شكّل البحث في مقاصد الشريعة الإسلامية، وكيفية استثمارها في الصناعة الفقهية، وآفاق إمكاناتها التجديدية: انشغالاً محوريًّا في الجهود الإصلاحية والنهضوية، منذ نشأتها مع الإمام الجويني، مرورًا بالشاطبي، وانتهاءً بابن عاشور والإصلاحية الإسلامية.

إن جوهر الفكر المقاصدي يقوم على “المصلحة”، وأن هذه الشريعة الإسلامية إنما أشيدت لتحصيل مصالح العباد في العاجل والآجل، وأن “الشارع وضعها على اعتبار المصالح باتفاق.” ومن هنا فإن “كل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث: فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل،” وإنما يتم دركها بإعمال المجتهد جهده العلمي والعقلي في تعقل الأدلة الشرعية من أجل فقهها تفسيرًا وتعليلاً ثم استدلالاً، ومن هنا شكّل “التعليل” أساس الفكر المقاصدي عند الأصوليين، وهو بالضرورة مبني على أن الأحكام الشرعية -من أوامر ونواهٍ- معقولة المعنى.

والفكرة المقاصدية نشأت ابتداءً كجزء من باب القياس عند تقسيم الأصوليين للعلة بحسب قصد الشارع، وأنها ضروريات وحاجيات وتحسينيات، ومن ثَم كانت مقاصد الشريعة الإسلامية لا تتجاوز -في الاعتبار- كونها مبحثًا من مباحث أصول الفقه. ثم توسع القول بها إلى حد عدها شرطًا للمجتهد الواجب إحاطته بمقاصد الشرع، وصولاً إلى القول “بعلم المقاصد” مع الإمام الطاهر بن عاشور.

والعديد من الباحثين في مقاصد الشريعة الإسلامية يُعنون بالتأريخ لنشأة الفكرة المقاصدية، ومع أن الكثيرين منهم عزوا إلى الشاطبي فضيلة ابتكار هذا الفن، فإن بعض الباحثين حاول نسبة الفكرة إلى إبراهيم النخعي من التابعين، وآخر ذهب إلى القول: إن “الصحابة هم أول الملتفتين وأول المراعين لمقاصد الشريعة الإسلاميةولحكمة الله تعالى،” وعلى هذا: “فمقاصد الشريعة ومعرفتها ومراعاتها ليست شيئًا اكتشفه اللاحقون أو ابتكره المتأخرون، بل هو من صميم الدين من أول يوم ومن أول فهم.

وعلى صعيد الكتابات، فقد وصل بعضهم إلى عزو نشأة الكتابة المقاصدية إلى الحكيم الترمذي (عاش لأواخر القرن الثالث) وأنه أول من استعمل لفظ المقاصد في كتابه “الصلاة ومقاصدها،” وأن قيمته تكمن في منحاه التعليلي؛ فهو يعلل أفعال الصلاة على نحو أن العبد “بالوقوف يخرج من الإباق، وبالتوجه إلى القبلة يخرج من التولي والإعراض، وبالتكبير يخرج من الكبـر …”، وكذلك كتاب “محاسن الشريعة” للقفال الكبير (365ه) الذي طرد تعليل الشريعة حتى في العبادات، وغرضه “الدلالة على محاسن الشريعة، ودخولها في السياسة الفاضلة السمحة، ولصوقها بالعقول السليمة … والمقصدُ فيه [الكتاب] تقريب الشرائع إلى العقول في الأصل، وجواز وقوع السياسة فيها؛ لما بينا أنها وقعت من حكيم عليم بالعواقب مستصلح.”

غير أن الخوض في أول من أشار إلى مقاصد الشريعة الإسلامية، أو كتب فيها قد يطول، وقد وُجد من الباحثين كما أسلفنا من بدا وكأن هدفه نزع الريادة عن الشاطبي في هذا العلم، وفي تقديري أن القضية تعود إلى مسألتين بالغتي الأهمية في الحديث عن المقاصد:

الأولى: تتمثل في تحديد مصطلح المقاصد ومدلوله، وعلاقته بمفاهيم العلة والحكمة والمصلحة والمغزى ومراد الشارع وأسرار الشريعة وغيرها من المفاهيم المتعددة. فالقول بترادف تلك المفردات كان أساس عدِّ رجلٍ مثل الحكيم الترمذي من أصحاب الفكر المقاصدي؛ فنهجه على سبيل المثال لا يكاد يدخل في مفهوم مقاصد الشريعة الإسلامية الذي تبلور لاحقًا، ومسلكه السابق أقرب إلى مسالك الصوفية في التعليلات الرمزية.

والثانية: تتمثّل في تحديد الوظيفة المقاصدية نفسها، أهي قاصرة فقط على دور “الكشف” عن أسرار الشريعة وحكمها؟ أم دور “منتج” للأحكام يمثل أحد مصادر الشريعة التي يتم الاحتكام إليها والصدور عنها؟

فمن يعدّ المعنى الأول “الكشفي” يُدرِج كتب “محاسن الشريعة” التي ابتدأ تدوينها منذ القرن الرابع، مثل كتاب “محاسن الإسلام” لأبي عبد الله البخاري (546ه) وكتاب القفال الكبير، وكتاب أبي الحسن العامري (381ه) “الإعلام بمناقب الإسلام”، والتي لو أُدخلت في باب المقاصد ستجعل من دواعي الاهتمام المقاصدي المعاصر اليوم “التحديات والمنافسات والمزايدات، وأيضًا ما أصاب شريعتنا من حيف وتشويه وتهميش” .

ومهما اختلفنا في تفاصيل التأريخ للمقاصد، وبالرغم من وجود دراسات عديدة للفكر المقاصدي عند شخصيات عدة تبدأ من عمر بن الخطاب وتمر بالإمام مالك والغزالي والقرافي وابن تيمية وغيرهم ، فإن ثمة حلقات “مركزية”، تعزى إليها التطورات التي وقعت في الفكر المقاصدي إلى أن استوى على سُوقه علمًا متكاملاً، وهي: الإمام الجويني (478ه) والإمام الشاطبي (790ه) والإمام الطاهر بن عاشور (1379ه/1973م).

وإذا كان الاهتمام الفقهي والمقاصدي توجه إلى دراسة توجهات ونظريات هؤلاء الثلاثة من منطلق فقهي ومعرفي، فإن الباحث في ملابسات نشأة الفكرة المقاصدية وسياقها لديهم، والبواعث المنتجة والمكوّنة لتفاصيل تلك الرؤى: سيجد نقاطَ تلاق عدةً بينهم، يجمعها الهم الإصلاحي على اختلاف التحديات والآفاق، وعلى اختلاف الزمان والمكان. ولذلك سنركز هنا على هذا البعد تحديدًا من خلال تلك المحطات البارزة.

