أكد الأستاذ حمزة يوسف -رئيس مجلس إدارة معهد وكلية الزيتونة بولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة- أن تزكية النفوس بالفقه والهداية الربانية هي سبيل إصلاح الأمة الإسلامية وإعادة عزتها، مشيرا إلى أن دعوة الإنسانية إلى السلام والتمسك بإعمار الأرض هو أهم مقصد من خلق الإنسان وتكوين حضارة خلقية مبنية على أرقى القيم.
واسترشادا بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2]، بسط الداعية الأمريكي مراتب التقوى وأحوال النفس بلغة صوفية تبين مفهوم السياسة بين سياسة النفس وسياسة الناس، معرجا على ذكر أهم فضائل الأخلاق الإسلامية، التي بها يكون التمكين في الأرض والشهادة على الناس.
التربية نظرية وتطبيق
في مستهل الدرس الديني، أشار المحاضر إلى وصف الله لنفسه بصفات أربع كما جاءت في بداية سورة الجمعة {الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}، حيث ذكر سبحانه وتعالى أنه بعث في الأميين رسولا منهم؛ ليكون لأمته معلما وملقنا من وسائل الارتقاء والتحضر التي لم تكن تعرفها من قبل؛ لأنها أمة أمية، وأرسل الرسول ﷺ من “أنفسهم” وأنفسهم: بفتح الفاء وضمها ليهديها ويزكيها.
وأوضح الأستاذ حمزة يوسف أن الله تعالى أبدل أمة العرب بما يسمى بـ “أيام العرب” بكتاب يتضمن أحسن القصص ليبين للإنسان وسائل إعمار الأرض والتمكين فيها؛ ولهذا جاء الكتاب العظيم والنور معه ليضيء للقارئ ما يقرأ، فكان الرسول الكريم هو ذلك النور: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة:15]، حيث أرسل الله الكتاب والمعلم لأمة جاهلة لم تكن تعلم ما الكتاب وما الإيمان.
وبالإضافة إلى ما يتضمنه الكتاب من قصص، فهو يحتوي أيضا على الأوامر والنواهي، التي تتجاوز الوصايا إلى الإلزام بوجود ملك ذي سلطة عليا.
وبخلاف نظام الاستبداد لدى الفرس والروم، كان للعرب نظام شورى بين أهل الحل والعقد، الذين كانوا من أعيان القبائل، إذ كان الملوك إن أرادوا إرسال الرسول تخيروه من وجهائهم وخيارهم.
ويتابع الأستاذ حمزة مراتب التربية بالقرآن والسنة قائلا: “ولما كانت المعرفة على ضربين: نظري وعملي، وجب لحصول التعلم أمران: النظرية المستفادة من الكتاب، والتطبيق العملي للنظرية، وهو ما يؤخذ من سيرة وسنة الرسول ﷺ، فمجرد تعليم الكتاب ليس كافيا في حد ذاته، بل يحتاج الناس إلى مثال حي يجسد معنى الكتاب، ليكون قدوة لغيره، وأن العمل بالكتاب في حيز الإنسان قد حصل بالفعل.
ويؤكد المحاضر أن الرسول هو الذكر الحي الذي يسير على الأرض، مستشهدا بقول عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلق الرسول فقالت بفطنتها المعهودة: “كان خلقه القرآن”؛ ولذا وصف القرآن خلق الرسول بالعظيم، وبالتالي كان العامل بسنته ذا خلق عظيم.
ويوضح الداعية الأمريكي أن سورة الجمعة رتبت التلاوة والتزكية وتعليم الكتاب والحكمة، فأول ما ذكر أنه {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ}، فيثاب المرء على تلاوة الكتاب أولا ولو بغير فهمه، ثم تكون التلاوة لغة بمعنى الاتباع، وقد جاء في القرآن: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} [الشمس:2] ، بمعنى أنهم يتبعون مقتضاه، ومن لم يكن كذلك فليس بتال للكتاب حق تلاوته، والعاقل هو الذي يكرس أوقاته لأداء ما يراه مهما في حياته.
وينتقل المحاضر إلى ذكر مراتب التقوى، وعَدَّدَها في خمسة: اجتناب الشرك وهو مقام الإسلام، ثم تقوى الحظر وهي مقام التوبة باجتناب الكبائر ومعظم الصغائر، ثم مقام الورع وهو اجتناب ما فيه شك، ثم مقام الزهد وهو ترك المباحات حذر الحساب، مشيرا أن البعض قد ينكر ترك بعض المباحات، مستدلا بقوله تعالى:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}[الأعراف:32]، وقد غاب عن هؤلاء أن هناك من هو أعلى همة وأعظم منة، فجعل مباحه واجبا ومندوبا.
ويضيف إلى المراتب الأخرى مقام الشهود، وهو ألا يكون على قلبك من سلطان إلا الله، فالطريق إلى الله تعالى طويل وشاق، فيكون البدء بتزكية النفس وتخفيف الحمل.
سياسة النفس أولا
وفي بيان معنى الخلافة في الأرض، استشهد المحاضر بقول الراغب الأصفهاني “إن الخلافة تلحق بالسياسة، وذلك بتحري مكارم الأخلاق، والشريعة والسياسة ضربان:
أحدهما: سياسة الإنسان نفسه وبدنه وما يختص به.
والثاني: سياسة غيره من دونه ومن أهل بلده، ولا يصلح لسياسة غيره من لا يصلح لسياسة نفسه”.
ولذا هدد الله من ذهب لسياسة غيره وإهمال سياسة نفسه بقوله تعالى:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3].
