إن الوسواس القهري واحد من المواضيع التي تغيرت الأفكار العلمية بشأنها تغيرا مذهلا خلال العقدين الأخيرين، بحيث إن مفاهيم عمرها يزيد على مئات السنين تم محوها تماما واستبدالها بعكسها خلال بضعة أعوام.
الإشكالية في الأفكار التجديفية أو الأفكار الاجترارية التشكيكية في اضطراب الوسواس القهري ليست في محتوى الأفكار بعينه، وإنما هي في رد فعل الشخص تجاه تلك الأفكار وفي قدرته على التعامل معها، فبينما يفلح الشخص الطبيعي في الإفلات من مثل هذه الأفكار، يفشل في التخلص منها من يكون في التكوين العصبي لمخه استعداد للوسوسة أي للإصابة باضطراب الوسواس القهري.
الوسواس القهرى : أنواعه وأعراضه
إذا عدنا إلى تقسيم الإمام النووي ففيه الخواطر الطارئة (وتسمى بالضرورية أيضا تعبيرا عن عموم حدوثها لكل بني آدم) فهي ما يجري في الصدر من الخواطر ابتداء ولا يقدر الإنسان على دفعه، ورأوا أن الإعراض عنها هو السبيل للخلاص منها، وهذه هي المتمثلة في أفكار السب والشتم والتجرؤ على المقدسات، ولم يروا في التعامل معها أنه يستدعي اللجوء لأهل العلم وإنما يكفي أن يتجاهلها المرء ولا يهتم بها.
وأما الخواطر المستقرة (وسموها الاختيارية باعتبار أن الشخص ينساق لها لأن لديه شبهة ما في الدين) فرأوا أنها هي الخواطر التي أوجبتها شبهة وجدت في القلب واستمرت فيه، وهذه لا تدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها.
وهذا التقسيم هو بالطبع نتيجة طبيعية لإرجاع الوساوس من هذه النوعية كلها إلى الشيطان، فمثل هذه الأفكار بالطبع ترعب الإنسان المؤمن وإرجاعها إلى الشيطان هو رد الفعل الطبيعي، سواء كان الذي يرجعها إلى الشيطان هو الشخص نفسه أو العالم الذي يصنف تبعا لمعطيات العلم في عصره، وقد تبين أن هذه النوعية في أغلبها تتبع اضطراب الوسواس القهري، وليس كيد الوسواس الخناس (الشيطان)، فهذا هو ما يستقيم مع الفهم الإسلامي الحديث بعد الاستفادة من اكتشافات العلم التجريبي في هذا الموضوع، لأن الوسواس القهري لا يخنس عند الاستعاذة، وإنما يستجيب للعلاج بالماسا والعلاج السلوكي.
فالمشكلة ليست مشكلة عقدية ولا شبهة يحتاج فيها إلى من يصوب له تفكيره مثلما قد يحدث لكل إنسان طبيعي وتنتهي مشكلته حين يستفتي عالما بالدين أو يستفهم من فقيه، وإنما مشكلته تقع في أنه قد يكون مقتنعا تماما بما يقوله له العالم أو الفقيه، ولكنه رغم ذلك لا يستطيع كبح جماح أفكاره، لهذا السبب لم ندخل مع الأخ صاحب المشكلة في جدل حول ما نؤمن به جميعا، ويتشكك هو فيه ويجادل؛ لأننا نعرف أن المشكلة ليست في هذا، ونعرف أن تفكيره ليس تفكيرا طبيعيا، بحيث ينتهي عذابه إذا اقتنع باعوجاج طريقته في التفكير.
ولنا وقفة فيما يتعلق بالإعجاز العلمي في القرآن؛ فالقرآن الكريم معجز في كل شيء، لكن علينا أن ننبه إلى أن العلم التجريبي الحديث لا يصل إلى حقائق نهائية ولا ثابتة، فهي دائما ما تتغير، بما في ذلك كل ما نقوله نحن عن الوسواس القهري، بينما القرآن الكريم هو الحق من عند الله، وهو ثابت لا يتغير، ونخاف كما يخاف كثيرون مثلنا أن نربط تفسير آية من آيات القرآن الكريم بمفترض أو معتقد علمي معاصر، ثم يغير العلم رأيه ومعطياته بعد ذلك، فلنا هنا تحفظ لا بد من التنبيه إليه، كما أننا نود أن نبرأ من سميتهم بعلماء الترهيب من تهمة مسئوليتهم عن الوسوسة (رغم أننا نتفق معك في تقديم الرحمة والترغيب ونختلف معهم في اتباع منهج الترهيب)، لكن الحقيقة فيما يتعلق بالموسوسين ليست كذلك، أولا لأن الوسوسة ليست مرتبطة بالأفكار أو السلوكيات الدينية فقط، وثانيا لأن الوسوسة تحدث عند كل بني آدم وليست في المتدينين فقط ولا هي مقتصرة على أصحاب ديانة بعينها.
أ.د. وائل أبو هندي5>