هنالك دراسات تحيل الفكرة إلى ما قبل الجويني كما أشرنا، وكذلك إلى عدد ممن هم قبل الشاطبي، لكن جوهر الفكرة التي نرصدها هنا هو أن هنالك خصوصية شديدة لتلك الأسماء الثلاثة، كما سنبين ذلك، فضلاً عن أنهم أصحاب “نظرية” أُفردت بالبحث والدراسة . وبخصوص المحاولات السابقة عليهم فقد ذكرنا أنها ترجع إلى ضبط مصطلح “المقاصد” ومدلوله. فضلاً عن أن الطرح الجزئي الذي يكاد يكون تطويرًا جزئيًّا لفرع من فروع أصول الفقه أو مسألة من مسائله يختلف عن الطرح الكلي والتأصيل النظري والتطبيقي وصولاً إلى القول بإنشاء علم مستقلٍّ عن علم أصول الفقه اسمه: علم مقاصد الشريعة الإسلامية.

إن البحث في المقاصد – وهي قفزة نوعية في الفقه الإسلامي – يحيل إلى جوهر الانقسامات الحاصلة في الفقه الإسلامي الذي هو “خلاصة الفكر الإسلامي والمظهر الأكثر تمثيلاً لطريقة الحياة الإسلامية،” ولهذا كان أكثر المواطن إثارة للمشكلات أمام الضمير الإسلامي الذي يتحرك في حياته اليومية بناء على فكرة “الحلال والحرام” والتي هي جوهر الفقه ومحوره، وهو يحاول التكيف مع متطلبات الحضارة الحديثة. ومن هنا يبقى الفقه العنصر الحاسم في الصراع الذي يخوضه -داخل العالم الإسلامي في صدامه مع الحداثة الغربية- كلٌ من تياري الغائية والنصية، أو ما يسمى بالحرفية والذي يلصق تاريخيًّا بالتوجه الظاهري وحاليًّا بالتوجه السلفي الكلاسيكي.

وليس غريبًا بعد هذا أن الشاطبي على وجه التحديد يشغل، مكانة مركزية في الانشغال الفكري والفقهي من خلال كتابيه: “الاعتصام” و”الموافقات”. فـ”الموافقات” جوهره التعليل والبحث في تحقيق الغايات بشكل يجمع بين الجزئي والكلي. و”الاعتصام” جوهره محاربة البدع والتزام السنة المأثورة، وهو من عدّ “البدعة” دومًا مذمومة وليس فيها حسن وسيء. ومن هنا كان من الطبيعي أن يتم استثمار الاعتصام من قبل التوجه السلفي، والمقاصد من قبل التوجهات الإصلاحية والفقهية التقليدية في محاولاتها لتجنب تهميش الفقه أمام متغيرات الحياة ومتطلباتها الحديثة؛ “فالتعليل هو الذي فتح عين الفقه، بل هو الفقه أو هو لباب الفقه، وليس الغرض منه إلا أن نعرف مقاصد الشارع الحكيم من النصوص.”

أولاً: المقاصد: سؤال المشروعية

تحولت المقاصد إلى مادة مستقلة بدأ تدريسها منذ قرن من الزمن على يد ابن عاشور، ثم تم تعميمها قبل نحو عشرين سنة على عدد من الدول الإسلامية، وتكاثرت الدراسات المتخصصة حول مقاصد الشريعة الإسلامية في العقدين الأخيرين، وتم إحالة الفكرة المقاصدية إلى عهد الصحابة والتابعين، بل قيل كما سبق: إنها من صميم التشريع الإسلامي. لكن بالرغم من كل ذلك فلا بد من تذكر أن الشاطبي الذي أفرد هذا العلم بالتدوين، حاول أن يبدد قلقًا قد ينتاب قارئي كتابه فقال: “فإن عارضك دون هذا الكتاب عارض الإنكار، وعَمِي عنك وجه الاختراع فيه والابتكار، وغرّ الظانّ أنه شيء ما سُمع بمثله، ولا أُلف في العلوم الشرعية الأصلية أو الفرعية ما نُسج على منواله أو شُكل بشكله، وحسبك من شر سماعُه، ومن كل بِدع في الشريعة ابتداعه: فلا تلتفت إلى الإشكال دون اختبار، ولا ترْمِ بمظنة الفائدة على غير اعتبار؛ فإنه – بحمد الله – أمرٌ قررته الآيات والأخبار، وشدّ معاقده السلف الأخيار، ورسم معالمه العلماء الأحبار، وشيّد أركانه أنظار النظّار، وإذا وضح السبيل لم يجب الإنكار، ووجب قبول ما حواه، والاعتبار بصحة ما أبداه والإقرار.

بل إن الشاطبي يقرّ بأنه أمسك عن ذكر أشياء مخافة أن يصير ذلك “فتنة على بعض السامعين”، “ومن هنا لا يُسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد، حتى يكون ريّان من علم الشريعة: أصولِها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد والتعصب للمذهب؛ فإنه إن كان هكذا خيف عليه أن ينقلب عليه ما أودع فيه [أي الكتاب] فتنةً بالعرَض، وإن كان حكمةً بالذات.”

وقريب منه نجد كلام الإمام الجويني الذي رأى أن “فاضل هذا الزمان من يفهم مداخل هذه الفصول ومخارجها … والمرموق…: من يحيط بشرف هذا الكلام وتميزه عن كلام بني الزمان” ، وهو – كالشاطبي – يعدّ ما أتى به “لا يُلفى مجموعًا في الفقه” ، وينفي تهمة الابتداع أيضًا بالقول: “لا أبتدع ولا أخترع شيئًا، بل ألاحظ وضع الشرع وأستثير معنى يناسب ما أراه وأتحراه؛ وهكذا سبيل التصرف في الوقائع المستجدة التي لا توجد فيها أجوبة العلماء معدة.”

إن هذا كله يطرح تساؤلاً حقيقيًّا عن مشروعية البحث والقول بمقاصد الشريعة الإسلامية، أليس هناك علم أصول الفقه الذي يضبط العملية الاجتهادية، وبه يتم استنباط الأحكام التفصيلية؟ وعلى وجه التحديد ألم يكن في القياس الفقهي غنى وكفاية لشمول الأحكام للحوادث غير المتناهية؟

إن المقاصد تتطلب محاولة التفريق بين الظن والقطع واستنباط قواعد كلية جديدة لمراجعة مسائل فقهية مقررة، وإن فُرض أن هذا الكلام يعدّ كلامًا غامضًا مستعصيًا على فهم المتأخرين، فالجواب بأن مسائل أصول الفقه ومصطلحاته لا تخلو من الغموض والتعقيد. ومن هنا يقتضي الحديثُ عن مشروعية المقاصد تناولَ عدد من المسائل.

