كيف تم تحول “الأربطة” إلى منشآت لرعاية المرأة في الحضارة الإسلامية؟ وقبل ذلك ماهي الأربطة في التاريخ الإسلامي؟ الأربطة منشآت تاريخية كانت تستخدم للدفاع عن الثغور الإسلامية في مواجهة أي اعتداءات من قبل الأعداء. وما زال إلى اليوم بتونس اثنان من هذه الأربطة : الأول رباط المنستير الذي شيده هرنمة بن أعين سنة 180هـ/ 796م، وورد في المصادر التاريخية أنه كان يجاوره رباط للنساء أيضًا- ولأول مرة يقابلنا نصوص تاريخية تشير إلى مشاركة المرأة في المرابطة للذود عن ديار المسلمين– والرباط الثاني: هو رباط سوسة.

و للحديث عن تحول “الأربطة” إلى منشآت لرعاية المرأة في الحضارة الإسلامية، نقول أن وظيفة الأربطة تغيرت مع توقف الحروب وصارت لها وظائف متعددة. لعل أبرزها الرعاية الاجتماعية للنساء، أي تحولها من أربطة إلى ما يشبه الأوقاف؛ فقد وُجدت أربطة خاصة بالنساء كانت ملاذًا ومقامًا للسيدات والأرامل والمطلقات والمسنات ممن لا عائل لهن ومن قعد بهن الزمن، يوفر لهن حياة كريمة شريفة من إقامة ومأكل وملبس ومشرب صيانة لهن من الانحراف، مع مواظبتهن على العبادات وتوفير الرعاية والإشراف الدائم. تقيم إحداهن بالرباط إلى أن تتزوج أو تعود إلى زوجها أو يقضي الله أمرًا كان مفعولا، وهو سبق لا مراء فيه للحضارة الإسلامية في مجال الرعاية الاجتماعية. وقد انتشرت هذه الأربطة في المدن الإسلامية. فقد أوقف الخليفة العباسي المستعصم بالله دار الشط المجاورة لدار الملك ببغداد سنة 652هـ رباطًا للنساء المحتاجات وجعل مشيخته للشريفة أنّة المهتدي بالله وهي التي كانت تتولى تعليمهن وإرشادهن.

وفي دمشق أنشأت السيدة فاطمة الأيوبية سنة 650هـ/ 1252م رباطًا للنساء الفقيرات وكتبت فوق بابه “وقفت هذه الخانكاه الرباط فاطمة بنت الملك العادل محمد بن الكامل بن أبي بكر بن أيوب على المقيمات بها وإظهارًا للصلوات الخمس والمبيت فيها”.

وزخرت مدينة فاس بالعديد من الأربطة الخاصة برعاية النساء حتى نستطيع أن نعتبرها أهم المدن الإسلامية في مجال منشآت الرعاية الاجتماعية. ونظرًا لقلة المعلومات المتوفرة عن أربطة فاس، وعدم اهتمام الباحثين المغاربة بنشر أبحاثهم عن تراثهم بالعربية فهم يفضلون نشرها بالفرنسية في دوريات لا تتوفر في مشرق العالم العربي، لذا سنتوجه إلى مصر لدراسة أربطة النساء بها.

انتشرت أربطة النساء في مدينتي القاهرة والفسطاط. ويذكر المقريزي مؤرخ مصر الإسلامية عن هذه الأربطة : أنها كانت دورًا يطلق على كل منها رباط، وأنها على هيئة ما كانت عليه بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. ويكون فيها العجائز والأرامل والعابدات، وكانت لها الجرايات. ومن أشهر أربطة القاهرة والفسطاط التي ذكرها المؤرخون، والتي كانت مخصصة للنساء:

  • رباط الأشراف: أنشأه أبو بكر محمد بن علي المارداني وأوقفه على نساء الأشراف المنكوبات من اللواتي أعوزهن النصير وقعد بهن الحظ وشرط أن تكون في الرباط شيخة عالمة تقية جليلة تشرف على من فيه وتتولى أمورهن ؛ فتخفف من بؤسهن وترشدهن وتعلمهن وتفقهن في الدين.
  • رباط الأندلس: أنشأته السيدة علم الآمرية عام 526هـ/ 1122م. لإيواء العجائز والأرامل والمنقطعات، وخصصت لهن ما يكفيهن وجددت لهن بجانبه مسجد الفتح، وكان الرباط يقع غربي هذا المسجد. الذي كان يعرف بمسجد الأندلس، وفي عام 754هـ بنى الحاجب لؤلؤ العادلي برحبة الأندلس والرباط بستانًا وأحواضًا ومقعدًا وجمع بين مُصلَّى الأندلس والرباط بحائط بينهما.
  • رباط البغدادية: أنشأته السيدة الجليلة تذكار باي خاتون ابنة الملك الظاهر بيبرس سنة 648هـ/ 1285م بداخل الدرب الأصفر بالقاهرة. وقد أوقفته على الشيخة الصالحة زينب ابنة أبي البركات المعروفة ببنت البغدادية ، فأنزلتها به ومعها مجموعة من النساء الخيرات يساعدنها في إدارته، وكانت عالمة زاهدة قانعة خيّرة تعظ النساء وتفقهن، وصارت كل من قامت بعدها بمشيخة هذا الرباط يُطلق عليها اسم البغدادية، وقد أدرك المقريزي هذا الرباط عامرًا وأدرك به إحدى المرشدات وهي الشيخة الصالحة سيدة نساء زمانها “أم زينب فاطمة بنت عباس البغدادية ” تُوفيت وقد أنافت على الثمانين، وكانت فقيهة وافرة العلم، زاهدة قانعة عابدة، وكان لها قبول زائد ووقع حسن في النفوس.

وكان هذا الرباط موقوفًا على النساء المطلقات حتى يتزوجن، أو من هجرهن أزواجهن حتى يرجعن إلى أزواجهن ؛ صيانة لهن من الانحراف. وقد اشتهر ذلك الرباط بشدة الضبط وغاية الاحتراز والحفاظ على الأخلاق والمواظبة على العبادة.