الرابطة الاجتماعية هي العلاقة التي تربط أفراد المجتمع وتشكل منطقه وفلسفته، وهي تختلف في طبيعتها من مجتمع لآخر، وكانت محل اختلاف الفلاسفة والمدارس الفكرية والأنساق الأيدلوجية المختلفة من حيث تكييفها في الواقع وتصورها في المثال المنشود، كما اختلفت تلك الرابطة في الشرائع المختلفة بحسب رسالة كل أمة ومنهج كل كتاب بحسب العصر وطبيعة القوم ومحيطهم الحضاري.

وابتداءً، يعني “التراحم” وجود أبعاد غير مادية في العلاقات بين الأفراد، أي أن علاقات البشر ذات طبيعة إنسانية لا تتأسس على المنفعة الشخصية وحدها، ومن ثم فهي ليست علاقات عقلانية مجردة، أو تعاقدية نفعية محضة، بل هي علاقات عضوية مركبة، والتراحم مبدأ ينظم مجموعة من المفاهيم الأخلاقية كالترابط والتعاون والإيثار.

وقد شكلت الأشكال الحضارية والاقتصادية التي سادت في مجتمع ما قبل الصناعة والرأسمالية أرضية وقف عليها علماء الاجتماع الألمان فطرحوا انطلاقًا منها بديلاً للعلاقات التعاقدية التي تهيمن على المجتمعات الرأسمالية وميزوا بين التعاقد (الجيسيلشافت Gesellschaft) والتراحم (الجماينشافت Gemeinschaft). لكن ربما يمكننا القول بأن توصيف المجتمع الحداثي بأنه تعاقدي شاع بعد روسُّو والقول ببناء الدولة على نظرية “العقد الاجتماعي”.

وفي الأنثربولوجيا توصف المجتمعات “التقليدية” عمومًا بأنها “تراحمية” في مقابل المجتمعات الحديثة “التعاقدية” وإن كان التعبير غير شائع عند علماء الاجتماع والأنثربولوجيين في الأوساط العربية.

ويرى المفكر المصري “عبد الوهاب المسيري” أن مفهومي “التعاقد” و”التراحم” معيار للتمييز بين المجتمعات الحداثية والمجتمعات التي تتسم بدرجة عالية من الإيمانية والإنسانية، وأن التمييز بينهما الذي صاغه المفكر الألماني تونيز ثم طوره ماكس فيبر تمييز دال في فهم المنطق الاجتماعي للأمة الإسلامية والأمم الأخرى -خاصة الأفريقية والشرق آسيوية- التي لا تعتبر التعاقدية أساس الجماعية وتنزل الروابط الأسرية والقبيلة والدين منزلة مهمة، بغض النظر عن نمط الإنتاج الاقتصادي الذي تتبناه.

وقد اهتمت كتابات ما بعد الحداثة، والنقد الماركسي الإنساني للحداثة (مدرسة فرانكفورت) بهذا التمييز واعتبرت الفردانية وغلبة العقل النفعي في ظل الحداثة الصناعية انتقاصا من الخصائص الإنسانية للفرد ومادية غير مقبولة.

غير أننا هنا لا بد أن نميز بين مفهومين للتراحم؛ فالأنثربولوجيا حين تصف المجتمعات “التقليدية” بالتراحم تعني أن الروابط فيها تعتمد على تقاليد القرابة والانتماء للجماعة في ظل الأسرة والعائلة والقبيلة، بينما يشكل التعاقد الفردي في الدولة الحديثة الأصل في العلاقات.