1- جمود الفقه:

لا يعدم المتأمل لما كتبه الجويني، بعد أن قرر جدة مقولاته وابتكارها، أن يجد نقدًا وإشارة واضحة لمن يسميهم “ناشئة في الزمان شَدَوا طرفًا من مقالات الأولين، وركنوا إلى التقليد المحض، ولم يتشوفوا إلى انتحاء درك اليقين.” الأمر نفسه نجده عند شيخ الشاطبي أحمد القباب (778ه) في وصف المتأخرين أصحاب المختصرات بأنهم “أفسدوا الفقه؛” ولذلك قرر الشاطبي في مقدماته أن تحصيل “مقاصد العلم” إنما يحصل بمشافهة العلماء وتحرّي كتب المتقدمين؛ فإنهم “أقعد به من غيرهم من المتأخرين.”

أما ابن عاشور فيرى أن “اقتصار أغلب الفقهاء على الكليات الفقهية وتفريع الجزئيات عليها وميلهم إلى التقديرات وتكرير الفروع كان “أقدم فساد أوجب تأخر الفقه وأطمع فيه القاصرين حيث رأوه غير محتاج إلى نظر أو خدمة علوم أخرى، بل هو صور لها أحكام تؤخذ مسلّمة،” ومن ثم “حُصرت مسائل الفقه فيها.”

وإذا كان الداعي إلى وضع علم أصول الفقه ما أدركه السلف المؤسسون للمذاهب من ضرورة البحث في مقاصد الشريعة الإسلامية بتتبع تصاريف أحكامها، فإن اقتصار علماء الأصول على إثبات القليل منها في مسالك العلة “مثل مبحث المناسبة والإخالة والمصلحة المرسلة” أدى إلى ضعف التأليف في علمَي الفقه والأصول.

2- المقاصد .. وعلم أصول الفقه:

إن القول بالمقاصد في العملية الاجتهادية يطرح تساؤلاً مهمًّا عن علاقته بأصول الفقه، وهو سؤال طرحه ابن عاشور في التأسيس للقول بعلمٍ للمقاصد، مقرِّرًا أنه لا غُنية بأصول الفقه، “فمعظم مسائله مختلَف فيها بين النظّار، مستمر بينهم الخلاف في الأصول تبعًا للاختلاف في الفروع .. وقد استمر بينهم الخلاف في الأصول؛ لأن قواعد الأصول انتزعوها من صفات تلك الفروع؛ إذ كان علم الأصول لم يدوّن إلا بعد تدوين الفقه بزهاء قرنين … لذلك لم يكن علم الأصول منتهىً ينتهي إلى حكمه المختلفون في الفقه، وعسر أو تعذر الرجوع بهم إلى وحدة رأي أو تقريب حال.”

وبهذا لم يعد علم الأصول محققًا للهدف الذي أُنشئ من أجله؛ لارتباطه بمقتضيات المذهب الفقهي؛ وقد قال الشوكاني: “هذا الفن الذي رجع كثير من المجتهدين – بالرجوع إليه – إلى التقليد من حيث لا يشعرون ووقع غالب المتمسكين بالأدلة بسببه في الرأي البحت وهم لا يعلمون.

إلى ذلك فإن “معظم مسائل أصول الفقه لا ترجع إلى خدمة حكمة الشريعة ومقصدها، ولكنها تدور حول محور استنباط الأحكام من ألفاظ الشارع بواسطة قواعد تمكّن العارف من انتزاع الفروع منها أو من انتزاع أوصاف تؤذن بها تلك الألفاظ، ويمكن أن تجعل تلك الأوصاف باعثًا على التشريع فتقاس فروع كثيرة على مورد لفظ منها، باعتقاد اشتمال تلك الفروع كلها على الوصف الذي اعتقدوا أنه مراد من لفظ الشارع، وهو الوصف المسمى بالعلة”؛ فهم “قصروا مباحثهم على ألفاظ الشريعة وعلى المعاني التي أنبأت عنها الألفاظ؛ وهي علل الأحكام القياسية.”

وقد سبق الشاطبي إلى توجيه انتقادات إلى علم الأصول، ورأى أن “كل مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية، أو لا تكون عونًا في ذلك، فوضعها في أصول الفقه عارية … وعلى هذا يخرج عن أصول الفقه كثير من المسائل التي تكلم عليها المتأخرون وأدخلوها فيه …”

ومن هنا رأى دراز أن “لاستنباط الشريعة ركنين: أحدهما علم لسان العرب، وثانيهما علم أسرار الشريعة ومقاصدها … وقد انتصب لتدوين هذه القواعد جملة من الأئمة، بين مقلٍّ ومكثر، وسموها (أصول الفقه). ولما كان الركن الأول هو الحذق في اللغة العربية أدرجوا في هذا الفن ما تَمَسُّ إليه حاجة الاستنباط بطريق مباشر، مما قرره أئمة اللغة، حتى إنّك لترى هذا النوع من القواعد هو غالب ما صُنف في أصول الفقه، وأضافوا إلى ذلك ما يتعلق بتصور الأحكام، وشيئًا من مقدمات علم الكلام ومسائله … ولكنهم أغفلوا الركن الثاني إغفالاً فلم يتكلموا على مقاصد الشارع، إلا إشارة وردت في باب القياس … مع أن هذا كان أولى بالعناية والتفصيل والاستقصاء والتدوين من كثير من المسائل التي جُلبت إلى الأصول من علوم أخرى. وقد وقف الفنُّ منذ القرن الخامس عند حدود ما تكوّن منه في مباحث الشطر الأول … وهكذا بقي علم الأصول فاقدًا قسمًا عظيمًا هو شطر العلم الباحث عن أحد ركنيه حتى هيأ الله الشاطبي لتدارك هذا النقص.”

لأجل هذا اعتُبر “موافقات” الشاطبي لا يقل أهمية عن صنيع الشافعي في كتاب “الرسالة” ، وعدَّه آخرون هادفًا إلى “تأصيل أصول علم الشريعة،” وأنه “صياغة جديدة مُحْكمة الفصول واضحة البيان لعلم أصول الفقه التقليدي،” وهي مقارنة تنسجم مع طرح دراز السابق. كما عُدت محاولة ابن عاشور “خطوة سديدة نحو إنشاء علم في (أصول الأصول) في الفقه.”

