يشخص الاقتصاديون المشكلة الاقتصادية على أنها ندرة الموارد بصفة نسبية (موارد محدودة في مواجهة حاجات متزايدة)، وأحيانا يطلقون عليها لفظ “شح الطبيعة”، ويصورون الإنسان على أنه في صراع معها؛ من أجل البقاء.
والحقائق تدحض هذه الدعوى؛ فالإنسان لا يزرع إلا أقل من نصف الأراضي الصالحة للزراعة في العالم، وفي بعض البلاد المتخلفة لم يصل إلى الخمس، ورغم ذلك نجد – حتى في العالم المتقدم – ملايين الجائعين والعرايا والمشردين، بل تجتاح المجاعات ملايين البشر في العالم الفقير، بينما نجد الحروب العالمية التي أهلك آخرها ما يقرب من خمسين مليونًا من الشباب، ودمر المئات من المليارات من العمران.
ونجد تلوث البيئة الذي يفسد الأرض التي أصلحها الله، ويهلك الحرث والنسل ويخرب العمران، ويحكم العالم جبابرة يمارسون الربا على المستوى الدولي ممثلاً في ديون العالم الثالث للعالم المتقدم، وفي الاحتكارات العالمية التي تبخس الضعفاء حقهم، وتوجه معدل التبادل الدولي لصالحهم، حتى وصل الأمر في أمريكا إلى حرق القمح! وفي أوروبا إلى حرق الزبد والجبن حتى لا ينخفض سعرهما.
فهل هي حقًا مشكلة ندرة في الموارد أم في استغلال الموارد المتاحة أم في المصطلح نفسه؟ لقد نظر الطبيعيون -وهم آباء الرأسمالية– على أن “الإنتاج” هو خلق المادة ولا يزال هذا المصطلح المنحرف يستعمل في وصف العملية الإنتاجية المعاصرة. والحقيقة أن الإنسان حين يصنع شيئًا إنما يستخدم نعم الله في الكون، فالسيارة تصنع من خامات منها الحديد، والزارع يضع البذرة، ولا شأن له بالشمس التي تنمي النبات والمطر الذي يرويه والتربة التي تغذيه، ودور الإنسان في ذلك كله لا يتجاوز إضافة المنفعة، سواء كانت هذه المنفعة شكلية بتحويل الخامات من شكل إلى شكل أم مكانية بنقل المنتج من مكان يتوافر فيه إلى مكان يحتاجه أو منفعة زمانية بتخزينه من وقت يفيض فيه إلى وقت يقل فيه وجوده، والخدمة التي من شأنها تسهيل التبادل وتوثيق التحويلات -حين انتقال السلعة من فرد إلى فرد ومن بلد إلى بلد أو القيام بالوساطة أو التحويلات- تضيف للحيازة منفعة هي المنفعة في الملكية.
فالحقيقة أن الإنسان لم يخلق شيئًا وإنما قام بعمل أضاف فيه للعمليات الزراعية والصناعية والتجارية منافع شكلية أو زمانية أو مكانية أو خدمية.
إن الاقتصاديين يتعاملون مع مصطلح “النعم” بشكله المحسوس، فيطلقون عليه: “الموارد” ويختصرونه في مصطلح الأرض، فيطلقون مصطلح الأرض على القوة المستمدة من الطبيعة لاستخدامها في الإنتاج، ويوسعون من المصطلح فلا يقصرونه على معناه الدارج، بل ويوسعونه ليشمل ما فوقه من نبات وحيوان، وما في جوفه من ثروة معدنية، وما به من ثروات مائية ممثلة في بحيرات وأنهار وبحار ومحيطات؛ وما تحتويه من أسماك، وما يتولد عنها من كهرباء، وما يعتري الكون من مناخ وتفيض به السماء من ماء.
إن القطرة من السماء حين تنزل لتروي الزرع تحتاج إلى شمس تدفئ، وبحر يزخر بالماء، ورياح تحرك السحاب، أي تحتاج إلى خلق السماوات والأرض، والحكمة في تكوينها وتقدير الأرزاق فيها، ولا يطيق ذلك إلا الله تعالى نعمة منه على عباده.
وتقسم النعم على ثلاثة أقسام:
1 – نعمة تفرد الله بإيجادها نحو الخلق والرزق.
2 – نعمة وصلت من جهة غير الله في ظاهر الأمر، وفي الحقيقة فهي أيضا إنما وصلت من الله تعالى، وذلك لأن الله تعالى هو الخالق لتلك النعمة، والخالق لذلك المُنعم، والخالق لداعية الإنعام بتلك النعمة في قلب ذلك المُنعم.
3 – نعم وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا، وهي أيضا من الله تعالى.
فظهر بهذا التقديم أن جميع النعم في الحقيقة من الله تعالى؛ ولقد قال الرازي في تفسيره : “اعلم أن كل ما يصل إلى الخلق من النفع ودفع الضر فهو من الله تعالى “..
ومن النعم ما هو ظاهر وما هو باطن، وإذا أحب الله عبدًا وفقه لشكر نعمته الظاهرة فيزيده، وألهمه معرفة النعم الخفية ليشكر الله عليها، فضلا من الله ونعمة، ولن يتيسر بحال هنا أن نحصي نعم الله سبحانه وتعالى التي سخرها للإنسان، لأنها تخفى وتدق وتتعدد وتتباين، بحيث لا يحتويها الحصر والبيان، وهي مع ذلك متوافرة تمتد إليها يد الإنسان إذا ما اجتهد وعمل.
وقد قضى الله أن تكون الدنيا دار ابتلاء يختبر الإنسان فيها بعمله، ولا يحصل على النعم إلا بالجهد، ولقد قدرها الله كافية للإنسانية، ولكن لا بد من العمل للحصول عليها، وليبتلي في عمله أيحسن أم يسيء وعلى أساس ذلك يكون الخير والبركة في الدنيا، والحساب والجزاء في دار آخرة فيها نعيم مقيم ولا تعب فيها ولا نصب. (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ) [النحل:112].
فنعم الله تعالى على الأقوام والأمم منوطة بتحقيق أمرين:
1 – العمل على استغلال النعم وكشف القوانين والسنن.
2 – الإصلاح في الأرض بطاعة الله فيما أمر.
فإذا تحقق ذلك كانت النعمة المستقرة، وإذا تخلف ذلك كان العذاب والجوع والخوف أو بقارعة من الله.
والمشكلة تكمن في كفر الإنسان بنعم الله إما:
1 – بظلم الإنسان، بإفساده في الأرض وتدميره للحرث والنسل، وكما يحدث في الحروب وتلوث البيئة فيصادم سنن الله الكونية.
2 – وإما بكفره انحرافًا عن سنن الله التشريعية، وترك شكره وطاعته، وألا يؤدي حقها بممارسة الربا والاحتكار ومنع الزكاة والمرحمة.
وهنا لابد من عقاب الله إما بقارعة منه، وإما بأيدي الناس أنفسهم بما ظلموا واستكبروا في الأرض عصيانًا وكفرًا بنعمه.
يوسف كمال