وقَرْن “التراحمية” بـ”التقليدية” في مقابل قرن التعاقدية بـ”الحداثة” من شأنه أن يهمِّش دور الدين أو أن يعتبره ثانويًّا، فهو يصف كل المجتمعات “التقليدية” بأنها “تراحمية”، لكن سيبدو لنا لاحقًا أن لمفهوم “التراحم” في الإسلام ظلالاً أوسع تُخرجه عن حدود المفهوم الأنثربولوجي الضيق، وتميزه عن النموذج التراحمي في المجتمعات التقليدية غير الإسلامية (لا ننكر هنا أن لباقي الأديان السماوية أثرها في مفهوم التراحم)، حتى ينظم مجموعة من المفاهيم الإسلامية الأخلاقية (بر الوالدين، صلة الأرحام، الإحسان، الأخوة الإيمانية، الحب في الله، الصدقة، الجوار…)، لكنها أيضًا مفاهيم اجتماعية تعكس منطق العلاقات والقيم، وتنبني عليها أحكام شرعية وقانونية، فمفهوم التراحم في الإسلام يتأسس على سنن الاجتماع الإنساني والفطرة والأخلاق لكنه أيضًا مفهوم اجتماعي/سياسي يحترم التعاقدية في تنظيم بعض جوانب هذه العلاقات، بيد أنه ينظر لها من اقتراب تنظيم الحقوق وحفظها لا من اقتراب مادي وضعي، فلا يؤسس عليها فلسفة الحقوق ذاتها بل يرتكز على وحي هادٍ وقدوة نبوية راشدة تجربتها تمثل نموذجًا لامتزاج الأخلاقي بالاجتماعي في تناغم تأسست عليه حضارة فريدة.

المادية.. جوهر التعاقد

يقوم الفكر التعاقدي المحض على الرؤية المادية (بالمعنى الفلسفي) والتي جنحت لها الحداثة الغربية في تطورها ومسيرتها من بداياتها الإنسانية المؤمنة التي ترغب في تحرير الدين من فساد الكنيسة والخروج من نفق الحروب الطائفية المظلم إلى المنعطف العلماني المتطرف الذي كرس تحرير الإنسان من الدين، وما لبثت الحداثة أن انتقلت من المثالية العقلانية التي تنشد الخير العام عبر المشاركة السياسية ومنظومة الحقوق المدنية إلى عقلانية نفعية براجماتية شرسة أسست على التعاقدية بالمعنى النفعي الرأسمالي نظرياتها حول الطبيعة الإنسانية والنظام الاجتماعي الفرداني، بل إن بعضهم عرَّف الحداثة بأنها “التخلي عن كل العلاقات الأولية/ الكونية، مثل علاقات القرابة والانتماء للقبيلة والعلاقة المباشرة بالطبيعة، وتأسيس علاقات غير شخصية مبنية على التعاقد والمنفعة”. فالرؤية التعاقدية ترى المجتمع باعتباره تركيبًا بسيطًا تتسم عناصره بالتنافر المصلحي، لكن يحدث التجانس عندما يدرك الأفراد أن الحد الأدنى يوشك أن يتهدد فيستعيد توازنه مرة أخرى.

ويلعب القانون بنصوصه الواضحة الدور الرئيسي ويتراجع دور العرف والفضل للهامش. وتهيمن في ظل هذا التصور رؤية الإنسان بأنه “ذو بعد واحد” -بتعبير هربرت ماركوز الشهير- إنسان طبيعي/مادي، ومن ثم فالطبيعة تسبق الإنسان.

وهذا التفكير الذي يرى أسبقية الطبيعة على الإنسان يختزله إلى قوانينها ويُخضعه إلى حتمياتها بحيث يصبح جزءًا لا يتجزأ منها. ومن هنا كان من الطبيعي أن يختفي الحيز الإنساني التراحمي لهذا الإنسان البسيط “الطبيعي”، ويتقدم العقل النفعي على القيم والمثل والمشاعر الإنسانية التي تتراجع لدرجة أدنى وتتسم بالنسبية.

أما الرؤية التراحمية فترى المجتمع باعتباره تركيبًا مركبًا، تتسم عناصره بالتجانس والتنوع مع الاعتراف بالتعددية والاختلاف، والعلاقات بين الأفراد علاقات مركبة متشابكة لا يمكن التعبير عنها من خلال عقد قانوني واضح (وإن تم احترام مساحات القانون). ورؤية الإنسان هنا أنه كائن اجتماعي مركب، متعدد الأبعاد، إنسان/إنسان وليس إنسان/طبيعة، ومن ثم فالإنساني يسبق الطبيعي المادي ويتقدم عليه.

