لا تخبر ربك يا ولدي أنى قصرت، فأنا لا أقوى أن أفعل، وأنا لا أملك الا الصمت، وأنا لم لا أعلم يا ولدي! أن الإنسان في رحلة بحث عن منجا سيموت غريقا ممدودا بين الشطئان -مطلع قصيدة في رثاء الطفل السوري ايلان.

إن حديثنا عن بحر ايجه ليس من باب الترف الفكري ولكن ما يبرر وقفتنا على أطلاله هي تلك الاخبار التي تصلنا عن قيام اليونان ودول أوروبا للحد من استضافة اللاجئين السوريين والتضييق عليهم قدر الإمكان فلا بد من الوقوف على هذا البحر الذي يطل علينا على رأس كل ساعة وفي الرئيسية لكل صفحة فكرية واخبارية فنراه يراكم جثث موتانا كأنهم جزء من زبده ونؤمن أن البحر كان أرحم على أطفال سوريا من حكومات الجزيرة.

يعتبر بحر” ايجه “جزء من البحر المتوسط يطل على جزء من تركيا واليونان وجزيرة كريت وكانت مياه بحره قد قذفت لنا الملاك الصغير ” ايلان” في وجهنا لنطلق لعنات كثيرة تصيب كل من له شان في غرقه وهربه والكثيرين ممن ساروا على دربه ولقوا حتفه، إننا هنا للوقوف على تاريخ حقيقي وليس مجازي والأيام دول ولقد كان لدينا جولة وصولة مع هذا البحر الهائج والياسبة المحيطة به.

” لقد كان اليونانيين لا يستطيعون ان يغسلوا وجوههم في بحر ايجه من دون إذن الفينيقيين”.

تبدو هذه المقولة التي وضعها أحمد سوسة في معرض حديثه عن “الفينيق” مجازية بحيث أنك لو تأملت الواقع أّنذاك فستخرج من دون أي مبالغة بنفس المفردات.

وبإجماع غالبية المؤرخين يعتبر “الفينيقيون” أنهم من الكنعانيين العرب وجاء لفظ الفينيقيين من خلال اليونانيين الذين أطلقوا هذه التسمية على الكنعانيين ممن سكنوا شواطئ عكا وصيدا والساحل ولقد كانوا في القرن العاشر قبل الميلاد في أوج قوتهم وازدهارهم فأسسوا الكثير من المستوطنات والمستودعات في بعض المدن الأوروبية والمغرب العربي “الجزائر،تونس،المغرب”وكان منهم القرطاجيون كما يؤكد الكثير من المفكرين والمؤرخين هذا الامر ومن أبز مستودعاتهم وبعض مستوطناتهم على الساحل الغربي للمتوسط ” قبرص، ومرسيليا، ورومة، ومالطا، وصقلية وبعض جزر إيطاليا وبريطانيا وغيرها”.

ويؤكد الكثير من المؤرخين الذين استند إليهم احمد سوسة والمؤرخ العقيقي في كتابه المستشرقين هذه الحقائق ونجد مما يمكن اقتباسه رواية تؤرخ لمعركة كبيرة بين القرطاجيين واليونان سنة 535ق.م بعد نجاحهم في السيطرة التامة على البحر المتوسط فحاول اليونان مقاومتهم الا أن القوة التي تمتعوا بها وبأسطولهم الكبير وكفاءة سفنهم المميزة المعقوفة من كلا الجانبين استطاعوا القضاء عليهم وبعدها بعشرات السنوات ثأر الرومان لليونان واحرقوا مدينة قرطاج 146ق.م.

وكان هذا البحر طريقا لكبار الفلاسفة العرب قبل الميلاد التي تعود أصولهم الى الكنعانيين او الفينيقيين على حد سواء فنذكر هنا بعضا من هؤلاء الفلاسفة اللذين كان لهم شان كبير في بناء صروح العلم والمعرفة في أثينا رغم القابهم اليونانية وأبرز من ورد ذكرهم في هذا الصدد ووصل عبر بحر ايجه.