وإذا كان إسهام الشاطبي لصيقًا بعلم الأصول، ومحاولةً لإعادة بنائه على أسس قطعية بدل الظنية التي حفت به، ليبدو كما بيّن دراز استكمالاً لنقص قائم، مع القول بضرورة تنقيته من المسائل العارية فيه، فإن ابن عاشور قد ذهب إلى فصل العلمين عن بعضهما، ليقول: “إذا أردنا أن ندوِّن أصولاً قطعية للتفقه في الدين حُقَّ علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة، وأن نعيد ذَوبها في بوتقة التدوين ونعيرها بمعيار النظر والنقد فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غَلَثت بها، ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر، ثم نعيد صوغ ذلك العلم ونسميه علم مقاصد الشريعة الإسلامية، ونترك علم أصول الفقه على حاله تُستمد منه طرق تركيب الأدلة الفقهية …”

إن الإمام الجويني، في ظروف الانحطاط والحملات الصليبية وسريان إحساس عميق بالقلق آنذاك على وجود الأمة وهاجس الحفاظ على الشريعة، افترض نظرية تفترض خلو الزمان من السلطتين السياسية والدينية، بمعنى زوال الخلافة، وخلو الزمان عن المفتين ونقلة مذاهب الأئمة الماضين، ليطرح تساؤلاً عن مرجع المسترشدين المستفتين في أحكام الدين حينذاك. وفي الإجابة على هذا التساؤل يطرح رؤيته للمقاصد الشرعية والدور الذي ستشغله في دائرة الْتياث الظلم وافتقاد المرجعية العلمية والسياسية.

ومن ثَم رأى بعضُ الباحثين، أن “قواعد ومبادئ علم أصول الفقه لن تستطيع مسايرة هذا التراجع أو التكيف معه وضبط مساره، لذا كان لا بدّ من تأسيس قول أو اجتهاد جديد في الشريعة يضمن القدرة على التكيف و(نخل الشريعة من مطلعها إلى مقطعها) حتى تساير ظروف الانحدار الشامل والسريع. ولن يكون ذلك القول الجديد مؤسسًا إلا على مقاصد شرعية عامة، وعلى قواطع أدلتها بدل أصول الفقه وظنية مسائله.” وهذا ما يراه أحد المعاصرين من أن “علم الأصول التقليدي الذي نلتمس فيه الهداية لم يعد مناسبًا للوفاء بحاجتنا المعاصرة حقَّ الوفاء؛ لأنه مطبوع بأثر الظروف التاريخية التي نشأ فيها، بل بطبيعة القضايا الفقهية التي كان يتوجه إليها البحث الفقهي” وهي قضايا تهم شؤون الأفراد، فكثير من قواعد علم الأصول وأبوابه التي كان يمكن أن تتسع لاستيعاب قضايا الحياة العامة قد أصابها الانحسار، وهذا ما سنفصل فيه لاحقًا حين الحديث عن الدور الوظيفي للمقاصد زمن الإصلاحية.

ولست هنا في معرض تقرير مسألة “فنية”: هل المقاصد علم مستقل أو جزء من أصول الفقه، وهي مسألة اختلفت فيها أنظار الباحثين، ولكن الهدف هو رسم دواعي المشروعية التأسيسية ومدارك النظر في انبثاق فنّ المقاصد، وكيف تمت قراءته لاحقًا من قبل بعض المعاصرين. لكن القدر الذي أود التأكيد عليه هنا هو أن هنالك انتقادات حقيقية لعلم أصول الفقه كشف ظهور المقاصد فنًّا مستقلاً عن قصورٍ – ولو جزئيًّا – في بنائه المستقر.

3- قصور القياس الفقهي:

عبّر بعض الفقهاء عن القياس بالاجتهاد، وقد شهد القياس جدلا كبيرًا في مشروعيته قبل أن يحتل مكانته تلك بوصفه المصدر الرابع من مصادر التشريع، بما هو إعمال للرأي، في ظل توجه لأصحاب الحديث تبلور منذ القرن الثاني الهجري، كان يقوم على أن العلم إنما هو الآثار، وأنه لا يقال في مسألة برأي ليس لنا فيها إمام. ومع الاحتياج إليه فرض نفسه على العملية الفقهية، وبقي نفي القياس وقفًا على المذهب الظاهري وعلى وجه الخصوص ابن حزم رحمه الله.

يقول الإمام الشافعي: “كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم، أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة، وعليه: فإذا كان فيه بعينه حكم لزم اتباعه. وإذا لم يكن فيه بعينه طُلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد. والاجتهاد القياس.

وإذا كان علم الأصول قد أحاط به ما سبق من انتقادات، فإن المنهجية القياسية التي شكلت المدخل الاجتهادي لم تعد تفي باحتياجات المجتهد، وكما أن الأصول في جملتها لا تقدم غناء فكذلك القياس على وجه التحديد، فهو لا يعدو نمطًا من القياس “المتحفظ”، يقتصر على قياس حادثة محدودة على سابقة محدودة معينة ثبت فيها حكم بنص شرعي. ومن هنا عدّه بعضهم “استكمالاً للأصول التفسيرية.” أما القضايا العامة فلا يفي بحقها هذا القياس الذي “لم يجاوز بالعقل المسلم دائرة الانتقال من جزئي إلى جزئي … ولم يترتب عليه النقلة المنهجية والمعرفية التجريبية المنتظرة والتي ظهرت بعد ذلك في أوروبا.”

وسبق للخضري أن رأى أن “الأصول التي اعتبرها الشارع في التشريع هي التي تكون أساسًا لدليل القياس”، وذكر أن أحسن من كتب في هذا هو الشاطبي. غير أن النظر المقاصدي هو في حقيقته تجاوز للقياس الجزئي، بعد أن كان نشوء الفكرة المقاصدية جزءًا من مباحث العلة التي هي أساس القياس، ولهذا أكد القرافي على أفضلية القسم الثاني من أصول الشريعة – وهو القواعد الكلية الفقهية – على القسم الأول منها وهو أصول الفقه الذي غالب أمره ليس فيه إلا قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة، إلى جانب القياس وخبر الواحد؛ ومنشأ التفضيل أن القواعد الكلية مشتملة على أسرار الشرع وحكمه.

بل إن الجويني يرى أن القياس إذا جاء على خلاف المصالح الضرورية يترك من أجلها، يقول: “إن القياس الجزئي … وإن كان جليًّا، إذا صادم القاعدة الكلية: ترك القياس الجليّ للقاعدة الكلية،” وكذلك العز بن عبد السلام لا يرى عبرة بالنظر القياسي إذا أدى إلى خلاف مقصود الشريعة.

وقد حاول بعضهم اقتراح ما أسماه “منهجية القواعد القياسية” التي تسمح لنا بالانتقال من الجزئي إلى الكلي عن طريق توظيف مبادئ العقل وعملياته: التحليل والقياس، ثم التركيب بناء على مقاصد النصوص بحيث يؤدي اتحاد مقاصد الأحكام الجزئية إلى تركيبها وفق قواعد كلية ومن ثم القياس على الكلي بدلاً من القياس على الجزئي.

