إن “إليوت” على حق حينما يؤكد أنه “بين ركام المعلومات تتوه المعرفة، وبين ركام المعرفة تتوه الحكمة”.
وهذا ما يدفعنا لمحاولة طرح أسئلة تسعى نحو فقه المعلومات يتكامل مع فقه الكلمات، ويفرضه حال من الانفجار المعلوماتي، وسيل من المعلومات الذي أحدث بدوره فيضانًا معلوماتيًّا. ويرتبط بذلك قوانين الافتراس بالمعلومات، وحال الإغراق المعلوماتي. والإغراق له من الآثار السلبية مثله مثل احتكار المعلومات. الإغراق حالة تفقد القدرة على الاختيار والترجيح، وتغري بعناصر اللهث والجري خلف المعلومات وحولها. الأمر هنا قد يرتبط بسياق “المعلومات السرابية”، معلومات السراب البقيعة الذي يحسبه الظمآن ماءً، أو ركام “معلومات الحيرة” والتي تشل التفكير وتوطِّد القدرات فقط صوب التحصيل، و”معلومات التحيُّز” “الظاهرة” و”الكامنة”، وهو تحيز نابع من احتياجات هذه الكيانات المعلوماتية. والحاجات تتمايز وتختلف والمعلومات التي ترتبط بها تتمايز كذلك وتختلف. والسؤال المهم في ظل التدفق الذي تزيده الإنترنت اندفاعاً هو: هل المعلومات المتوفرة هي المعلومات الحقيقية؟ وهل المعلومات المعلنة كل المعلومات الواجب التعرف عليها؟ وهل تتسم المعلومات بالصدق في طبيعتها وبنيتها وعناصرها والعدل في مقامها وأدائها وتوظيفها؟ وهل تبدو المعلومات وهي تُعلن وتُذاع وتُنشر وتتصدر الصورة وصناعتها، ليست إلا حاجبة لمعلومات أكثر أهمية؟ وترتبط بظواهر أشد وأعتى؟ وأكثر أهمية وتأثيرًا في حياة البشر ومعاشهم؟ هل سيصل بنا الأمر ونحن في زمن الاتصال أن نتعرف على ذواتنا عبر معلومات يبثها غيرنا، في ظل تقاليد عربية لا زالت تمارس حبس المعلومة واحتكارها بصورة هي الأكثر فجاجة؟ بينما المعلومات متاحة ومباحة –وربما مستباحة- من الأجنبي يحصل عليها أنَّى شاء وبطرائق مختلفة؟
هل سيؤدي بنا فيض وفائض المعلومات أن نعرف عن غيرنا أكثر مما نعرف عن ذواتنا؟! وهل سيزيد حجم المعلومات ومساراتها زيادة مساحة الاتصال بين دولنا القوية والخارج، بينما تزيد مساحات الانفصال في علاقاتنا البينية؟.
هل ستحدث المعلومات شبكة من العلاقات الاصطناعية تحل محل ما أسماه مالك بن نبي بشبكة العلاقات الاجتماعية، أو النسيج الاجتماعي؟
هل تشكل هذه المعلومات الاهتمامات؟ أم وجب أن تشكل الاهتمامات المعلومات؟! هل سنظل نستهلك المعلومات كما نستهلك كل شيء، دون المشاركة في إنتاجها وصناعتها؟ أين نحن من بناء شبكة من المعلومات الهادفة التي تحرك الفاعلية وتحفز الجامعية؟ أين نحن من شبكة معلوماتية حقيقية تعكس حقائق شبكة العلاقات الاجتماعية، وتؤدي إلى الحفاظ على مكوناتها، وحماية كل ما يحفزها تكوينًا وتأصيلاً وتفعيلاً؟!
هل كل هذه التساؤلات ستدفعنا دفعًا إلى التفكير “بفقه المعلومات”؟، فقه يستند إلى “المقاصد المعلوماتية”. هذا الفقه الذي إذا ما تأسس وتم تفعيله سيتمكن به ومن خلاله العقل من تلافي الآثار السلبية.
وتكمن فعالية نموذج المقاصد المعلوماتية في وضع المعايير التي تتعلق بمجالات المعلومات التي تحفظ الدين، وتحفظ النفس،والنسل، والعقل، والمال، وتحدد مجال أولوياتها فيما يتعلق بما يمكن تسميته “بالضروري المعلوماتي”، و”الحاجي المعلوماتي”، و”التحسيني المعلوماتي”.
