يلحظ المتأمل في التاريخ السياسي للدول أن المرور بالتجارب الدامية والصراعات الداخلية العنيفة التي تحصد الألوف المؤلفة من الأرواح، وتورث أبناءها تركة هائلة من المآسي الكبيرة، والقصص المروعة التي تتناقلها الشعوب جيلاً عن جيل، يكاد يكون شرطاً حضارياً لقيام كيانات سياسية حداثية، تحقق نهضة مستدامة وتنمية شاملة في الاجتماع والاقتصاد والسياسة. كما تسهم هذه التجربة المريرة، في ظاهرها، في تبوُّء مكانة حضارية هامة تمكن المجتمعات من تصدير قيمها وسلوكياتها ولغاتها وتصوراتها الثقافية إلى العالم، بل وتصبح قطباً حضارياً تدور الأمم في فلكها، وتلهج بذكر مآثرها وفنونها وآدابها وعوائدها حتى في طريقة إعداد طعامها و أنماط لباسها.

كلمة السر في هذه الحالة الحضارية المتقدمة التي تعقب حالة دموية متردية من الانحطاط الحضاري أن الذاكرة الجمعية للشعوب التي تمر بهذه التجربة تستحضر على الدوام الصورة القاتمة من تاريخها الدموي في كل مستوى من مستويات تفاعلها الإنساني. وإذا كان الإنسان على المستوى الفردي يتدرج في تجاربه الحياتية صاعداً من نزق الشبيبة اليافعة والمتهورة إلى حالة من النضج والاتزان العقلي والوجداني مستفيداً من تجاربه السيئة في كثير من الأحيان، والتي تنتهي به إلى تكوين رصيد كبير من القناعات الناضجة التي تحكم تفاعلاته وسلوكياته لاحقاً، فإن للحضارة هي الأخرى شخصيتها الجمعية التي تمر بحالة من حالات الاضطراب والإخفاق في صورة تناحرات داخلية وصدامات بين المكون الاجتماعي داخل الكيان الواحد، أو بين الكيانات بعضها ببعض داخل إقليم مشترك، لتفرز في منتهاها صيغة متقدمة من التعايش في إطار المشترك العام، والتنوع في إطار الوحدة، وإدارة الشؤون المشتركة بمقتضى التكامل والتفاعل الطبيعي واستيعاب الآخر لا الصدام والتحارب والإقصاء ومحاولة إفنائه.

ومن أهم المكتسبات الإنسانية التي جاءت ثمرة للتدافع البشري الطويل الذي شهدته أوروبا، وبشكل خاص خلال الثورة الفرنسية، هو التوصل إلى آليات سياسية متقدمة تمنع تركز السلطة في يد الفرد، وتحرص على بقائها سلطة نسبية لا مطلقة، وتكرس مبدأ الفصل بين السلطات، لتبقى إرادة المجموع سارية في نظام الحكم من خلال التداول السلمي على السلطة، ولعل هذه المفاهيم المتقدمة ما كانت لتتوصل إليها البشرية على سبيل المثال لولا الدماء الفرنسية المسفوحة على مذبح الحرية في موجات ثورية دامية طالت ارتداداتها الثقافية والحضارية العالم أجمع في السياسة والاجتماع البشري، بل وأنتجت عدداً من المفكرين الذين رسموا ملامح النظم السياسية والقانونية المعاصرة للدول من أمثال فولتير وجان جاك روسو ومونتسكيو وغيرهم.

مزقت الحروب الدينية أوروبا عقوداً طويلة، وأكلت ملايين من أبنائها، حتى ذكرت بعض المصادر التاريخية أن حرب الثلاثين عاماً هبطت بسكان ألمانيا من عشرين مليوناً إلى ثلاثة عشر ونصف مليون نسمة. وفي القرن العشرين أودت الحربان العالميتان بأكثر من ستين مليون قتيل، لتكون هذه الفاتورة الحمراء المروعة مدعاة كي تتنادى أوروبا فيما بينها من أجل التوصل إلى صيغة للتفاهم المشترك تحقن الدماء من خلال اتحاد يضمن وحدة كياناتها السياسية، ويحقق فيما بينها تكاملاً اقتصادياً، ويحفظ أمنها بخطة دفاع مشتركة، والأهم من ذلك منع تكرار المآسي السابقة، وذلك على الرغم من التباينات اللغوية والعقدية الكبيرة بين الأوروبيين.

وتبوأت الولايات المتحدة الأمريكية مكانتها العالمية بعد حرب استقلال شاقة تلتها حرب أهلية طاحنة بين الشمال والجنوب، والأمثلة على ذلك في التاريخ تطول، ويكفي أن نرى حديثاً كيف أبرز التغيير الثوري العنيف إيران كلاعب أساسي في السياسة الدولية الحالية.

أظهرت التجارب التاريخية بشكل مضطرد أن حالة التمكين الحضاري لا تتحقق إلا بعد صدام دموي كفيل بإحداث هزة في الوعي الجمعي تكون كفيلة ببث روح النهضة في الجسد العام للأمم. ولذلك فإن القنوط والاستياء الذي ينتاب قطاعات عريضة من الشعوب العربية وهي ترى حالة التناحر الداخلي الراهنة، هو استياء يعاني من قصر النظر، ولا يستند إلى مبررات تاريخية وموضوعية إذا أدركنا أن حالة الصراع الحالية هي حلقة حتمية لا بد منها لتحقيق النهضة، وأنها إيذان بأن الحضارة تتجه شرقاً لتطال العالم العربي كله في بضع سنين، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

أدري أن التفاؤل بنهضة وشيكة في ضوء المتغيرات الراهنة أمر قد يلقى استغراب كثيرين، ولكنني أزعم أن الراهن العربي اليوم هو أجدر الظروف التاريخية بالتفاؤل لسبب بسيط، وهو أن صيرورة التغيير الحضاري لدى الأمم مرتبطة بسرعة انتقال الخبر والمعلومة عبر العالم، ومن ثم سرعة التفاعل معها من قبل الشعوب، ففي هذه الأيام يتم خلال دقيقة واحدة تداول كمية معلومات عبر العالم أكثر مما كان يتداول خلال سنة قبل هذا الانفتاح المعلوماتي؛ الأمر الذي يجعل الأحداث والمتغيرات والخبرات العالمية تتعاقب وتنضج وتتبدل في فترة أقصر، وهو عامل كفيل بنضج وعي الشعوب في فترة قياسية واختصار الفترة الطويلة اللازمة للنهضة، لأن سرعة انتقال المعلومة مرتبط بسرعة وديناميكية التغيير الحضاري.

الكم الضخم من الأحداث العالمية والإقليمية الخطيرة الذي شهدناه في العقد الأخير مؤشر على هذه الحالة، وكأن عجلة التاريخ باتت تدور بأضعاف سرعتها ليستعيد الشرق مجده تارة أخرى من خلال ملحمة دامية تفرز راهناً حضارياً قوياً لهذه الأمة، وإن كانت الحالة العربية تتعثر مؤقتاً، فإن كل الثورات الناجحة في التاريخ حصل لها انتكاسات وتعافت بعد ذلك، ولكنكم تستعجلون.