إن أسباب نهضة أو انحطاط أمة ما مسألة معقدة، وإن السعي وراء كشف هذه الإشكاليات ليس من الترف الفكري فهذه المشكلة تفرضها صورة السبات والركود التي تعيشها الشعوب فضلا عن الدول، والعمل إتجاه هذه القضية لهو من أرقى الاعمال التي يمكن للإنسان أن ينشط بها ومن أجلها فكل مخاطب بهذه الآية الكريمة “واللذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون” ملزم بالعمل اتجاه هذه القضية وملزم بالانتصار لامته ودينه وإن من لا يرى البغي الحاصل على الأمة فليراجع عقله وكتابه.
وإن من أبجديات تحقيق الانتصار هو البحث عن الأسباب والمسببات والسعي دائما للوقوف على احدى الثغرات الكثيرة التي نراها في جسد أمتنا.
” هذه الرسالة مستوحاة من مقدمة كتاب “عوائق النهضة الإسلامية” للمفكر والرئيس المسلم علي عزت بيجوفيتش”
ومن الرائع إسقاط فكرة “الإقلاع” للمفكر الكبير مالك بن نبي لتكون الوعاء لفهم ما ذهب اليه بيجوفيتش حينما سرد لنا في بداية كتابه بقوله “ظهر الإسلام سنة 610م بين قبائل جاهلة بعيدة عن حضارات الشعوب آنذاك وانتقل عليه الصلاة والسلام الى الرفيق الأعلى سنة632م وبعد مرور مئة عام وقفت جيوش المسلمين تحت أسوار باريس في معركة بوتيرسا عام 732م ” إن هذه الطاقة الدافعة للإقلاع والوثبة خلال مئة عام لدليل على أن علة الإقلاع نحو التحضر والبناء مرتبطة بالشق الأول من السؤال الذي يلقى علينا في كل مقال ومقام “الانسان والإسلام والتجديد”؟؟
إن الإسلام بريء من مؤامرة الصمت وتوقف عجلة التاريخ عن التقدم وبريء عن عمليات الهدم والاندماج بالغير وفقدان الهوية والخصوصية للإنسان؟
فحين نرى أن خلال المئة عام التي أوردناها اّنفا أن سوريا فتحت عام635م وتبعتها دمشق عام 636م والهند ومصر عام 641م وقرطاجة عام 647م وسمرقند عام 676م والاندلس 710م ووصل النشاط الدعوي لتبليغ الرسالة وتحقيق الحضارة للصين عام 629م في زمن القيصر تاي شونغ وتمت الموافقة على بناء مسجد لا يزال الى أيامنا، ووقفت الجيوش على اسوار باريس عام 720م.”عوائق النهضة صـ10”
وكانت الحضارة الإسلامية في أوج نضارتها وصحتها بحيث أنها وصلت الى أرقى مستويات التحضر من إقامة للجامعات والمساجد والمستشفيات والحدائق ولعل إشارات سريعة لبعض ما كان توفر على القارئ بحث مدى رقي التحضر الإسلامي فنجد أن التاريخ أكد لنا ان بغداد كانت أكبر مدينة في العالم بتعداد سكاني يصل الى مليوني انسان ، ويقول ويسلر في وصف الرشيد راعي الحضارة الإسلامية في العراق ” كانت عظمته تجذب نوابغ الرجال من فقهاء وأطباء وشعراء ولغويين وموسيقيين وفنانين لم يسجل التاريخ ان قصر حاكم ما اجتمع لديه هذا الكم والنوع من العلماء الفطاحل”
وكانت الدراسة في المراحل الابتدائية والثانوية من دون مقابل وكانت تقدم للطلاب كافة وسائل الراحة والدعم خلال ترحالهم العلمي فأينما يممت وجهك ترى الاهتمام الكبير بالعلم والكتاب وكنت ترى في الطرقات وتقابل أفضل علماء الجغرافيا والتاريخ والفلسفة والفقه -ويسلر