الفيلسوف الفينيقي المولود في قبرص احدى مستعمرات الفينيق ” زينون الرواقي” 363-264ق.م وذهب الى أثينا ونشر جمهوريته واعجبت به الجمعية الأثنية وسلمته مفاتيح الاسوار وكتب على قبره ” لن يضرك منبتك في فينيقيا ضيرا، ألم يأت قدموس -وتعتبر اليونان أن نشأة الكثير من مدنها تعود الى قدموس وهو أحد امراء صيدا في لبنان ” – احمد سوسة، تاريخ العرب واليهود. / انظر اسطورة وملحمة “قدموس” للأستاذ سعيد عقيل

ومما يجب الوقوف عنده هو أن زينون “الرواقي” الفيلسوف مؤسس الرواقية إحدى أبرز الفلسفات التي ظهرت في الحضارة اليونانية القديمة في المرحلة الهلنستية وهي فلسفة لديها رؤية شمولية وكانت تدعوا الى المواطنة العالمية – ويكيبيديا- وليس بغريب على هذا الفينيقي أن يدعوا الى المواطنة عالمية المتجسدة في الحضارة الفينيقية في ذلك الوقت.

وعندما قسم الامبراطور ماركوس اوريليوس كراسي الفلسفة وضعها على أربع: الافلاطونية، والابيقورية، الرواقية، الارسطاطالية. فكانت أروقة زينون الرواقي تعتمد في بناءها على عناصر اسيوية كالتجريدية ووحدة الوجود.

وكان منهم أيضا “اوريانوس” الصوري من مدينة صور في لبنان وتبوأ كرسي البلاغة في أثينا وكان يقود عربته المرصعة بالذهب والفضة ويستهل محاضراته بعبارته “ها قد عادت الآداب مرة أخرى من فينيقيا” وكان ممن شهد محاضراته هادريان وماركوس واوليوس ووهباه الذهب والبيوت والعبيد.

ونقرأ في كتاب نجيب عقيقي أنه بعدما شيدت أميرة صور “ديدو” مدينة قرطاجنة أصبحت من أجمل العواصم حسب زعم اليونان ومما قاله أرسطو أنها تحتوي دستورا من أرقي الدساتير وكانت ملاذا للمعرفة والتعلم في الزراعة والصناعة.

ونذكر أيضا أن اليونان التي تلاطمها أمواج بحر ايجة كانت تطلق على النجم القطبي النجم الفينيقي واستمرت هذه التسمية لفترة طويلة، ويذكر الدكتور احمد سوسة مضمون الوثيقة التاريخية التي عمل عليها المستر فالكونر 1797م والتي تذكر الرحلة الاستكشافية التي قام بها “حانون القرطاجي” كما تذكر الوثيقة كانت 600ق.م وهي تعتبر من أهم الرحلات الاستكشافية اذ حمل حانون معه 30الف من الرجال والنساء، وهي أقدم من الرحلة الذي ذكرها هيرودوتس 450ق.م تلك الحملة التي قام بها الفينيق بناءا على طلب من الملك المصري “نيخو” والتي يذكر هيرودوتس انه خلال هذه الحملة تم اكتشاف ليبيا وان الفينيق نزلوا اليها وزرعوا الى ان حصدوا ثم أكملو الطريق.

وبعد صعود اللغة اليونانية يذكر المؤرخون أنه كان هنالك من يرفضون التحدث والالقاب اليونانية ليحافظوا على تميزهم فكان منهم “مارينوس” والذي يؤكد رولنسون أنه كان من أوائل من وضع خارطة للعالم سنة 120للميلاد وكانت جميع اعمال بطليموس تعتمد كليا على اعمال الجغرافي الفينيقي مارينوس. احمد سوسة، وبعض الكتب تنقل حرفيا اعتراف بطليموس بهذا الامر.

