كان من شأن النهضة الفكرية التي شهدتها مصر في مطلع القرن العشرين أن صاحبها بواكير نهضة علمية، وكان لإنشاء الجامعة أثر لا يُنكر في ذلك، فقد احتضنت المدارس العليا في الطب والهندسة والفنون وغيرها، وبدأت إرهاصات علمية ناجحة، وبرز عدد من علماء مصر النابغين من أمثال علي إبراهيم في الطب، ومحمد مرسي أحمد في الرياضيات، وأحمد زكي في الكيمياء، وعلي مصطفى مشرفة، ومصطفى نظيف في الطبيعة، ومحمود توفيق الخضاري في النبات.
وجمع هؤلاء إلى جانب التخصص الدقيق بصرًا باللغة العربية وشغفًا بآدابها، وتمكنا من الكتابة والتأليف بها، وكانوا من الداعين إلى نشر الثقافة العلمية في مصر، وتدريس العلوم في الجامعة باللغة العربية، وأقدم بعضهم على هذا الخطوة، فألّف وحاضر بالعربية، غير أن هذه الخطوة لم تلقَ دعمًا من الدولة، فتوقفت ولم تأخذ حقها في التشجيع والاهتمام، واقتصرت على تجارب أصحابها.
وكان مصطفى نظيف منذ أول عهده واحدًا من أصحاب هذا الفريق الغيور على لغته، وبذل ما استطاع من جهد في وضع المصطلحات أو التأليف والتدريس لمقررات علم الطبيعة باللغة العربية.
نشأته وحياته
ولد مصطفى نظيف في مدينة الإسكندرية في (13 من جمادى الآخرة 1310 هـ= 12 من يناير 1893م)، وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدرسة رأس التين الأميرية، وبعد حصوله على شهادة إتمام الدراسة الثانوية، أوفد في بعثة لوزارة المعارف إلى إنجلترا، والتحق بجامعة برستول، وتخصص في الطبيعة والرياضيات، وظل هناك حتى حصل على درجة التخصص في الطبيعة سنة (1333هـ= 1914م)، ثم عاد إلى مصر، نظرًا لقيام الحرب العالمية الأولى.
وبعد عودته إلى مصر عُين مدرسًا بالتعليم الثانوي، ثم نقل في سنة (1339هـ= 1920م) مدرسًا لعلم الطبيعة بمدرسة المعلمين العليا، ومكث فيها حتى سنة (1349هـ= 1930م)، ثم عمل مفتشًا بوزارة المعارف، وناظرًا لمدرسة الفنون والصنائع، ثم اختير أستاذًا مساعدًا للطبيعة بمدرسة الهندسة، فلما صارت كلية بعد ضمها إلى الجامعة سنة (1354هـ=1935م) عين أستاذًا للطبيعة ورئيسًا للقسم، وظل في منصبه حتى عين وكيلا لجامعة عين شمس سنة (1370هـ= 1950م)، ثم عين مديرًا لها في سنة (1374هـ= 1954م) ثم قدَّم استقالته من العمل.
التدريس باللغة العربية
أول كتاب من نوعه بالعربية 1927م
منذ أن بدأ مصطفى طريقه العلمي وهو يُعنى بالثقافة العلمية، والتعريف بأهمية العلم وعلاقته بالمجتمع، والتنويه بأهمية تاريخ العلم ومآثر علماء العرب والمسلمين في العلوم، وآزر ذلك بتدريس علم الطبيعة باللغة العربية في مدرسة المعلمين العليا وكلية الهندسة، وكان من رأيه أن المصطلحات الأجنبية ليست عقبة أبدًا، وإذا انتظرنا حتى نفرغ من ترجمة المصطلحات وتوحيدها فسيطول انتظارنا، ثم قرن الكلام بالعمل فألّف كتابه “علم الطبيعة” ونشره سنة (1346هـ= 1927م)، وهو أول كتاب من نوعه بالعربية.
وقد ألمَّ فيه بالمسائل الأولى في تاريخ علم الطبيعة منذ نشأته في العصور القديمة إلى أحدث نظريات العلم في وقته، وأولى عناية خاصة للنهضة العلمية العربية الإسلامية، وعلم الفلك عند العرب، وأراء فلاسفتهم في الطبيعة والميكانيكا وعلم الصوت والحرارة والمغناطيسية والضوء.