وبهذا النظر قيل: “تفقهوا قبل أن تسودوا”، كما أن تأدية الأمر الإلهي بالخلافة لا يتأتى إلا بعد تصفية النفس من أدرانها من الشرك والدنيا والهوى، ليحوز المرء العزة من العزيز، والحكمة الموهوبة من الحكيم.
ولمن أراد تصفية قلبه، يقول المحاضر، لابد من معرفة حقيقة القلب وأحواله، يقول “ابن عجيبة” في شرحه للحكم العطائية: “القلب هو الروح نفسها، والأنوار مطايا القلوب، والنور نكتة تقع في قلب العبد من معنى اسم أو صفة”.
واستند المحاضر إلى شرح الشيخ “زروق” للروح، قال المحاضر: الروح ما دامت مظلمة بالمعاصي والذنوب والشهوات والعيوب سميت نفسا، وإذا انزجرت وانعقلت انعقال البعير سميت عقلا، فما زالت تتقلب في الغفلة والحضور سميت قلبا، فإذا اطمأنت وسكنت واستراحت من تعب البشرية سميت روحا، وإذا ارتقت سميت سرا، لكونها صارت سرا من أسرار الله حينما رجعت إلى أصلها وهو سر الجبروت.
وكلما ازداد القلب صفاء ازداد العبد قربا لله عز وجل؛ ولذا قال الرسول ﷺ: “الطهور شطر الإيمان” والنصف الآخر حضور وهو الإحسان.
ويرى المحاضر أن للنفس سمات ثلاث: نباتية وحيوانية وإنسانية، فالنباتية: تعني التعلق بعالم الملك، وتتغذى من الماء {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30].
والنفس الحيوانية: وهي أكثر أهمية من سابقتها، وتضم نفسا محركة ومدركة، وللمحركة جانبان: إرادي وغير إرادي، والله تعالى تجاوز عن عباده في الجانب اللاإرادي مثل الجوع والارتعاد من الخوف، وإنما يحاسبه على الجانب الإرادي الخاضع لتحكمه، وهو بدوره يضم قوتين: شهوية وغضبية، فإذا أطلق للنفس عنانها، وتحررت من سلطة العقل فإنها تقود المرء إلى الهلاك.
والجانب الثاني من النفس الحيوانية: وهو النفس المدركة، وتضم الحواس الخمس أولا، وثانيا القوة الفكرية: الذاكرة والخيال والحدس…
والثالثة من سمات النفس: هي النفس الإنسانية وهي أرقى النفوس، وبها كان التكليف لابن آدم، وتضم قوة عالمة وقوة عاملة، وباجتماعهما يكون العقل، وإذا اهتدى بنور الشريعة فهو يحكم الحياة حكما لائقا، ولذا قيل “تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة”؛ لأنه بها سيفهم الإنسان الحكمة من الخلق والهدي النبوي، وبها تتحصل الحكمة.
فضائل الأخلاق
وفي المحطة الثالثة من الدرس الديني، فصل المحاضر الحديث عن أهم فضائل الأخلاق، والتي تأتي على رأسها الحكمة، التي تعني العلم والخلق، ومعناها معرفة السبب الذي من أجله خلقنا، أو أن يتصرف الإنسان بناء على معرفته النظرية، التي تؤدي به إلى فعل الخيرات، وهي اعتدال بين إفراط وتفريط، أي أن يكون الإنسان “خبا”، أو صاحب سذاجة وهو ما ينعته الناس بالبله.
ويؤكد الأستاذ حمزة أن الحكمة إذا تركزت في سلوك الإنسان فإنها تكسب الذات الإنسانية صفات حميدة من قبيل الشجاعة والعدل والخلق القويم، وبهذه الأخلاق الأربعة: (الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدل) يتمكن الإنسان من السيطرة على الشهوات والغرائز؛ مما يضفي على الذات ألفة القلب وطهارة النفس للوصول إلى المحاسن، مشيرا إلى أن هذه الصفات اجتمعت في الرسول ﷺ، واختص كل واحد من الخلفاء الراشدين بصفة بارزة من الفضائل الأربع: الشجاعة (أبو بكر)، العدل (عمر)، العفة (عثمان)، والحكمة (علي).
وبانتظام الصفات الثلاثة الأولى: (الحكمة، والشجاعة، والعفة) يكون الإنسان عادلا، فالعدالة هي الشعور بالحق وإضفاء الحقيقة على الواقع، ويتجنب الظلم وأفعال الظالمين.
وخلص الأستاذ حمزة يوسف إلى أنه بالصبر واليقين يكون الإنسان مؤهلا للهداية والترشيد، وبالصبر واليقين يُنال تصفية النفس من قوتي الشهوة والغضب.
وبالتمكين يحرر المسلم الناس بغير اضطهاد أسوة بخلفاء الرسول ﷺ ونشرهم لرسالة الحق، حاملين النور إلى العالم، فالوسطية والاعتدال هما اللتان تمكنان خير أمة أخرجت للناس من مقام الشهادة على البشرية كافة.
ويشدد الداعية الأمريكي على أن الأمة الآن في حاجة إلى علماء صابرين، لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، ولا يتأتي هذا إلا بنفس طيبة تريد الحق بحكمة {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125]، مؤكدا ضرورة التزام الفقه بالتصوف والعكس، إذ الجمع بينهما يؤدي إلى التحقق، فلابد من شيوخ يتلقى عليهم الفقه الصحيح والتربية الروحية، داعيا إلى إعادة تدريس الفقه الشرعي وعلم السلوك وتزكية النفوس ومجاهدتها في المعاهد التعليمية لجني ثمرة الدين، التي هي التمكين في الأرض.
عبدلاوي لخلافة – صحفي مغربي