4- البحث عن اليقين وتضييق الخلاف:

إن مما يتصل بالاعتبارات السابقة الباعثة على الشروع في تأسيس الفكر المقاصدي، هو أن علم أصول الفقه – بما فيه القياس – لم يحقق القطع واليقين الذي يجب أن تُبنَى عليه الأصول. وفكرة القطع نلحظها لدى الجويني الذي يعدّ أول من صنف المقاصد إلى: ضروريات وحاجيات وتحسينيات، ولحظ في بناء الأصول سياق “من يقصد منه بغية القطع،” وقال: “إن حظ الأصولي إبانة القاطع في العمل بها [أي الأصول] ليتبين المدلول ويرتبط بالدليل.” وحين افترض خلو الزمان من الفقهاء والمفتين، وتساءل عن المرجعية في زمن “التياث الظُلَم”، حاول التأسيس لمرجعية قائمة على اليقين والقطع ليس من أحكام الفقه وأصوله التي هي ظنية ويمكن لها أن تندثر، فهو “لم يفتأ يشير ضمنًا أو صراحة إلى ضرورة تجاوز الأحكام الظنية المترتبة على القياس الفقهي والمتمثلة في نتائج علم الأصول، التماسًا لقواعد جديدة مؤسسة على مقاصد شرعية عامة تسمح لأجل ذلك بالوصول إلى القطع واليقين.” ومن هنا كانت المقدمة الأولى التي افتتح الشاطبي بها كتابه هي “أن أصول الفقه في الدين قطعية لا ظنية؛ والدليل على ذلك أنها راجعة إلى كليات الشريعة، وما كان كذلك فهو قطعي،” وهو بهذا يريد بناء الأصول على القطع وتخليصها من الظنون وما دخلها مما هو عارية، قائلاً: “إن أدهى ما يلقاه السالك للطريق فقدُ الدليل،” والدليل هو ما يفضي إلى القطع ويرفع الخلاف. وهو المعنى عينه الذي يؤكد عليه ابن عاشور؛ إذ يقول في سبب تأليف كتابه: “دعاني إلى صرف الهمة إليه ما رأيت من عُسر الاحتجاج بين المختلفين في مسائل الشريعة؛ إذ كانوا لا ينتهون في حجاجهم إلى أدلة ضرورية أو قريبة منها، يذعن إليها المكابر ويهتدي بها المشبّه عليه” ، ويذهب في مناقشة مقالة الجويني بأنها واهية، ومقالة الشاطبي بأنها لم تأت بطائل، ليقول: إن أصول الفقه في مجملها ظنية، وإن الطريق إلى جعلها قطعية إنما هو إعادة صياغتها وتنقيتها وصوغها باسم علم مقاصد الشريعة الإسلامية.

والقدر الذي نرومه هنا هو أن الثلاثة انشغلوا بالبحث عن اليقين، بغضّ النظر عن تفاصيل مقولاتهم، وهم يسلمون بأن أصول الفقه يجب أن تكون قطعية، وسؤال القطع واليقين كان مدخل القول بالمقاصد الكلية بعد أن ظهر أن علم أصول الفقه لم يحقق الغرض منه وهو “الخروج من الخلاف”، وهنا يأتي البحث عن اليقين للتخفيف من كثرة الظنيات والاختلافات، وقد بدا هذا واضحًا في مقدمات الشاطبي وابن عاشور القائل: “هذا كتاب قصدتُ منه … توسلاً إلى إقلال الاختلاف بين فقهاء الأمصار” .

وإذا كان همّ تأسيس قواعد الاستدلال الفقهي على القطع مشتركًا بين زمرة من علماء الأصول حاولوا إنجازه في سياق نظراتهم التجديدية في علم أصول الفقه، فإن هذا الهم نفسه كان محور الاهتمام في المقاصد، وصولاً إلى استقلالها عن الأصول مع ابن عاشور ومن منطلق البحث عن اليقين وتضييق الخلاف.

ثانيًا: المقاصد والدور الإصلاحي

لقد كان البحث عن اليقين أحد المداخل المهمة التي تأسس عليها القول بالمقاصد، “فأهم المطالب في الفقه التدرب على مآخذ الظنون في مجال الأحكام،” ففضلاً عن تفوقه على القياس الفقهي الجزئي، والظني أيضًا، يسهم في تضييق الخلاف المذهبي وتجاوزه بناء على وحدة الأصول والمقاصد.

ويأتي طرح الجويني في سياق وصفه لتصانيف زمانه بأن “معظم المتلقبين بالتصنيف في هذا الزمان السخيف يكتفون بتبويب أبواب، وترتيب كتاب، متضمنة كلام من مضى وعلوم من تصرّم وانقضى،” ويصف الواقع اليومي بأنه قد “عمّ من الولاة جورها واشتطاطها، وزال تصوّن العلماء واحتياطها، وظهر ارتكابها في جراثيم الحطام واختباطها، وانسلّ عن لجام التقوى رؤوس الملة وأوساطها، وكثر انتماء القرى إلى الظلم واختلاطها،” وفي ظل هذا كله يبدو اسم الكتاب “غياث الأمم” ذا دلالة بالغة. والأبلغ، أطروحته المشار إليها سابقًا من خلو الزمان عن السلطتين السياسية والعلمية، الافتراض الذي يدفع به الحالة التي وصفها من فساد الزمان والعلماء. وقد عقد القسم الثاني من كتابه للحديث عن “خلو الزمان عن المجتهدين ونقلة المذاهب وأصول الشريعة”.

وفي ظل هذا يتساءل الجويني: “ما معتصم العباد إذا طما الفساد … وبلي المسلمون بعالِم لا يوثَق به لفِسْقِه، وبزاهد لا يُقتَدى به لخرقه؟ أيبقى بعد ذلك مسلك في الهدى؟ أم يموج الناس بعضهم في بعض مهملين سدى؟”. وهنا تأتي مساهمته و”الغرض الأكبر” في “غياث الأمم” الذي يطمح لأن يقوم بدور إنقاذي في زمن الفساد والانحطاط، وهو وجوب التمسك بالمبادئ العامة والمقاصد الكلية اليقينية حين تلتبس الجزئيات بسبب الاختلاف أو الظن، أو بسبب الجهل وانعدام المفتين ونقلة المذاهب. وهكذا تبدو قيمة المقاصد وفائدتها القصوى عند انحلال السلطة المرجعية: سياسية وعلمية، وهو ما يفيد أن طرح المقاصد في تصور الجويني “ذو هدف إنقاذي سياسي واجتماعي قبل كل شيء.” بل إن بعض الباحثين يرى أن الجويني “صرح في كل وضوح كامل بضرورة ربط مفهوم المقاصد الشرعية بكل محاولة إنقاذ من هوة الانحدار الذي بات قريبًا،” وأن هذا أصبح “الشغل الشاغل لدى العديد من مفكري القرن الثامن للهجرة من المدرستين المالكية والحنبلية.

