الحضارة في الأصل خلاف البداوة، وتطلق في العصر الحديث على مظاهر الرقي والتطور في نواحي الحياة المختلفة، فما العلاقة بين اللغة والحضارة؟
أيُّ علاقة وثيقة تلك التي تجمع بين اللغة والحضارة، فهل هي علاقة بُنُوَّة؟ أم أُخُوَّة؟ أم مجرد صداقة بحكم المجاورة؟ قد يبدو الرابط بين الاثنين شبيها بكل تلك الأنواع من العلائق من وجه، فإذا نظرنا إلى أن الحضارة لا تقوم إلا على أساسين، هما: الأساس الفكري، والأساس المادي، والأساس الفكري يصاغ باللغة، وينقل عن طريقها؛ ليتم تداوله ونشره، ثم تقييمه وتقويمه، كل ذلك يقوم على متن اللغة لا غنى عنها، فكأنها أمٌّ تحمل وتضع، ثم تُرَبِّي وترضع، فيصدق إذن على العلاقة بين اللغة والحضارة أنها علاقة بُنُوَّة، فإذا لم ننزلها تلك المنزلة، فلا أقل من أن نشبهها بالأخوة أو الصداقة.
الأساس المادي للحضارة
يقوم هذا الأساس على القوة القادرة على إقامة العدل، وفرض النظام، والتحكم في توجيه طاقات المجتمع، فإذا جمعت إلى ذلك إرادة صادقة، وسعيا للنهوض بالأمة، كان للأمة أساس مادي لبناء الحضارة، وأهم ما يوظف فيه هو: العناية بالأساس الفكري؛ لتنطلق النهضة الحضارية بشكل متوازن، خال من الانحراف المؤدي إلى الضعف، وسرعة السقوط، فهذا إذن هو الأساس المادي للحضارة، وهذا دوره، فما هو الأساس الفكري؟
ما هو الأساس الفكري؟
الأساس الفكري هو أهم عناصر الحضارة؛ إذ بوجوده تبقى الحضارة حية -وإن ضعفت بزوال الأساس المادي- وبه تستطيع التمدد والانتشار، وقد تتجاوز المدى الذي يبلغه الأساس المادي في وقت قيامه، بل قد يمتد الأساس الفكري إلى أمم أقوى ماديا من الأمة المنتجة له، أو الآخذة به، فالأمة الإسلامية مثلا قامت على الأساس الفكري، وهو الوحي المنزل على الرسول ﷺ، ثم تدرجت به في مراحل القوة، حتى تَكَوَّنَ الأساس المادي الأول لحضارة الإسلام، وهو: الدولة الإسلامية، التي ولدت والأعداء يحيطون بها من كل جانب، فلولا أن الله أيدها بذلك الأساس الفكري القوي لم تقم لها قائمة، فهو سبب بقائها رغم فترات الضعف الكثيرة التي مرت بها.
الأساس الفكري قد يتعلق بالتشريع، وهذا ما كُفِيَتْهُ الأمة بالوحي، وقد يتعلق بطرق تعمير الأرض، والاستفادة مما فيها من منافع، وهذا ما أتيح للأمة أن تستفيد فيه من تجارب الأمم قبلها، التي كان لها أساس فكري من العلم التجريبي، الذي تحتاج إليه الأمة، فقد كان للحضارة اليونانية مثلا أساس فكري علمي، بقيت آثارها ممتدة إلى ما بعد سقوط سلطانها، وذهاب قوتها، يدل على ذلك ما جرى بين المأمون وملك الروم، حيث طلب المأمون منه مخزون اليونان من كتب الحكمة، وكان ذلك في ووقت ضعف دولة الروم، حتى تنازلت عن ذلك التراث الثمين لأسلافها. ( الفهرست لابن النديم).
ما دور اللغة في الأساس الفكري؟
اللغة هي وعاء الأساس الفكري، ووسيلة توصيله وتداوله، وفي حضنها ينمو ويتطور؛ ولذلك تُخْتار لغات الرسل تبعا للغات أقوامهم؛ ليكتمل الفهم، وتُبْنَى القناعات، وتقوم الحجة على الذين يتخلفون عن ركب الحضارة الذي يقوده الرسل، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [إبراهيم/ الآية:4].
