الهجرة نهر جار دفاق نرتوي من مائه العذب كل عام..

والهجرة منجم من مناجم الخير، ونبع من ينابيع التربية والبر والبشر يرتوي منه الصالحون، ويفيء إلى ظلاله الموفقون…

والهجرة نخلة باسقة الأغصان، دانية الجنى.. تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها…

والهجرة واد مثمر ذو ظلال وثمار لا يجتنى منه إلا الطيب الحلو النافع…

والهجرة كتاب في التربية لا تنقضي عجائبه.. ودرس في الإيمان لا يخلق على كثرة الرد…

والهجرة مصدر من مصادر التخطيط العميق، والتنفيذ الدقيق، ونهاية من نهايات الصراع الحلوة العذبة…

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة محاصرا مضطهدا، معرضا للقتل والسجن والطرد، وشتى أنواع المكر…

كان صلى الله عليه وسلم وهو يحمل مشعل النور إلى الأهل والأقربين محل اتهام من أقرب الأقربين إليه، فقد رد عليه أبو لهب: “تبا لك سائر اليوم ألهذا دعوتنا”، فـ: “تبت يدا أبي لهب وتب”…

كان صلى الله عليه وسلم الأمين بين قومه فاتهم حين حمل مشعل النور للناس بالخيانة، وكان القنوع فاتهم بالطمع، وكان الصدوق فاتهم بالكذب، وكان الراجح العقل فاتهم بالجنون، وكان المتزن، فاتهم بالسحر… فلله ما أصعب الخصام وأسوأ ما يوصل إليه الأشرار…

لقد ضاق أهل مكة بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم أيما ضيق؛

والجاهلية قد بنت أسوارها

دون الهدى فانظر إلى الأسوار

طال السور، وجعلوا أصابعهم في آذانهم، وقالوا له ما قيل للرسل من قبله، وآذوه كما أوذي من كانوا من قبله، حتى إذا بلغ السيل الزبى، جاء القرآن الكريم يوجه للصبر والتضحية من كانوا أهل حفاظ، يستحفظون من أقل كلمة، وتثور الفتن بينهم أن سبق فرس فرسا، وأن قال مسيء كلمة…

يأتي القرآن يعلم الصبر والتحمل، ويأمر بكف الأيدي وإقامة الصلاة، ويطول الابتلاء، فيعرض القرآن بالهجرة عن الأوطان، وما أدراكم ما الهجرة، وقديما قيل: “الجلاء أخو الموت”، يأتي التعريض في عدة آيات في عدة مقاطع، في عدة أماكن من القرآن، بعدة أساليب.

تارة بالأمر بالنظر في الأرض وعواقب السابقين، “أفلم يسيروا في الأرض”، وتارة في التنبيه على سعة الأرضة وعدم سيطرة الكفرة عليها “وأرض الله واسعة”، وتارة بقص أخبار القدوات السالفين، “فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي”….

وتأتي المبشرات عبر المرائي، أن المهاجر أرض ذات نخل.. وتتوق هجر لأن تكون تلك، لكن للأقدار كلمة أخرى…

ثم يعرض أن تتشرف الحبشة بالشهرة بالعدالة فتكون المهاجر الأول للطلائع الأولى، تشرئب إليه نفوس المؤمنين، ويجد فيها الصالحون المأوى، لكنه المأوى الفردي الذي يوفر الحرية الشخصية لا تنفيذ الدعوة بشتى أساليبها وطرقها…

ثم تأتي اللحظة التي يؤذن فيها للضياء أن يتوجه إلى يثرب، ويؤذن فيها ليثرب أن تكون مستقبل النور، ومهبط الوحي، ومسكن النبي صلى الله عليه وسلم، وموطنه الأبدي…

تأتي تلك اللحظة فيأتي الحبيب متخفيا على غير موعد، ويخرج من خوخة، ويتشرف الغار باستضافة أعظم كنز، والاستظلال بأعظم ظل، واستنشاق أجمل طيب، ما كان ليصل إليه لولا زهد قومه فيه…

ثم يكتب الله الشرف لقلة من الأشخاص بأن يساهموا في الرحلة التي كانت بداية تاريخ، وفاصلا في الزمان، يتشرف أولئك بتأمين الرحلة، بالزاد، أو بتوفير خبر، أو بكثبة لبن، أو بأثر أظلاف غنم، أو حتى بنومة….

كل يشارك بما عنده، والأغلب من أهل مكة محرومون والنور يخرج من بين أيديهم، ولن يسكن بين ظهرانيهم بعدها أبدا.. ويا للغبن!

يخرج النور من بين ظهراني أهل مكة، وأحسن أهل الوادي حالا من يود أن يمسك النور حتى يتخلص منه.. من يود أن يمنع الكنز من أن ينتفع به منتفع..

يخرج النور أسفا على الخروج يتعزى بترتيل قول الله تعالى: “إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد”، يلقي نظرة الوداع على أحب البقاع –حتى تلك اللحظة إليه- ليقول: “لولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت”! ويا لخيبتهم وعثرة جدهم…

ثم يوالي موكب النور طريقه

نحو المدينة صحبة الصديق

خرج الهدى من محنة التضييق

في رحلة قدسية ميمونة

أكرم بها من رحلة ورفيق

نسج العناكب والحمام ببيضه

لم يتركا للكفر من تعليق

قد أخرست أفواههم وعقولهم

وكبى جواد السبق بالمسبوق

سائل سراقة عن مسار جواده

ورجوعه بالرق لا بالنوق

ويستمر السير، وتتشرف تلال ومرابع بزور النور، وزور الضياء والظل، والبحر، والندى… ويحرم آخرون…

ليطل النور على يثرب على شوق، حين اعتلى النهار، فيكسف ضياؤه الوهاج ألق الشمس، فتضطر النواحي أن تغني:

طلع البدر علينا

من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا

ما دعا لله داع