الحداثة.. وما سواها

ليس التنافر والتعارض المعرفي والنسقي بين الحداثة والتقليد كما تتحدث أدبيات ما يسميه أصحابه بالـ”التنوير”، بل هو في الحقيقة بين رؤية صلبة مادية وأخرى عضوية تراحمية؛ فالصراع بين التعاقد والتراحم يتجلى في المساحة الاجتماعية، ومن هنا لم يكن غريبًا أن الإنجازات العلمية والتكنولوجية أحدثت -ولا تزال- تغيرات اجتماعية لا يتم ترشيد مسارها بدعوى التجريب والنسبية الاجتماعية والأخلاقية، فتكون النتيجة أن ينحسر سلطان الدين والتقاليد والقوانين الأخلاقية لتحل محلها مشاعر الفردية/الأنانية والتناحر في طلب المنفعة.

فمع كل ثورة يحققها العقل في مجال التكنولوجيا لا بد من حدوث تعديلات ملائمة ومحسوبة في الاجتماع والسياسة والثقافة لضمان جدوى التغير التكنولوجي ونفعه، وبحيث تتقدم البشرية على قدمين فلا تحقق المكسب المادي وتخسر المكسب الإنساني فتضحي إنجازاتها التاريخية عرجاء منقوصة. والرؤية المادية تتجلى في عالمنا المعاصر في الحياة اليومية من خلال العملية الاستهلاكية التي تقوم بتغيير وجه العالم والحياة الاجتماعية وتحوِّل العديد من العلاقات عن مسارها إلى “التسلع”، بحيث يصبح كلُّ شيء له مقابل، وخاضعًا للتبادل النفعي. وهذا أدى في الدراسات الاقتصادية والاجتماعية إلى شيوع التركيز على عملية الاستهلاك والعلاقة بين المنتج والمستهلك -أي الإنسان بوصفه كائنًا استهلاكيًّا! – كما أدى إلى “إنتاج” و”استهلاك” المكان من خلال صناعات الخدمات، خاصة السياحة.

وليس غريبًا أن مصطلحي “التسلع” و”التشيؤ” ينتميان إلى منظومة واحدة مع “التعاقد”، كتجليات للرؤية المادية. وهي بالرغم من الفروق الدقيقة بينها تلتقي في نظرتها إلى العلاقات الاجتماعية؛ فقد أدت الثورة الصناعية لأن تصبح الحياة الاجتماعية مرتبطة بالعمل والإنتاج والمؤسسات الاقتصادية أكثر منها بنمط حياة الأسرة والانتماء لجماعة اجتماعية؛ أي النظر إليه باعتباره جزءًا من عملية الإنتاج لا عضوًا في مجتمع مركب الدوائر، وهو ما أدى إلى اغترابه نتيجة عزله عن محيطة الاجتماعي.

وكانت النتيجة أن رأى “إنسان الحداثة” خلاصه وتحريره في البحث الدائم عن اللذة المباشرة، ومن ثم فالسلعة هي “أيقونته الكبرى” بتعبير المسيري، وهكذا يترجم التشيؤ نفسه إلى تسلّع، ومن ثم تصبح عملية تبادل السلع هي النموذج الكامن في رؤية الإنسان للكون ولذاته، ولعلاقاته مع الآخرين. وفي مجتمع السوق هذا يكون “التعاقد” هو الحالة الطبيعية للتعامل مع الآخر.

ولذلك كله كان نقد مدرسة فرانكفورت لنظام السوق الذي رأوه المسئول عن عبادة السلع أو صنميتها (وبتعبير ماركس: تَوَثّنها)؛ وهو ما أضفى على علاقات الناس بالأشياء وببعضهم طابع السلعة وحصرها في نطاق المنافع والوسائل المجردة من كل لمسة شخصية أو إنسانية.