وممن برز من فلاسفة أثينا وحطت رحاله شواطئ ايجه “بورفيروس” 233-305ق.م وكان قد أخذ العلم في صور واثينا وروما والإسكندرية حيث اخذ الافلاطونية الحديثة من افلوطين وبقي في روما يعلمها حتى وفاته.

ولا بد من الأشارة الى مسالة هامة وهي بالغة الدقة وهي أن التاريخ القديم للحضارات السامية التي تعاقبت منذ بدأ الهجرات الأولى هي وحدة جغرافية وإنسانية واحدة والقارئ للحضارة الفينيقية وأهم مدنها القرطاجية التي اخذت على عاتقها السيطرة على اسبانيا 1100ق.م وغيرها من الجزر والمدن قد كانت مرتبطة بشكل كبير مع الحضارة المصرية والبابلية والاشورية فكانت الابجدية الكنعانية هي اللغة المستخدمة بين الجميع في ذلك الوقت وأيضا يرى كثير من المؤرخين أن النظر الى الحضارات القديمة على أنها قوميات او حضارات منفصلة يشوه القراءة الحقيقية لها اذ أن دلائل وحدتها وتوحدها كثيرة وأيضا نشير الى قصة إبراهيم العربي الارامي عليه السلام مع ملك كنعان ” ملكي صادق” فكثير من المؤرخين الإسلاميين يرون ان الكنعانيين وسائر الحضارات القديمة كانت تعبد “الله” وليس ” الاله” وكان لفظ ” إيل ” يطلق على الله ونجد ان هذه اللقب كان يحظى بأهمية كبيرة لدى الفينيق أينما وجدوا وذهبوا. وقد وجد هذا الاسم “ايل” لدى الاراميين في العراق وجزيرة العرب والهكسوس في مصر فمختصر القول أن الساميين كان لديهم الكثير من المسميات المشتركة بين الالهة ويشير الكثيرين من المستشرقين انهم يميلون الى عقيدة التوحيد قبل وبعد إبراهيم عليه السلام وهذا شأن سكان سيناء وحضارات العراق.

لقد كانت هذه البلاد “مهبط الرسالات ” واحتضان الديانات أرض خصبة لنشر العلم والمعرفة والتحضر والتمدن في العالم ويذهب البعض أمثال العلامة احمد سوسة والدكتور احمد داوود ونجيب عقيقي والكثير من المستشرقين أن الحضارات السامية العربية في العراق وسوريا وفلسطين ومصر كانت هي الأساس للحضارة اليونانية وبالتالي الرومانية ومما نذكر به هنا تلك المسالة التي اقتبسها الدكتور نجيب عقيقي في كتابه “المستشرقون ص 23” عن مصادر غربية أن من بين ما أبدعته روما للحضارة هو “القانون الروماني ” الذي تشير المصادر الغربية بأن لمدرسة بيروت التي ساهم فيها السوريون والمصريون والفينيق والعراقيون باع كبير في تشريع القانون الذي عادت اليه الثورة الفرنسية في صياغة قوانينها”.

وأيضا نشير الى أن أوروبا عرفت عقيدة التوحيد من خلال أراضي العرب الفينيقيين أو الكنعانيين والتي تشير معظم الدراسات الإسلامية انه لم يتم القضاء عليهم في أي عصر من العصور حتى قدوم الفتوحات الإسلامية.

وأيضا من الهام أن نشير الى أن “كرسي البابوية” حظي به سبعة من أصول عربية أو شرقية وعلى رأسهم القديس السوري بطرس والذي يعرف أيضا بـ(سمعان بن يونا) وهو أول من جلس على كرسي البابوية وله مكانة مميزة في المسيحية والقديس ايفاريستوس المولود في بيت لحم فلسطين، والقديس انيكيتوس المولود في عاصمة الثورة السورية “حمص”.

إن بحر ايجه ليعلم تمام المعرفة أن من يلقون حتفهم الان تحت وطأة تلاطم امواجه هم أبناء أولئك الحضارات العربية القديمة الموحدة والإسلامية التي لطالما كانت سفنهم ومدنهم مفتوحة لنشر العلم والمحبة والسلام.