الأمانة في نقل الأساس الفكري
اللغة تعنى بالتعبير عن التصور، وصياغة الأفكار، وتوصيل الرسائل، فلا يؤمن الحيف والميل حين يتولى هذه المهمة غير صاحب الشأن؛ لأجل ذلك أمر النبي ﷺ زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود؛ ليتولى مهمة التوصيل بأمانة، فعن زيد بن ثابت، قال: أمرني رسول الله ﷺ أن أتعلم له كلمات من كتاب يهود، قال: «إني والله ما آمن يهود على كتاب» قال: «فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له» قال: «فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم». صحيح، (رواه الترمذي وأبو داود).
روافد الأساس الفكري
الأساس الفكري بحاجة إلى روافد تغذيه، والعمل على توفيرها هو الدور الأهم للأساسي المادي للحضارة، وذلك بالاستفادة من الإنتاج الفكري للأمم الأخرى، في الجانب الذي تحتاج إليه الأمة، وحاجة الأمة الإسلامية تنحصر في العلوم التجريبية، التي يُؤَهَّل العقل البشري إلى اكتشافها، والإبداع فيها، حتى ولو لم يكن مستنيرا بنور الوحي، فهي مما يتوصل إليه بالإرادة والسعي، فيُسْتَحَق بذلك من الإمداد والإعانة ما يريد الخالق سبحانه، قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ [الإسراء: 18-20].
العمل على إيجاد هذه الروافد بدأ في العهد الأول، حين أخذ النبي ﷺ بتجربة الفرس في مجال تحصين المدن بحفر الخندق، واستفاد عمر من التنظيمات السائدة لدى الفرس فأخذ بالدواوين، فكان ديوان العسكر بالعربية، وبقي ديوان الخراج والجبايات في العراق بالفارسية، وفي الشام بالرومية، واستمر الأمر كذلك حتى جاء عبد الملك بن مروان فعرب الدواوين. (ابن خلدون في المقدمة).
هكذا توالت الاستفادة من تجارب الحضارات السابقة، حتى ظهر ذلك جليا في حركة الترجمة التي برزت في بداية العهد العباسي من الخليفة المنصور، الذي هو أول خليفة ترجمت له الكتب من اللغات العجمية إلى العربية، -كما قال المسعودي في مروج الذهب- وبلغت الترجمة ذروتها في عهد الخليفة المأمون الذي أمر بترجمة مخزون اليونان من كتب الحكمة، وجمع المترجمين لاستخراجه من الرومية إِلَى العربية – (إخبار العلماء بأخيار الحكماء/ للقفطي)- وبازدهار الترجمة في العصر العباسي تعددت الروافد، وتنوعت مادتها، وانتشرت بين الناس، وهذا ما يبرز دور اللغة في الحضارة، فهي وسيلة التوصيل، وهي وعاء الحفظ والتطوير.
مخاطر الروافد الفكرية
اللغات ليست قوالب فارغة، بل هي مرتبطة تماما بالثقافة التي تمثلها، ونقل العلوم من لغة إلى أخرى يمر عبر التعرف على ثقافة تلك الشعوب بجوانبها المختلفة، الاجتماعية، والأخلاقية، والفكرية، وهذه أخطرها، بشهادة واحد من أهل أهَمِّ تلك الحضارات، وأقواها أثرا، وهي الحضارة اليونانية، التي قال الراهب الرومي في شأنها لملكهم: “سَيِّرْها فإنك تثاب عَلَيْهِ، فإنها مَا دخلت فِي ملة إِلاَّ وزَلْزَلَت قواعدها”. (إخبار العلماء بأخيار الحكماء/ للقفطي)، وعلى ذلك فلا بد من الأخذ على حذر من تلك الروافد، وعدم الثقة المطلقة فيها، والاقتصار على العلوم النافعة، وتجنب ما هو شر محض، أو ما يغلب شره خيره.