الحق.. تعاقدًا

عودةً لإشارتي السَّابقة إلى “العقد الاجتماعي” أرى أن ثمة صلة بين فكرة “العقد” وفكرة “الحق” الغربي، فالحالة التعاقدية هي التجسيد الملموس لفكرة الحق الغربي المبني على “المنفعة”، وأن العلاقة بين الأفراد علاقة تناحرية، وهو منشأ القول بـ”العقد الاجتماعي” وابتناء “الدولة” الحديثة إنقاذًا له من حالة التوحش أو الفوضى قبل نشأة الدولة (المنقذة).

ومن هنا لم يكن غريبًا أن فكرة “الحق” انتشرت في كتابات مفكري نظرية “العقد الاجتماعي” توماس هوبز، وجون لوك، وجان جاك روسو، في ظل السعي المحموم لعلمنة الدولة وفصلها عن الدين بعد تجذر الثورة الفرنسية.

وبناء على مفهوم “الحق الطبيعي” في المنظومة الغربية الذي لا دخل للدين فيه ولا يعترف بالنشأة الطبيعية التطورية للمجتمع السياسي ودور النبوة والرسالات السماوية فيه، تم إعادة صياغة نمط العلاقات بين الأفراد، خصوصًا مع تحول مفهوم “السلطة” من المؤسسات التقليدية -خاصة الدين- إلى الدولة فباتت هي المظلة القانونية لهذه العلاقة “الحقوقية” وصاحبة المرجعية ومصدر الشرعية وفق القانون الذي يُقرره غالبية الأفراد، وهنا يمكن فهم الإلحاح على اتفاقيات حقوق الإنسان ثم المرأة، ثم الطفل، والشواذ… تأسيسًا على العلمنة، وكنتاج للحالة التعاقدية، ويمكن اللجوء إلى الدولة لصون حقوق الأب والأم والابن، كل منهم ضد الآخر بالتوازي. ومن هنا تقلص دور “الأسرة” النواة الرئيسية لعلاقة التراحم مع وجود الحالة التعاقدية ومؤسسات أخرى تقوم بدورها كالمدرسة والإعلام بإشراف الدولة.

ولم يكن نتاج “مجتمع السوق” الذي وعد بالحرية والسعادة والأمن سوى “الاغتراب” وعدم اليقين، بل وتفشي العنف المدني رغم محدودية العنف السياسي لسيطرة الدولة، اللهم إلا عنفها هي “المشروع” ضد الخارجين عليها، أو عنفها الحربي ضد الآخر؛ عدوانًا أو إمبريالية منظمة.

التعاقد.. وتلبيس المفاهيم

فكرة الحق الفردي هذه، والتي هي أساس الحالة التعاقدية، دفعت بعدد من المفاهيم إلى تحولات مختلفة لمواءمة الرؤية الجديدة للعلاقة بين الذات والآخر؛ فالمرأة هي ذلك الفرد -لا العضو- في أسرة، ومن ثم يتم التركيز على حقوقها استنادًا إلى الحالة التعاقدية وإمعانًا فيها.

وازدراء “الأمومة” يأتي من كونها لا تتفق مع التعاقد، ومن هنا كان العزوف عن “الإنجاب” أو حتى الزواج الشرعي/القانوني، وتحول العلاقة مع الرجل إلى مفهوم “المتعة” التي تتساوى فرصة المرأة والرجل في الحصول عليها ويتساويان فيها (علاقة تبادل، لذة مقابل لذة) وهو ما سجله استطلاع جرى مؤخرًا على مطالب المرأة الإيطالية. والعمل المنزلي لا قيمة له إلا إذا صار بمقابل كما تطالب النسويات الآن، أي ما لم يدخل في الحالة التعاقدية. بل إن العلاقة بين الرجل والمرأة كثيرًا ما تم تصويرها على أنها علاقة تناحرية تعاقدية، ولذلك جاء كثير من مطالب الجمعيات النسوية منسجمًا مع هذا التصور. وتلح النسويات العربيات على “بنود” حقوقية للمرأة تأخذ شكل الصيغة القانونية وضرورة فضح العنف ومقاضاة الزوج به و… و… وهو ما يعني تحويل العلاقة الزوجية إلى حالة التعاقد في كل تفاصيل الحياة اليومية.

