الأستاذ جمال عبد الناصر
ارتكازًا على الحقيقة التي تقول إن المستشرقين والمتغربين انتقوا من التراث الإسلامي ما يرسخ صور الاختلاف بين التيارات والمذاهب، وتصدوا لدراسة مواطن الفتن والصراعات بما يذكي الخلافات الفكرية والمذهبية بين المسلمين؛ جاءت دراسة الباحث: جمال عبد الناصر بكلية دار العلوم جامعة القاهرة، التي تحمل عنوان ” الكامل في اختصار الشامل-دارسة وتحقيق”، والحاصلة على تقدير ممتاز؛ لتكشف العديد من القضايا المتعلقة بالعقيدة من خلال تحقيق واحد من الكتب البالغة الأهمية من حيث شموليتها وعمقها ورفعة قامة كاتبها وأهميته.
وقد أوصت الدراسة، التي أشرف عليها الأستاذ الدكتور عبد اللطيف محمد العبد، أستاذ الفلسفة الإسلامية في كلية دار العلوم في جامعة القاهرة، وناقشها كل من: محفوظ علي عزام، أستاذ الفلسفة الإسلامية في كلية دار العلوم في جامعة المنيا، وعبد الفتاح أحمد الفاوي، أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة، أوصت بضرورة الاهتمام بإعادة طرح مسائل العقيدة بطريقة ترتبط بالجانب الأخلاقي العملي، والدعوة لنشأة علم كلام إسلامي يقوم على الكتاب والسنة، ويستعين بالأدلة العقلية للدفاع عن الدين، ومجابهة المخالفين والرد عليهم، شريطة الابتعاد عن الجدال الذي لا يؤدي إلى علم.
كما طالب الباحث بضرورة مواصلة مسيرة تحقيق التراث الإسلامي العريق؛ لأن ذلك يثري حقل الدراسات الإسلامية، ويساعد الباحثين في العلوم الشرعية، ويربطنا بتراثنا وحضارتنا.
وكذلك طالبت الرسالة بإعادة تحقيق المخطوطات التي حققها المستشرقون؛ كي ينهض أبناء الأمة بتراثها، ولا يأخذوا تراثهم عن الغير الذي لا تُؤمن نياتُهُ ومقاصدُهُ.
أسباب كثيرة
عكس اختيار الباحث لمخطوط “الكامل في اختصار الشامل” كرسالة يقدمها لقسم الفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة لنيل درجة الماجستير العديد من الأسباب التي تصب في أهمية موضوع كتاب “الكامل في اختصار الشامل” لابن أمير -رحمه الله-، والذي هو تلخيص لموسوعة “الشامل في أصول الدين” لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني لما له من فضل في رأب صدع المفقود من كتاب الشامل في أصول الدين لإمام الحرمين الجويني، وما يقدمه الكتاب من تأصيل لفكر المذهب الأشعري، خاصة مع كون الجويني عمدة المذهب الأشعري.
وعلى هذا فقد خلص البحث إلى عدد من الحقائق المستخلصة من الكتاب بما يضمه بين دفتيه من فصول تتعلق بالعقيدة والرسالة ومذهب الأشاعرة وتطوره. على رأسها أن الأشاعرة هم من كسروا سَوْرة المعتزلة، وانتصروا للدليل النقلي خاصة الأوائل منهم، وأشاعرة العراق بالذات. ووضح الباحث خطأ الاعتقاد بأن الانتساب إلى مذهب الأشاعرة يعيب صاحبه لما للمنتسبين إليه من دور في نصرة الدين والدفاع عن العقيدة والرد على المخالفين.
ومع ذلك أشار الباحث إلى ما شاب المذهب الأشعري من مخالفة للسلف الصالح، لكنه يأبى أن يقف ذلك حاجزًا دون الاستفادة بإنتاج من انتسبوا إلى مذهب الأشاعرة من أمثال ابن حجر العسقلاني والنووي دافعًا بحجة أن الجميع يؤخذ منه ويرد إلا رسول الله ﷺ.
