قد يكون الاغراق في التنظير شكلا من الإسراف في التفكير الذي يرهق العقل بلا جدوى؛ وذلك عندما يبقى التنظير مجردا من العمل، خاليا من التطبيق، وقد يكون الإسهاب في تشخيص المشكلات واعمال العقل على تسطير حلول لها ناتج عن فراغ في معاني الحياة، بالأخص بالجانب العملي منها.

ما سبق ذكره يشير إلى فكرة مركزة ومكثفة حول جوهرية فكرة الجانب العملي من الحياة التي تغطي جانب كبير من حياة الإنسان؛ إذ أهدافه مترابطة إلى حد كبير بهذا الجانب ؛ بل هو الجانب الذي يشكل الغاية من التنظير لبناء الحياة، وتيسر سبل العيش السليم لأهلها، وبها يقاس ازدهار الأمم وتقدمها.

الكاتب الراحل مالك بن نبي تطرق إلى هذا الفكرة في أكثر من موضع في كتاباته، وكان لها التركيز الجوهري في كتاباته لشروط التقدم والنهضة؛ ففي كتابه ” مشكلة الثقافة” يعتبر أن غياب المنطق العملي يسبب كثير من الكلام في تشخيص المشكلات، وكثرة اقتراح الحلول لها؛ إذ كل واحد يرى الموضوع من زاوية تعكس ثقافته ورؤيته وتجربته، والنتيجة كثرة التنظير، أو على حد تعبير “مالك بن نبي” بكثرة الثرثرة إذ يقول في الكتاب السابق ذكره أنه عندما يغيب المنطق العملي تكثر الثرثرة؛ إذ أن وجود المشروع العملي يشكل حيزا من حياة الإنسان يسد عن كثير من الكلام، إذ اصبح التنظير مشروعا حقيقيا ماثلا للعيان .

وبالإضافة الى كتابه السابق ففي كتابه مشكلات الحضارة: شروط النهضة وضمن العنصر الأول الذي هو الإنسان يفرد عنوان خاص بعنوان المنطق العملي إذ يقول : ” ونحن أحوج ما نكون إلى هذا المنطق العملي في حياتنا ، لأن العقل المجرد متوفر في بلادنا، غير أن العقل التطبيقي الذي يتكون في جوهره من الإرادة والانتباه فشيء يكاد يكون معدوما” وهو يحذر من ( اللافاعلية) إذ يقول ” إننا نرى في حياتنا اليومية جانبا كبيرا من ( اللافاعلية) في أعمالنا إذ يذهب جزء كبير منها في العبث ، والمقالات الهازلة” ويصل إلى استنتاج قد يكون مثير للانتباه إذ يقول ” ولقد يقال : إن المجتمع الإسلامي يعيش طبقا لمبادئ القرآن، ومع ذلك فمن الأصوب أن نقول: إنه يتكلم تبعا لمبادئ القرآن، لعدم وجود المنطق العملي في سلوكه الإسلامي ” وهو يرى ان ما ينقصنا هو هذا الجانب بالذات إذ يرى في نفس الكتاب ” الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة. ولكن منطق العمل والحركة ، فهو لا يفكر ليعمل، بل ليقول كلاما مجردا بل أكثر من ذلك . فهو احيانا يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيرا مؤثرا. ويقولون كلاما منطقيا من شأنه أن يتحول في الحال إلى عمل ونشاط”.

مالك بن نبي أشار إلى فكرة – قد تعتبر من الأفكار الجوهرية- التي تشخص واقع مجتمعاتنا في مشكلاتها مع التنمية؛ تلك التنمية التي ما زال يعوزها بناء أركانها على نحو تثير النضج لتترجم الى صورة متكاملة الأركان تشق طريقها الى الواقع فيحدث التغيير المأمول ، وإن كان هذا لا ينفي وجود بعض ملامح التغيير من خلال وجود بوادر لسد صفحات من حيز المنطق العملي الذي يعاني من بعض الفراغ في بعض المناطق العربية، والتي من شأنها ان تبشر بالعطاء الناتج الذي يسد تلك الفكرة التي تشكل خللا جوهريا بحسب فكر مالك بن نبي ، ولكن ما يتبقى علينا قد يكون الكثير؛ فالحاجة أكثر من المنجز ، والمطلوب أكثر من المتوفر، وما ينتظرنا المزيد من سد ثغرات المنطق العملي في حياتنا اليومية.
رحم الله مالك بن نبي الذي حمل هم حضارة أمته، وهو إذ يشير إلى معاني عميقة في التشخيص قدما نحو البناء، وتأسيسا نحو التغيير، إذ يعتبر كما في كتابه السابق أن المقياس العام في عملية الحضارة هو أن ” الحضارة هي التي تلد منتجاتها ” ذلك هو المقياس الحقيقي، وذلك هو الحد الفاصل بين من يعمل وينجز، وبين من يتأمل ويتمنى، وبين من يكون المنطق العملي ماثلا منتجا في حياته، وبين من يعيش في خيال من الامنيات.