لكن هل يمكن الآن في زمن العولمة -مع حديثنا عن صراع بين التراحم والتعاقد- تصنيف ما هو تعاقدي من المجتمعات وما هو تراحمي؟ لا شك أن الأمر أكثر تركيبًا من هذا التبسيط فلا نستطيع القول بأن مجتمع ما هو بكليته على هذه الصفة أو تلك؛ فالنماذج التحليلية أدوات للفهم والتفسير مجردة بطبيعتها، والواقع به تنوعات، قد تغلب التعاقدية في لحظة أو مكان، وتقل في لحظة ومكان آخر، ففي دوائر الأعمال والمال والاقتصاد والتجارة تزيد التعاقدية في العلاقات حتى الإنسانية منها، لكن الوجه التراحمي يبرز في الأزمات المجتمعية، وفي المدن تبدو الاستهلاكية أكثر مما هي عليه في الضواحي والريف والقبائل والعشائر في المجتمعات التي تجمع بين هذه الأشكال والدوائر الاجتماعية، وهكذا.

وهذا في الدول الرأسمالية والنامية على حد سواء، والمدن في ظل العولمة مراكز رأسمالية بينها تشابهات أيًا كان مكانها على خريطة العالم.

هذا يعني أنه من الصعب صبغ مجتمع ما بأكمله بأنه تراحمي أو تعاقدي، لكن يمكن بدرجة كبيرة الحديث عن نموذج حاكم في المجتمع، وبقدر دخوله في الحداثة وتَبني أفراده لمفرداتها؛ يكون تعاقديًّا، وبالعكس.

وإذا كان لا يمكننا القول إن مجتمعاتنا العربية مجتمعات تراحمية خالصة بسبب اختراقات الحداثة، والدخول -ولو بأقدار مختلفة- في عالم السوق، فإنه أيضًا لا يمكن القول إن التعاقد سرى فيها كلها، أو في كل فئاتها، فهو قد يكثر في دائرة دون أخرى، وقد يكثر في مجال مهني دون آخر، وهكذا. فهو لا يزال يحتفظ بخاصيات دينية وثقافية تمكِّنه من الممانعة ضد التحديث رغم الاختراقات، وما زال الإنسان يقاوم المادية هنا وفي كل المجتمعات بأشكال وصور متنوعة تنوع الثقافات ذاتها.

ولنأخذ مثال التحولات التي طرأت على الأسرة العربية وانشطار الأسرة الممتدة إلى مجموعة من الأسر النووية -لا نزال نبحث في مفهومها الأنثربولوجي- ومع ذلك بقيت الأسرة كبنية محتفظة بعلاقاتها وروابطها. البعض يرهن هذه التحولات التكوينية للأسرة في الجزيرة العربية مثلاً لبداية السبعينيات مع دخول الأقطار الخليجية مرحلة ارتفاع أسعار النفط وتحقيق فوائض عالية وقيام الصناعة، وهي بدايات تحديث المجتمع الذي طاول شكل الأسرة، وأحدث بعض “الاختراقات” على مستوى العلاقات، لكن لم يُسجل تبدل في منظومة القيم تجاه العلاقة بين الأبوين والأولاد، على الأقل، فلا تزال القيم الدينية حاكمة على مستوى الأسرة النووية، وإن كنا نجد أن الانشطار الذي أصاب الأسرة الممتدة أضعف من قوة العلاقات خارج الأسرة النووية بالمقارنة مع الماضي، فضلاً عن متغيرات الحياة وتعقيداتها المتزايدة وضغط إيقاعها اليومي المتسارع.

