في سياق تشريحه للعقل العربي يذهب المفكر محمد عابد الجابري رحمه الله إلى أن الخطاب العربي في مجالاته الأساسية (الفقه والفلسفة واللغة) تسيطر عليه فكرة واحدة تنتظمه كله رغم اختلاف المصطلحات الخاصة بكل علم من الناحية الشكلية، وتعتمد هذه الآلية الذهنية الموجهة والحاكمة على ربط فرع بأصل لمناسبة بينهما، أي القياس تلك الآلية التي نظر لها الشافعي في الرسالة واعتمد عليها النحاة والمتكلمون.
يقول الجابري متحدثا عن تلك الآلية:”… إنه القياس بتعبير النحاة والفقهاء، أو الاستدلال بالشاهد على الغائب بتعبير المتكلمين، والتشبيه بتعبير البلاغيين، إن هذا يعني أن هناك قاعدة base إبيستيموليجية واحدة، ولنقل نظاما معرفيا واحدا، تؤسس الإنتاج النظري في العلوم العربية الإسلامية” تكوين العقل العربي ـ ص 131
ويقوم الجابري في فصل عنونه بـ:(التشريع للمشرع..القياس على مثال سبق) ، بشرح منهج الشافعي الذي يعتبره أحد أهم أقطاب تأسيس العقلانية الإسلامية في التاريخ الإسلامي، حيث استطاع بوضعه تلك الأصول الأربعة (الكتاب والسنة والإجماع والقياس)، استطاع أن يجمع بذكاء ودقة بين أصول أهل الحديث وبين أصول أهل الرأي، “على أساس الفصل في مسألتين منهجيتين: حدود الرأي وشروطه (القياس) من جهة، وعلاقة اللفظ بالمعنى في البيان القرآني من جهة ثانية.
لقد انتبه الشافعي مبكرا إلى خطورة نتائج الصراع الحدي الذي كان قائما بين الفقهاء في زمانه، والذي كانوا فئتين تغلِّب إحداهما العقل بينما تغلِّب الأخرى النقل، وقد أدى هذا الصراع إلى نشوء ظواهر سلبية وخطرة على كيان الشرع، منها ظاهرة وضع الحديث حين لا يجد المفتي ما يقوي به حجته، ومنها ظاهرة الإيغال في التنظير العقلي الذي قد يؤدي إلأى غياب روح الشرع لتحل محلها اختيارات الأشخاص وأذواقهم، يقول:
“… لقد كان الحديث يتضخم بالوضع تحت ضغط الحاجة إلى تغطية المسائل المستجدة واقعيا، والتي كانت تغذي الفروض النظرية وتبررها.. وكان الرأي يتضخم هو الآخر ـ إن جاز هذا التعبير ـ بالذهاب بعيدا مع الفروض النظرية تلك، والعدول أحيانا كثيرة عن استيحاء النصوص وسيرة السلف إلى (الاستحسان) العقلي المحض، وإذن، فلقد كان لا بد من تأسيس البحث على قواعد يراعيها الجميع تجعل حدا للحاجة إلى وضع الحديث، وتقف بالرأي عند حدود معينة واضحة، وتلك هي المهمة التي قام بها محمد بن إدريس الشافعي المطلبي” ص 102
لقد استطاع الشافعي بتقريره القياس ضمن الأصول الأربعة للتشريع أن يقوم بعملية تهذيب وتشذيب لأطراف النزاع، حيث سحب بالقياس وشروطه من “ابي حنيفة ما يعتمد عليه الرأي عنده (الاستحسان)، ومن مالك ما كان يقوم لديه مقام الحديث في حالة عدم توفره (المصالح المرسلة)، وبالتالي يكون الشافعي قد خطط لإرجاع كل شيء إلى الكتاب والسنة بواسطة القياس.
“… إن القواعد التي وضعها الشافعي لا تقل أهمية بالنسبة لتكوين العقل العربي الإسلامي عن(قواعد المنهج) التي وضعها ديكارت بالنسبة للفكر الفرنسي خاصة والعقلانية الأوروبية الحديثة عامة” ص 100
لقد كان القياس ـ في نظر الجابري ـ هو القنطرة التي جمعت بين أهل الحديث وأهل الرأي في علم الأصول، فهل اقتصرت هذه الآلية على علم الأصول فقط ؟ ذلك ما سنعرض له في الفقرات الموالية.