بين العقل والنقل
أوصى البحث بضرورة وضع العقل في وضعه الصحيح؛ فالعقل لا يستطيع إدراك كل شيء، بل له قدرة محدودة؛ وذلك ليصل إلى نتيجة أنه لا تعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول. وهو ما يجعل من الممكن تقبل المذهب الأشعري حيث يأخذ الأشاعرة في قضايا الإلهيات بالأدلة العقلية، أما في قضايا النبوات فيعتمدون على الأدلة النقلية إضافة إلى الأدلة العقلية، أما في قضايا السمعيات فيعتمدون فيها على النقل فقط كالموت والبعث النشور وعذاب القبر وغيرها. فيما يعد رجوع أئمة الأشاعرة إلى مذهب السلف مرة أخرى مثل أبي الحسن الأشعري وأبي معالي الجويني وغيرهما دليلا على أهمية المذهب ومكانته.
وفيما يخص الإمام الجويني أشار الباحث في نهاية بحثه لجهوده في تطوير الأشعري ليصبح مذهبا متكاملا وأن الجويني انتصر للأشاعرة ودافع عنهم كثيرًا، وامتدح أصولهم بأنها أصول مذهب متكامل، وعاب المعتزلة وتنقّصهم في ذلك فيما انتقد في الوقت ذاته شيوخه الأشاعرة فلم يكن مقلدا في آرائه بل كان له رأيه.
كشف الباحث جمال عبد الناصر أيضا من خلال تحقيقه لكتاب “الكامل في اختصار الشامل” عن تقدم العلماء المسلمين في مجالات العلوم التطبيقية، حيث تحدث الجويني في كتابه عن علوم الفلك والنجوم والظواهر الطبيعة كالكسوف والخسوف وحركات الأفلاك؛ وهو ما يدل على سبق علماء المسلمين في هذه المجالات.
فيما ذهب كثير من علمائنا الأوائل، كما هو مُثْبَت في الكتاب إلى أن الجوهر الفرد ينقسم على أجزاء غير متناهية؛ وهو ما يعني تفتيت الذرة والتي وصل الدكتور أحمد زويل إلى أحدث ما وصل إليه العلم فيها وهو الفيمتو ثانية.
كما تحدث الجويني في الكامل عن انبعاث الشعاع الضوئي، وذهب إلى أنه ينبعث من العين وليس من الجسم المرئي، وكذلك تحدث إمام الحرمين عن مُسلَّمات في علم الرياضيات، حيث ذكر أن الخطين المستقيمين لا يلتقيان، وهي جميعها إرهاصات لعلوم تطبيقية شاع أنها غربية المنشأ.
مكونات الدراسة
وقد تكونت الدراسة من قسمين: الأول ضم الدراسة، وجاء على قسمين: التمهيد الذي اشتمل على أهمية التراث، والموقف من التراث، وعلم أصول الدين، ومناهضة علم الكلام، وركود علم الكلام، وأصول العقيدة الإسلامية. وتطور مذهب الأشاعرة، وأهم الأسباب التي دعت إلى تطور المذهب الأشعري، وترجمة إمام الحرمين مصنِّف الشامل في أصول الدين وتناول فيها اسمه ونسبه، لقبه وكنيته، مولده، نشأته وطلبه للعلم، شيوخه، تلاميذه، الجويني في نظر بعض العلماء، أهم مؤلفاته، وفاته. إضافة إلى أهمية كتاب “الشامل في أصول الدين”.
أما ترجمة ابن الأمير مصنف الكامل فقد ضم العصر الذي عاش فيه ابن الأمير، واسمه ونسبه، لقبه وكنيته، مولده ونشأته، مؤلفاته ووفاته.
ثم جاء الحديث عن “الكامل في اختصار الشامل لابن الأمير” موضحًا أهمية المخطوط محل الدراسة، وتأكيد نسبة الكامل إلى ابن الأمير، وطريقته في اختصاره للشامل.
أما القسم الثاني من الدراسة والذي شمل قضايا الدراسة فقد جاء في عشرة مباحث متحدثا عن: السلف والأشاعرة بين العقل والنقل، والصفات الإلهية، والقضاء والقدر ومسئولية الإنسان عن فعله، وكلام الله تعالى، والحُسْن والقُبْح بين العقل والنقل، وخبر الآحاد، والنبوة بين المؤيدين والمنكرين، وانتصار الجويني للمذهب الأشعري، ومدى تأثر الجويني بالفلاسفة والمعتزلة، ورجوع الجويني عن الكلام وعودته لمذهب السلف.
وأما القسم الثاني من البحث، فقد ضم التحقيق الذي اشتمل على مواصفات المخطوط محل الدراسة، ومنهج التحقيق، والنص المحقق (الكامل في اختصار الشامل). إضافة إلى الخاتمة ثم التوصيات.