وفي مجال الاهتمام بالكتب والترجمة والمكتبات نجد أن مكتبة أبي الفداء أحد امراء الاكراد تحتوي على 70الف مجلد، ومكتبة المؤيد من جنوب الجزيرة العربية تحتوي 100ألف مجلد، ومكتبة مراغة 400ألف مجلد، وكانت أسماء كتب مكتبة مدينة الري مفهرسة في عشر فهارس ضخمة، وكانت في ذلك الوقت أكبر مكتبة في العالم هي مكتبة العزيز في القاهرة بعدد مليون وستة مائة ألف مجلد….”عوائق النهضة صـ10″
وكان مما نقرأه في تاريخنا ان “إبراهيم الزركلي” قد وضع جدول “طليطلة” في ضبط دوران الكواكب وضلت أساس علم الفلك في أوروبا لزمن طويل، وقد فتح البيروني الباب أمام “كوبرنيك” بدحض نظرية انحراف الكواكب عن مراكزها التي وضعها بطليموس في تفسير دوران الكواكب
وتمكن عمر الخيام من وضع تقويم أدق من الغربي المستخدم الذي يخطئ في حساب يوم كل ثلاثة الاف وثلاثمائة سنة بعكس الخيام الذي يخطئ بيوم واحد كل خمسة الاف سنة. .”عوائق النهضة صـ11″
ويقول عالم الفلك “سايديلوت” أن علوم الفلك التي وصلت اليها بغداد هي أقصى حدود المعرفة الممكنة للإنسان في ذلك الوقت، وبرأيي أنه ليس من المبالغة لو قلنا أن مراكز علم الفلك هناك تشبه الى حد ما وكالة ناسا في وقتنا الحالي!!
ويعد “محمد بن جابر البتاني ” في القرن العاشر واضع علم المثلثات، وان مصطلحات جيب الزاوية sine وجتا cos وظل الزاوية tan كانت من وضع المسلمين العرب ويقول ويسلر في هذا الصدد انه لم يكن كل ذلك من وضع اليونانيين بل من وضع العرب اللذين يعدون بحق أساتذة الرياضيات في عصر النهضة.
أن الناظر الى المئة عام هذه يشاهد بما لا يدعوا مجالا للشك معجزة نشاط أنساني تكاد تكون ضربا من الخيال والاوهام فقد كان النشاط للإنسان يصل الى ذروته بالتقدم في كافة نواحي الحياة والتحضر بتسارع عجيب حتى تجسد كل ذلك في الاندلس التي تعتبر الوعاء الذي سكب به نتاج هذه الاعمال وهذه النشاطات ،وان جوهر ما نود الإشارة اليه أن الإسلام كان الدافع وراء هذا النشاط وكان الفهم للشريعة الإسلامية خالي من أي تعقيدات او تفسيرات فهذا النشاط هو نتيجة العمق الايماني لفهم أهداف العقيدة الإسلامية وهو يأتي أيضا لتحقيق أهداف شريعته.
إن الأثر السيكولوجي الإيجابي للعبادات انعكس بشكل فاعل على نشاط الانسان المسلم الذي تربى على القيم المستوحاة منها حتى وصل الى تحقيق تعبيرات رسول الله عليه السلام فقد كانت قيم الاحترام والعدالة والمساواة والايجابية جزء لا يتجزأ من العبادات، مما أدى بناء الى بناء مجتمع بشكل سلس بعيدا عن أي نظريات سيسيولوجيا تدعوا لتنظيمه.
من ثمار هذا المقال أو ما يمكن ان نختزله في قراءاتنا واسقاطاتنا بين الحاضر والماضي لنرى أن القوانين المؤسسة للتقدم والتحضر وبناء النموذج الحقيقي للإنسان العربي المسلم هو بمدى قربه وصفاء ارتباطه بانعكاسات عباداته على سلوكه فهو عندما يرى هذا التناغم والاستمرارية بالعبادات يعلم تماما أنه نشاطه عباره عن فلك يجري وفق نظام محكوم ومرتبط بينابيع الاصالة وعليه دائما، المحافظة على تدفق الطاقة الدافعة لاقلاعه.