد علاقات لم تؤلف سابقًا بين القصيدة والشاعر من جهة، والقصيدة والعصر كله من جهة أخرى”.

أحمد فضل شبلول