اعتمد المتكلمون نفس الآلية الذهنية واستنبتوها داخل فكرهم الاستدلالي لتصبح إحدى قواعد علم الكلام، وأطلقوا عليها (الاستدلال بالشاهد على الغائب)، إنه نفس المفهوم الذي اعتمده الشافعي في الأصول مُعبَّرا عنه بصيغة أخرى، وينقل الشافعلي نصا للقاسم بن إبراهيم بن إسماعيل الرسي الزيدي(169 ـ 246)، يقول:”…ثم اعلم أن لكل حجة من هذه الحجج أصلا وفرعا، والفرع مردود إلى أصله، لأن لها أصولا محكمة على الفروع”، ويعلق الجابري بقوله:
“…فالتعامل مع الأصول يتم هنا، في علم الكلام المعتزلي، بنفس الآلية الذهنية التي يتم التعامل بها مع نفس الأصول هناك في الفقه، إنها آلية رد الفرع إلى أصل، التي لا تختلف في شيء، بوصفها آلة ذهنية لا غير، عن القياس: قياس الفرع على الأصل أو الغائب المجهول على الحاضر المعلوم”.
أما في علوم اللغة وخاصة النحو فقد اعتمد مصطلح القياس دلالة ومنهجا، ويقرر الجابري أن القياس تجاوز مهمته الأصلية في النحو التي هي (حمل بعض كلام العرب على بعض) قبل أن يؤلف الشافعي كتابه (الرسالة)، ويطرح الجابري سؤالا مهما حول أيهما كان الأسبق في التشريع للعقل العربي؛ النحو أم الفقه؟.
وبعد نقاش للمسألة يذهب الجابري إلى أن النحو كان الأسبق مستدلا بأن الفقه تأسس أول أمره على النقل بينما تأسس النحو أول أمره على القياس والعقل، وهل النحو بالتعريف إلا: (علم بمقاييس مستنبطة من استقراء كلام العرب)!، كما كلا القولين المتداولين حول نشأة النحو وبداياته كانتا قبل تأليف (الرسالة)، سواء اعتمدنا أبا الأسود الدؤلي أو تأخرنا إلى عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي الذي يجمع مؤرخو النحو على أنه كان ممن مارس النحو بمنهجية وقياس، أما أسبقية النحو في القياس للمتكلمين فلا يمكن الحسم فيها لأن النحاة الأوائل كانوا متكلمين.
ولم يكن علم البلاغة ليسلك طريقه دون أن يعتمد نوع اعتماد على تلك الآلية الذهنية التي شكل الحبل السري لكل نتاج العقل العربي(القياس على مثال سابق)، وهل التشبيه والاستعارة والكناية إلا نمط من الاستدلال بالشاهد على الغائب، ولعل في نقاش البلاغيين واضطرابهم في توجيه قوله تعالى:(طلعها كأنه رؤوس الشياطين) شاهدا عدلا على هذه الفكرة، ويروي الجاحظ أن بعضهم قال:إن رؤوس الشياطين غير محسوسة ولا معروفة فكيف يمكن أن تشبه بها شجرة الجحيم؟ ولذلك زعم بعضهم أن رؤوس الشياطين اسم لنبات في اليمن، أي أنهم جعلوه حسيا حتى يستقيم التشبيه والقياس.
إن القياس على مثال سابق، في نظري الجابري، آلية ذهنية وجهت وتحكمت ـ وما تزال ـ في العقل العربي، وكانت بمثابة الجهاز العصبي الذي يحرك ويحكم أثناء الحركة، ولم يخل علم من العلوم التي أنتجتها الثقافة الإسلامية من تأثير هذا الأصل، كما أنه أسس في التاريخ العربي لمرحلة من العقلانية استطاعت الأمة تجاوزت بالأمة كثيرا من العقبات الفكرية والنوازل الفقهية والعقدية واللغوية.