وكان يهدف بذلك إلى إبراز دور العلماء المسلمين في مسيرة الحضارة الإنسانية، ووضع مساهماتهم في أماكنها المستحقة لهم في تاريخ العلم، بعدما رأى أن هناك تعمدًا من علماء أوروبا في إغفال أثر العلماء المسلمين وتجاوز عطائهم للعلم، وطمس إنجازاتهم الحضارية؛ فحاول جاهدًا أن يعرف طلابه أمجاد أجدادهم العلمية، وأنهم أصحاب أصالة في العلوم الطبيعية، قبل أن يستعرض موضوعات كتابه في التاريخ لعلم الطبيعة.
البصريات الهندسية والطبيعية
ثم أتبع كتابه عن علم الطبيعية بكتاب عن البصريات الهندسية والطبيعية، فنشره سنة (1349هـ= 1930م)، ويقع في نحو 800 صفحة، وهو يُعد أول كتاب باللغة العربية نهض بدراسة علم الضوء إلى مستوى الدراسات الجامعية، ويقول: إنه بدأ بهذه الدراسة المستفيضة لعلم الضوء دون فروع الطبيعة الأخرى؛ لأنه الفرع الذي نما وازدهر في عصر رقي الحضارة الإسلامية، وكان من أعظم مؤسسيه شأنًا ورفعة وأثرًا الحسن بن الهيثم، الذي كانت مؤلفاته وبحوثه المرجع المعتمد عند علماء أوربا حتى القرن السادس عشر الميلادي.
أعمال ابن الهيثم
واشتهر مصطفى نظيف بدراسته الرائدة لأعمال العالم العربي الحسن بن الهيثم، وهي دراسة مستفيضة تقارب صفحاتها الألف، ونشرتها جامعة القاهرة في مجلدين، وقد بذل المؤلف جهدًا مضنيًا في قراءة مخطوطات ابن الهيثم، وقرأ مئات المراجع، وراجع آراء العلماء والفلاسفة حتى يجلي جهود ابن الهيثم، ويخلص إلى حقيقة صادقة، بأن ابن الهيثم قد وضع أسس علم الضوء بالمعنى الحديث، وأنه أبطل علم المناظر الذي كان معروفًا، ووضع أسسًا ونظريات وآراء جديدة لم يُسبق إليها.
ويذهب مصطفى نظيف إلى أن أعظم آثار ابن الهيثم في الضوء أنه أبطل نظرية قديمة كانت شائعة تتوارثها الأجيال من عصر اليونان إلى عصره في كيفية حدوث الإبصار، وهي تتلخص في أن الإبصار يكون بإشعاع أو بحزمة من الأشعة على حسب التعبير الحديث، تخرج من البصر إلى المبصر، وأثبت أن للضوء حقيقة ووجودًا ذاتيًا، حيث يدخل إلى شبكية العين، ومنها إلى المخ، وتحدث الرؤية.
وأثبت مصطفى نظيف في كتابه سبق ابن الهيثم لـ فرنسيس بيكون في ابتداع الطريقة العلمية والأخذ بأسبابها، وقال: إن هذه الطريقة التي تُعد من مبتكرات العصر الحديث هي الطريقة التي التزمها ابن الهيثم في كتبه وبحوثه وكشوفه الضوئية؛ حيث اعتمد على الاستقراء والقياس وعُني بالتمثيل، وهو بذلك لم يسبق فرنسيس بيكون فحسب بل سما عليه، وكان أوسع أفقًا وأعمق منه تفكيرًا.
وكان يهدف من وراء هذه الدراسة إلى تعديل الأوضاع التاريخية لبعض البحوث والكشوف العلمية المتصلة بعلم الضوء، وأن يترتب عليها بعث ابن الهيثم بعثًا جديدًا في الكتب التي تُؤلّف لطلبة المدارس، وأن يستبدل اسمه بأسماء بيكون وموردكيوس ودافنشي ودلابورتا وكيلر وغيرهم ممن اعتدنا رؤية أسمائهم.