إن رؤية الشاطبي جاءت متواصلة مع أطروحة الجويني، ومتممة لها في خطها العام، فقد مثّلت ظروف القرن الثامن الهجري وأحوال الأندلس السياق الذي انبثقت فيه تلك الرؤية التجديدية، فكانت صياغة جديدة لعلم أصول الفقه، لإعادة بنائه على أصول قطعية، تتمثل في تأسيس مقاصد الشريعة الإسلامية لتضييق الخلاف، وتجاوز خلاف المذاهب والجمود الذي أحاط بكتب الفقهاء، وجعل الأصول –أم العلوم – “عِلْمًا من جملة العلوم”. ومن هنا كانت محاولته في جوهرها محاولة منهجية لإعادة بناء الأصول، وتنقيته مما هو “عارية”، وكذلك هدفت إلى ربط العلم بالعمل بعد الفساد والانفصال الذي أشار إليه الجويني، وكانت المقاصد منطلقه لذلك. فإقحام صعاب المسائل المظنونة والمختلف فيها في العلم الشرعي المقنِّن للعمل، والذي يبغي القطع والاتفاق، ويتطلب التنفيذ والممارسة، إنما هو من قبيل الحرج وتكليف ما لا يطاق. “فالعلم المعتبر شرعًا … هو العلم الباعث على العمل الذي لا يُخلّي صاحبه جاريًا مع هواه كيفما كان، بل المقيِّد لصاحبه بمقتضاه، الحامل له على قوانينه طوعًا أو كرهًا.” ومن هنا فقد قام الشاطبي بعملية تصحيح المفاهيم، وإعادة الاعتبار للعمل بتنزيل العلم على مجاري العادات الثابتة، التي تعدّ ضابطًا لفهم الخطاب الشرعي.

وقد رأى بعض الباحثين أن الغاية المرجوة من تطبيق نظرية الشاطبي في المقاصد نتيجتان: “الأولى ذات طابع أخلاقي: فالإنسان المكلف شرعًا تكليفًا تامًّا كاملاً سوف يخرج (عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبد لله اضطرارًا) … والنتيجة الثانية ذات طابع شرعي؛ إذ يجب أن يتعلم الفقيه كيف تكون له في الشريعة نظرة كلية تسمح له أن ينتهي إلى أن (الشريعة كلها ترجع إلى قول واحد في فروعها وإن كثر الخلاف، كما أنها في أصولها كذلك.)”

إن إبراز مقاصد الشريعة الإسلامية بالشكل الذي قام به الشاطبي كان يمثل محاولة أشبه ما تكون بمحاولة ابن خلدون في المقدمة والتاريخ، وكل منهما جاء بما جاء به والأمة المسلمة في حالة تراجع فكري قد بلغ مداه. غير أن ما طمح إليه الشاطبي -وكذلك ابن خلدون- لم يكن ليحقق ثماره، ولم يتم استثماره لاحقًا، والبناء عليه، لأسباب عديدة بحاجة إلى بحث ودرس. ومع ذلك فيمكن القول: إنه كان هنالك استمرار لما انتقده الجويني والشاطبي نفسهما من جمود المصنفات وانحطاط الزمان واقتصارها على ما دوّنه السابقون، ما يعني أن المحاولات الفردية تلك، بالرغم من كونها محطات فارقة، لم تشكل زخمًا مؤثرًا وفاعلاً يوازي قوة المألوف، وبقي الغالب على علم الأصول القسم المتعلق بدلالة الألفاظ مع طغيان المجادلات اللفظية عليه “بسبب استفحال دعوى غلق باب الاجتهاد في عصور التقليد.”

ومن هنا انقلب المنحى التجديدي لدى الشاطبي إلى مانع من تداول كتابه، أما ابن عاشور فعزا ذلك إلى أنه “تطوح في مسائله إلى تطويل وخلط، وغفل عن مهمات من المقاصد، بحيث لم يحصل منه الغرض المقصود، على أنه أفاد جد الإفادة،” فضلاً عن عكوف الناس منذ القرن التاسع على المختصرات والمتون يحفظونها ووقوفهم عند أقوال السابقين. ولم يقع الالتفات إليه إلا من تلميذين له، وبمنطق ذاك العصر نفسه، فأحدهما اختصره والثاني نظمه!

إننا لا نعلم اشتغالاً بالمقاصد بعد الشاطبي إلا أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين حين تم نشر “الموافقات” من طرف حركة الإصلاح الديني بتونس؛ إذ كانت الطبعة الأولى له سنة 1884م بعد الصدى الذي تركه فكر خير الدين التونسي، الذي كان من إنجازاته الدور المهم للطباعة والنشر في تنشيط العمل الإصلاحي، وفي تلك السنة 1884م كانت زيارة محمد عبده لتونس، وفي الغالب أن تلك الزيارة مكنته من الاطلاع على الكتاب، ومن ثم لفت اهتمام تلامذته وأوصاهم بالاعتناء به كما يصرح بتلك الوصية كل من عبد الله دراز ومحمد الخضري؛ ففي حين أقبل دراز على نشر الكتاب والتعليق عليه، قال الخضري: “أخذت أطالعه مرات … وجعلت آخذ منه الفكرة بعد الفكرة لأضعها بين ما آخذه من كتب الأصول.”

أما الشيخ ابن عاشور الذي أثرى المقاصد من جديد، بل استأنف ريادتها؛ فإنه التقى عبده سنة 1903م وتأثر به، وكذلك تتلمذ على الشيخ سالم بو حاجب (1828م-1924م) الذي أعان خير الدين التونسي (1889م) على تأليف كتابه “أقوم المسالك”. وفي الواقع أنّ اهتمام ابن عاشور جاء في سياق التفات الزيتونة إليه، فالطبعة الأولى للموافقات كانت في مطبعة الدولة التونسية بتصحيح ثلاثة من علماء الزيتونة وهم المشايخ: علي الشنوفي، وأحمد الورتاني، وصالح قايجي. كما أنه كان للشيخ سالم بوحاجب وزميله خير الدين التونسي اهتمام بالفكر المقاصدي، فالتونسي يقول: “وقد نقل ابن عاشور نفسه عن شيخه بوحاجب قوله: “إن الله سبحانه ما جعل شريعتنا خاتمة الشرائع، إلا وقد أودع فيها اعتبار المصالح التي تتجدد الأزمان والمواقع بحيث مهما حدث شيء يُعرض على موازينها العادلة، فإن لم يوجد فيها ما يمنعه لم يتوقف في الانتفاع به، خصوصًا على القول بالإباحة الأصلية. ولا شك أن إمعان النظر في العلوم المشار إليها [العلوم الطبيعية من طب ورياضيات …] من شأنه أن يبين رجوعها إلى حفظ الأمور التي اتفقت الشرائع على وجوب المحافظة عليها، أعني الدين والبدن والعرض والمال.” أما خير الدين التونسي فقد كان همه جمع ما تيسر من مستجدات الأوروبيين المتعلقة بسياستي الاقتصاد والتنظيم، والتخير منها لما هو أليق بنا وبنصوص شريعتنا، وقال: “العلماء الهداة جديرون بالتبصر في سياسة أوطانهم واعتبار الخلل الواقع في أحوالها الداخلية والخارجية، وإعانة أرباب السياسة بترتيب تنظيمات منسوجة على منوال الشريعة، معتبرين فيها من المصالح أحقها، ومن المضار اللازمة أخفها.”