وهنا لا بد أن نسجل ملحوظة، هي أن الضبط الاجتماعي (من خلال علاقات العائلة الممتدة والجيرة والحي حيث الكل يشعر بالمسؤولية الاجتماعية والأخلاقية تجاه أولاد الحي) الذي كانت تتمتع به المجتمعات التقليدية الخالصة خفَّ مع الدخول في تشظي المدن وتقلص أثر الجيرة والحي، ولكن هذا لم يكن بسبب انشطار الأسر الممتدة فقط، بل بفعل تغول الدولة من ناحية، وتعدد مصادر التربية والتثقيف (سلبًا وإيجابًا) الرسمية وغيرها من وسائط تشكيل الوعي كالإعلام والفضائيات والشبكة العنكبوتية.

وكان عالم اجتماع مصري بارز مثل أ.د. “أحمد أبو زيد” قد توقع نشأة نسق جديد من القيم في القرن الحادي والعشرين، من ضمن هذا النسق أنه “سوف تزداد داخل المجتمع الواحد النزعات الفردية على حساب الشخصية الاجتماعية المتماسكة، وبذلك تزداد حدة التنافس أو الصراع الداخلي بين الأفراد كوسيلة لتحقيق المكاسب الشخصية الخاصة”.

إن هذا التصور يبدو ممكنًا ومقنعًا، وبه قدر من الصحة نشاهده عياناً في ظواهر حياتنا اليومية، لكن لا يمكننا تجاهل تأثير قوى مختلفة في المجتمع، أبرزها وأشدها الدين الذي يبقى على الدوام مشدودًا إلى ثوابت ومطلقات، وكذلك لا بد من الاعتراف بصلابة المؤسسات الدينية التقليدية ودورها في هذا، وممانعتها ضد إضفاء مشروعية على التحديث برغم كل التحديات، على ما في ذلك من سلبيات على الاجتهاد والإبداع الفكري أصعدة أخرى.

المفهوم الإسلامي للتراحم.. التميز والتركيبية

وإذا كان التراحم في علم الاجتماع الغربي يقتصر على الصلات العائلية والقبلية فإن تتبع المفهوم في تجلياته الأخلاقية والسلوكية من خلال النصوص الإسلامية التأسيسية يثبت أنه يتجاوز الأسرة والقبيلة والعشيرة حتى يشمل كل الناس، فعلى المستوى الإسلامي تتأسس العلائق كلها على أساس “الأخوة” الإيمانية (إنما المؤمنون إخوة) فهي ليست إخوة القرابة والنسب، وبناء على هذه الأخوة يتأسس كثير من الأخلاق الإسلامية المعروفة كالحب في الله، والبغض في الله، والإيثار، والتعاون، وحقوق الجوار،… ما يعني أن هذه الأخوة ليست مجرد عاطفة يحملها الفرد لأخيه المسلم -على أهميتها- بل توجب عليه حقوقًا تجاهه في مقابلها، و”من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربةً فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة” (رواه البخاري ومسلم). بل إن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالإعلان عن “العواطف” -وهو شكل من أشكال التراحم- فيقول: “إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه” (رواه أبو داود وابن حبان) و”ألق السلام على من عرفت ومن لم تعرف.

وإذا كانت العلاقة داخل الدائرة الإسلامية علاقة “أخوة” فإنها مع غير المسلم في المجتمع الإسلامي تأخذ بعدًا إلزاميًا وذمة كما في الحديث: “من ظلم معاهَدًا أو تنقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة” (رواه أبو داود) ونعلم أن هذا المفهوم غاب عن التعامل مع الذمي لأسباب مختلفة معظمها سياسي وليس دينيا.

أما على المستوى الإنساني العام فهي مؤطرة بقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء) ما يعني أن العلاقة بين أمة الرسالة وأمة الدعوة علاقة رحمة محضة {لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى} (الشورى).