وقد لقيت هذه الدراسة العميقة ثناء العلماء وتقديرهم، حيث تجلت فيها الأمانة العلمية، والدقة الفائقة، والصبر على القراءة والمقارنة والتحليل، حتى رسمت صورة حقيقية لـ ابن الهيثم، وأبرزت جهوده، ووضعته في مكانه الصحيح بالنسبة لتاريخ العلم عامة وللبحوث والكشوف البصرية بصفة خاصة.
التعريف بالتراث العلمي
امتدت جهود مصطفى نظيف في التعريف بالتراث العلمي العربي إلى إنشاء الجمعية المصرية لتاريخ العلم، وقد ترأس هذه الجمعية، وأشرف على إصدار ستة أعداد من المجلة التي كانت تصدرها الجمعية، وفي أثناء رئاسته لقسم الطبيعة بكلية الهندسة رتّب لسلسلة من المحاضرات سنة (1358هـ= 1939م) لإحياء ذكرى ابن الهيثم.
كما كتب عدة مقالات تتصل بتاريخ العلم عند العرب، ونشرها في مجلة “رسالة العلم”، وسعى لإنشاء قسم لتاريخ العلم في الجامعة لتعريف الشباب بجهود أسلافهم من العلماء، ودورهم في مسيرة المعرفة، غير أن مشروعه تعثر ولم ير النور، في الوقت الذي أسست فيه كثير من الجامعات الأوروبية أقسامًا لتاريخ العلم تنحاز فيها لثقافتها وحضارتها، ولا تعطي فترة العصر الإسلامي عناية كافية، وتتغافل عن تأثيرها في الحضارة الأوروبية وعطائها للإنسانية.
عضوية المجامع
لم يكن غريبًا أن تسعى الهيئات العلمية والمجامع إلى مصطفى نظيف لينال عضويتها، ويشارك في أعمالها، فاختير عضوًا في مجمع اللغة العربية في القاهرة سنة (1366هـ= 1946م)، وعضوًا مراسلا بالمجمع العلمي العراقي، وتولى رئاسة المجمع العلمي المصري، والأكاديمية المصرية للعلوم، والجمعية المصرية لتاريخ العلوم، والاتحاد العلمي المصري، وكان عضوًا في الشعبة القومية للاتحاد الدولي لعلم الطبيعة، والمجلس الأعلى للعلوم، ولجنة الطاقة الذرية.
وقد نال تقدير الدولة مرات عديدة، فحصل على جائزة الدولة في الطبيعة سنة (1367هـ=1947م)، ونال جائزة الدولة التقديرية في العلوم سنة (1378= 1958م)، وهو أول من حصل عليها.
وفاته
كان مصطفى نظيف إلى جانب علمه الغزير، وثقافته الواسعة، وتقلده أرقى المناصب الجامعية ـ متواضعًا في ثقة، مضرب المثل في الدقة والنظام، والزهد في المال والجاه، أبي النفس، شجاع الخلق، ففي أشد أوقات إرهاب السلطة وتربصها بالجامعات، وانزواء كثير من الأساتذة تجنبًا لبطشها وسطوتها، انبرى مصطفى نظيف في مجلس جامعة عين شمس يصدع بالحق ويجهر برأيه، وذلك حين قررت الحكومة تعيين أستاذ في إحدى الكليات، فيعلن في حزن عميق أن هذه أول مرة يُعين فيها أستاذ الجامعة عن غير الطريق العلمي الشرعي بل بقرار حكومي.
وظل مصطفى يؤدي عمله في مجمع اللغة العربية وغيره من المجامع والهيئات حتى لقي ربه في (14 من ذي القعدة 1390هـ= 11 من يناير 1971م).
أحمد تمام
مصادر الدراسة:
مصطفى نظيف ـ علم الطبيعة نشوءه ورقيه وتقدمه الحديث ـ مطبعة مصر ـ القاهرة ـ 1927م.
محمد مهدي علام ـ المجمعيون في خمسين عامًا ـ الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية ـ القاهرة ـ (1406هـ= 1986م).
عبد الحليم منتصر ـ مصطفى نظيف (كلمة في تأبينه) ـ محاضر جلسات مجمع اللغة العربية ـ الدورة السابعة والثلاثون.
أحمد الحوفي ـ مصطفى نظيف (كلمة في التعريف به) ـ مجلة مجمع اللغة العربية ـ العدد 32 – (شوال 1393هـ=1973م).