وقد كان خير الدين ومحمود قابادو (1871م) شيخ بوحاجب وصلا بعد تحليل الأوضاع الأوروبية إلى أن أسباب التقدم والقوة والمناعة لكل أمة واحدة، وهذه الوسائل كامنة في التقدم العلمي لدى الأمم، وخاصة في تقدم العلوم الرياضية والطبيعية، وخير الدين يزيد على هذا العدل ويعدّه الدعامة الثابتة، وهما يتفقان على التشهير بمن يرون الأخذ عن الغرب بدعة وكفرًا، ولو كان علمًا نافعًا وخطة محكمة.

وحين زار عبده تونس للمرة الأولى 1884م التقى كتلة من الإصلاحيين (من إصلاحيي الزيتونة ومن خريجي المدرسة الصادقية الذين تشبعوا بالثقافة الغربية) وكانوا جميعًا متأثرين بفكر خير الدين ومحمود قابادو، وابتهج عبده بوجود جماعة تؤمن بنفس الأفكار التي كان يعمل على نشرها في المشرق، بعد انفصاله عن الأفغاني، الذي كان يرى ضرورة مكافحة الاستعمار الأجنبي قبل القيام بأي عمل إصلاحي، في حين كان يرى عبده التركيز على الإصلاح الثقافي والتعليمي مناديًا بضرورة الأخذ عن الثقافة الغربية.

هذا التقارب الشديد والالتقاء بين الإصلاحيتين المغاربية والمصرية يفسر إلى حد كبير الانشغال بالمقاصد، فقد شكلت فكرة المقاصد المدخل للأخذ عن الغرب، والقول بضرورة الأخذ بالعلوم الطبيعية والتطبيقية، وممارسة الشأن العام. ومن هنا نتفق مع من يقول: “إن الإصلاحية الإسلامية تحالفت موضوعيًّا مع رجالات عصر التنظيمات العثمانية في مجال إقامة منظومة جديدة تستوعب المتغيرات العالمية التي أحدثتها صدمة الغرب؛ ضمن المجالات الجغرافية والديمغرافية الرئيسة في عالم الإسلام؛ وصولاً إلى أمرين اثنين: إقامة نظام سياسي جديد، وتجديد دعوة الإسلام وفقهه، وفي هذين المجالين قدمت الإصلاحية أطروحتين أساسيتين: المنافع العمومية والتنظيمات.” وفي مجال تجديد الوعي بالإسلام دعوة وثقافة وفقهًا تمت إعادة اكتشاف فكرة المقاصد، بل استثمارها، من خلال “الموافقات.

ففي سياق صدمة الغرب وهاجس البحث عن التقدم ووطأة الإحساس بالتخلف، وفي مواجهة الموقف المحافظ والتقليدي في العلاقة مع الغرب، لجأ الإصلاحيون إلى استثمار فكرة المقاصد لبناء وتأسيس مشروعية الأخذ الانتقائي عن الغرب بما يتوافق مع الشريعة، ولمواجهة الموقف المحافظ، وذلك أن آلية القياس التقليدية لم تكن تفي لإحداث التجديد المطلوب لشموليته وعمومه، كما أن البحث في المقاصد ترافق مع الاهتمام بالإصلاح التعليمي لدى كل هؤلاء الإصلاحيين الذين كانت لهم ممارسة واضحة في هذا المجال.

وبالرغم من تلاقي الإصلاحيتين المغاربية والمصرية على الهم المشترك والاحتفاء بمقاصد الشاطبي، إلا أن تعاطي كل مدرسة معها كان مختلفا؛ ففي حين تعمقت في المغرب الكبير، وتوزعت على إصلاحيين عدة، وبتوظيف كبير في مسائل الشأن العام وإصلاح التعليم والعلاقة مع الغرب، لجأ عبده إلى توصية تلاميذه بمقاصد الشريعة الإسلامية للشاطبي، فاكتفى دراز بالتعليق عليه، والخضري بالاقتباس من أفكاره، واستعاد القاسمي ورشيد رضا فكرة المصلحة لنجم الدين الطوفي، فنشر القاسمي رسالة للطوفي حول رعاية الشرع للمصالح، هي منتزعة من شرحه الأربعين النووية وعلق عليها منوهًا بها، ونقلها رشيد رضا في المنار سنة 1906م (ج 10). ثم كتب رضا مقدمة تعريفية بكتاب الاعتصام للشاطبي الذي نشر سنة 1913م بدار المنار بمصر؛ الأمر الذي رآه بعض الباحثين تراجعًا لصالح السلفية في أثناء التغير الذي أصاب مسيرة رضا الفكرية.

ويبدو لي أن الاهتمام المغاربي بالمقاصد جاء في سياق انتماء الشاطبي لتلك المنطقة فهو أندلسي، وكان طبيعيًّا أن يتم اكتشافه في المغرب العربي أولاً، وعلى إثر ذلك نشأ جيل كبير من المهتمين به والمتبنين لفكرته، ومما زاد من حضوره أن رجالات الإصلاح في المغرب كانوا من بين رجالات الحركة الوطنية، والسياسيين، وكانوا يتبنون قناعة مؤداها إقامة دولة عصرية تقود عمليات التجديد في مواجهة الغرب الزاحف. ومن هنا وجدنا ذلك الاستثمار لمقاصد الشريعة الإسلامية في مسائل الشأن العام والتنظيمات والاقتباس عن الغرب، والقول بأن سر التقدم هو الأخذ بالعلوم الدنيوية التي ترجع إلى مقاصد الشريعة الإسلامية، الأمر الذي دفع إلى إصلاحات تعليمية واسعة تم تنفيذ جزء كبير منها تحت مظلة رجال الإصلاح في الحركة الوطنية.