إن تميز المفهوم الإسلامي لا يقتصر على شموليته؛ بل كونه يحتوي دومًا على بعد غيبي متجاوز (ميتافيزيقي) بما يتناقض تمامًا مع الرؤية المادية ويميزه عن الرؤية التقليدية غير الدينية؛ حيث تتداخل العلاقة بين الناس والله، وترتبط دومًا بالواجب الديني، ومبدأ “الثواب” و”العقاب” الأخروي.

والمفهوم الإسلامي الممتد للأسرة برباط المصاهرة والنسب والرضاع وما يرتبه من حقوق متداخلة في نسق التشريع الإسلامي يكفل استمرار التراحمية في المجتمع.

إن العلاقات في التصور الإسلامي تخرج عن تجاذب الثنائية المتضادة تعاقد/تراحم، بل تنبع من رؤية واحدية للعلاقات حيث نجد التراحم يحيط بالتعاقد ويقوض انفلاته وجنوحه حين يطلب مثلاً إلى الدائن إنظار المعسِر، بل يزيد فيقول سبحانه: {وأن تَصَدّقوا خير لكم} (البقرة: 280)، ويعتبر الزكاة “حقًّا” للفقير على الغني {وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم} (المعارج 24-25)، وحين يعتبر القرض (دفع مال لأجل غير محدد من دون مقابل أو زيادة ربوية) للمحتاج إقراضًا لله سبحانه {من ذا الذي يُقرِض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له أضعافًا كثيرة} (البقرة: 245) وكذلك وجوب الإنفاق على الوالدين وغير ذلك.

لكن تجدر الإشارة إلى أن الفوضى المفاهيمية لدى عدد من حملة المشروع الإسلامي تجعلهم لا يحسنون التعامل مع الحقوق والواجبات ضمن دائرة التراحم خاصة في الحياة العامة، ولكون خبرتهم بالعمل المؤسسي ضعيفة بل تكاد تكون معدومة، والمؤسسات الحديثة -طبيعتها- تتطلب قدرًا من الانضباط العام والمجرد وكثيرًا من الصرامة والدقة، لأجل ذلك يبدو الفرد التقليدي عامة (والإسلامي المشار إليه) عاجزًا عن التعامل مع الوضع الجديد فيظل على فرديته (وهي غير الفردية الحداثية) النابعة من ولاءاته التقليدية لنفسه وأسرته بل ودولته بدافع من وطنية شوهاء، ومن ثمّ هو يرفض الانصياع للقوانين العامة لأنها تتجاوز هذه الولاءات والتصورات. وهنا يتساوى المسلم مع غيره من أبناء المجتمعات التقليدية التراحمية ويغدو للتعاقد عندئذ مزايا حفظ الحقوق والواجبات، والنظام والانضباط في الإنجاز واعتماد معايير الكفاءة، في حين أن التصور الإسلامي يميز بين المفاهيم بدقة.

فمثلاً في الوقت الذي يأمر بكتابة الدَّين وتوثيقه يرغِّب في المسامحة به مع المعسِر، وفي الوقت الذي يطلب فيه السماحة في المعاملات كلها يأمر بإتقان العمل، وفي الوقت الذي يأمر فيه بجبر الخواطر يحذر من توسيد الأمر إلى غير أهله وهكذا… بل إنه في الحياة الخاصة -كالزواج مثلاً- يبالغ في التراحم والبعد عن التعاقد {وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهنّ فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعلَ الله فيه خيرًا كثيرًا} (النساء: 19)، و”لا يَفْرَك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقًا رضي منها آخر” (رواه مسلم).

إنه “معمار” مركب من الحقوق والواجبات، الفضل والعفو، الميزان الدنيوي والتقوى الفردية، يصعب تفصيله في مقال نرجو فقط أن يكون قد ألقى الضوء على فكرة مهمة ربما تعين الفرد في حركته اليومية في مدن الحداثة التي نعيش فيها على تجنب المزالق ومراقبة النفس والسعي نحو الاحتفاظ بالتراحمية ودعمها لأنها الوصف الدقيق للإسلام الذي جاء.. رحمة للعالمين.