إن هذا يعني أن كل المعلومات ليست بطبيعتها أو بهدفها تقصد إلى الحفظ، بل إن بعضها قد يكون من مقصوده عكس هذا الحفظ أو تزيينه. ومن ثم من الواجب أن نحرر معنى الحفظ ونحدد معناه، ونقرر الوسائل التي تتعلق به، والمقدمات الموصلة إلى مقصود الحفظ، إنها مقدمات الواجب. علينا أن نتعرف أن شبكة المعلومات التي تغطي مقصود حفظ الدين لا تتعارض ولا ينبغي لها أن تنقض كل ما يحفظ النفس والنسل والعقل والمال. وأن الشبكة المعلوماتية التي تغطي مساحات المجالات الخمس هي الحافظة للإنسان في كيانه وعلاقاته ومواقفه وممارساته، من المهم أن نحرك كل معاني نموذج المقاصد المعلوماتي من التعرف على: * معلومات الضُّر ومعلومات النفع.
* من المهم أن نحقق مقصود الحفظ في إطار:
– تأسيس قاعدة المعلومات النافعة الدافعة.
– تأصيل عناصر العلم وشيوع العلم بها.
– الإشارة إلى إمكانات توظيفها وتفعيلها في الممارسة.
– تشغيل آليات الحماية في المعلومة.
– ضرورات تحقيق مقصود الاستخلاف الإنساني في المجال المعلوماتي بمراعاة حق الغير في المعلومة.
إنها مقتضيات التعارف الحضاري والإنساني كعملية جديرة بتوفير عناصر المعلومات التي تتكامل فيها عناصر الصدق في المحتوى والعدل في التوظيف.
إن هذا الكيان المعلوماتي المرتبط بالمجالات لا بد أن يتطرق إلى حفظ الابتداء، وحفظ البقاء، وحفظ النماء، وحفظ الارتقاء، وحفظ الأداء، إنها عناصر ومستويات من الحفظ، تؤصل عناصر المتابعة المعلوماتية بحيث تحقق بناءً معلوماتيًّا قادرًا على صياغة وعي وإدراك وسلوك الإنسان، فيكون “حفظ المعلومات” مقدمة لحفظ الإنسان ذاته كيانًا وبقاءً، نماء وارتقاء وأداء.
ومجال “السُّلَّم المعلوماتي” في إطار أولويات واضحة ومحققة لمقاصد الحفظ السابق الإشارة إليها، معلومات الضرورة، والضروري المعلوماتي، ومعلومات الحاجة والحاجي المعلوماتي، ومعلومات التحسين، والتحسين المعلوماتي، معلومات تتعلق بالمجال الكلي والجزئي للفاعليات المجتمعية وفاعليات الأمة، بل والفاعليات الإنسانية. ومعلومات العام والخاصة، إنها مجالات تدل على مساحة المعلومات التي لا ينظر إليها كركام يحجب الرؤية، ولكن كبناء وشبكة تشكل الوعي وتفعل عناصر السعي.
كل هذا يفرض الرؤية الناقدة للمعلومة وأهميتها، والرؤية الفارقة بين المعلومة الزائفة أو السرابية، والمعلومة ذات الأهمية القابلة للتوظيف الملائمة للاحتياجات، والرؤية الكاشفة لخريطة الحقل المعلوماتي وإمكانات تعظيم الاستفادة منه في سياق يحرر المعلومة، وإمكانات توظيفها والتنبه للعناصر السلبية، والوعي بتأثير المعلومة في الإدراك والسلوك.
إن حقيقة البصر المعلوماتي تؤكد على عمليات فرز المعلومات وتأسيس فقه لها، يحفظ علينا الكيان المعلوماتي وإمكانات توظيفه، “المعلومات البصيرة” قدرات وأساليب تربوية تتعرف على إمكانات المعلومات وقدرات توظيفها.
والبحث عن الحكمة في المعلومة أمر مهم جامع بين تحصيلها وإنتاجها وتفعيلها وتوظيفها. ولهذا حديث تالٍ عن قريب إن شاء الله.
اقرأ في نفس الزاوية:فجوة العلم والمعرفة في عصر المعلوماتية