ويرى بعض الباحثين أن فكرة مقاصد الشريعة الإسلامية انكمشت ثم توارت في منتصف القرن العشرين لصالح السلفية الجديدة، التي شهرت سلاح السّنّة النبوية في وجه دعاة التجديد، وأرجع ذلك إلى “اختلال علاقة الفقه بالدولة، في حقبة ظهور السلطات الوطنية في عشرينيات هذا القرن”، وبسبب انفصال نخبة الدولة عن رجال الفقه مطلع القرن العشرين. ومضت في سبيلها الخاص في استحداث تعليم مدني منفصل عن التعليم الديني، وفي وضع قانون مدني، وفي الاتجاه لإنشاء كيانات وطنية خاصة على نهج الأمة/الدولة الأوربي،” فوجدت النخبة الإصلاحية نفسها معزولة عن المجال العام، ولم يعد مفيدًا ولا مسوَّغًا الاستمرار تحت مظلة المقاصد التي تعطي لرجل السياسة الفرصة لتجاوز نصوص الشريعة بزعم التلاؤم مع مقاصدها.

إلا أن البحث المقاصدي شهد في العقدين الأخيرين اهتمامًا ملحوظًا، فضلاً عن تحوله لمادة تدرّس في عدد من الجامعات، مع خفوت في بعده التجديدي السابق، فقد عاد – بشكل عام – ليكون جزءًا من البحث الأصولي، وتحول إلى نهج جزئي تقني الطابع في العملية الفقهية، بمعنى البحث في أسرار الشريعة وحكمها، وفق وظيفة كاشفة للحكم أو تبريرية لا منتجة له. وقد انشغل العديد من الدراسات والأطروحات الجامعية بالمقاصد وفق المنطق الفقهي التقليدي بناءً وضبطًا وتتبعًا لنشأة الفكرة المقاصدية بمعزل عن سياقاتها، وعلاقتها بالظروف السياسية والتاريخية، كما انشغل العديد منها بدراسة فكرة المقاصد عند إمام ما، ومع أن أحد المختصين بالمقاصد والمشرفين على عدد من الرسائل الجامعية فيها، رأى أن هناك “صحوة مقاصدية معاصرة” إلا أنه لم يجد بدًّا من الاعتراف بأن البحث “ينمو بطريقة عفوية أو عشوائية.

الخاتمة:

يمكن القول في ختام هذا البحث: إن الفكرة المقاصدية تتوزع على ثلاث مراحل: الأولى مرحلة النشوء حيث كان هناك دواع علمية إصلاحية في سياق تراجع فكري والتياث الظلم، ونشأ القول بالمقاصد في سياق البحث عن تجديد فقهي، وبهدف إنقاذي، ومن هنا تم البحث عن “اليقين” المرجعي لتجاوز الظن المحيط بأم العلوم (أصول الفقه) الذي لم يحقق الهدف من إنشائه (إلغاء الخلاف أو تضييقه)، فأدى إلى توسيع الاختلاف، فكان القول بفكرة المقاصد المبنية على اليقين، للمساهمة في تضييق الخلاف، وهو ما شكل إعادة صياغة للأصول على أسس قطعية.

في المرحلة الثانية وهي مرحلة الاكتشاف أو الاستثمار، كان هنالك هم إصلاحي عام في سياق صدمة الغرب الحضارية والسياسية، وتم استثمار فكرة المقاصد في سياق إعادة بناء فكرة الشأن العام، ولإصلاح التعليم الديني، في إطار البحث عن التقدم الذي أساسه التقدم العلمي وخاصة العلوم الطبيعية. وفي هذا الإطار تم القول بصحة الاقتباس عن الغرب بما يتوافق مع الشريعة ويحقق المصلحة العامة، ومن ثم شكلت الفكرة المقاصدية مدخلاً لتأسيس القول بمشروعية الاقتباس، ومرجعيةً للرد على الموقف المحافظ القائل ببدعة أو كفر الأخذ عن الغرب.

المرحلة الثالثة، مرحلة الدراسات المعاصرة والتي انشغلت بالفكرة المقاصدية في إطار الهم الفقهي لمد سلطان الفقه وفق منطقه التقليدي على مستجدات الحياة، لتجاوز محاولات تهميشه، بعد انفصال نخبة الدولة عن الفقهاء، وأخذهم بتشريعات مدنية وتعليم مدني، وإنشاء كيانات وطنية تستلهم النموذج الأوربي. وقد غلب على تلك الدراسات الانشغال الأكاديمي وفق منطق الفقه نفسه، ودون عزل المقاصد عن فكرة القياس، ولمحاولة ضبط العلاقة بين النص والمقصد، وفي هذه المرحلة خرج الاهتمام المقاصدي عن المنحى التجديدي الذي رافق المرحلة السابقة.

ويبقى أن المنحى الفقهي المقاصدي شكّل مدخلاً مهمًّا لتجديد الفقه الإسلامي ومد سلطانه على الحياة المعاصرة لمواكبة تطوراتها بعد أن شهد تهميشًا كبيرًا في ظل قيام الدولة الحديثة، وبهذا فرض المنحى المقاصدي الاعتراف بمشروعيته بعد أن كان موضع تهميش وتردد في مرحلة نشأة القول به، وموضع تهمة بأنه مطية للتغريب في مرحلة الاكتشاف. أما الآن فما عاد يجسُر أحد على القول إنه ضد القول بالمقاصد أو لا يراعيها، وإن كان (التقليديون) يلجأون إلى الحديث هنا عن “ضوابط” القول بها، وعن محدودية دورها وأنه تبريري وليس إنشائيًّا.

صحيح أن المقاصد تشهد اهتمامًا كبيرًا في العقدين الأخيرين، إلا أن وجه الاهتمام بها ما عاد قاصرًا على المنحى الفقهي فقط، بل تعداه إلى أن فكرة المقاصد تُمدّ الجميع – تقليديين وإصلاحيين- بمادة جيدة لمنافسة الغرب في امتلاك نظرية عامة، وكذلك في الرد على الشبهات حول الفقه وأحكامه من حيث إنها تزودهم بتعليلات وحكَم تفيد بأن تلك الأحكام باقية ومستمرة، فضلاً عن أن البعض بات يرى في المقاصد علمًا مهمًّا لمواجهة التحديات المعاصرة للإسلام؛ فهي أشبه ما تكون بعلم بيان محاسن الإسلام وتشريعاته.

والذي أراه أن تشعب التوظيفات المقاصدية هذه، بالرغم مما ينطوي عليه من فائدة هنا أو هناك، يبقى توظيفًا وقتيًّا، في إطار الجدل والسجال والتحديات، وهذا من شأنه أن يعكر على الوظيفة المعرفية (الإبستمولوجية) للمقاصد التي تبقى مستمرة على نطاق ضيق في زحمة تلك الاهتمامات فضلاً عن التوظيفات الإيديولوجية للمقاصد من قبل الخطاب العلماني والتحديثي.