استجابة لسنة التطور والتقدم- في الجانب المادي المحسوس- تطورت الصناعات وتقدمت تقنياتها.. ووصلت بعض الاقتصادات إلى مرحلة (الميزات التفضيلية) و(الإنتاج الكبير).. ولحقت بحقوق الإنسان حقوق الاختراع والملكية الفكرية..

وعلى صعـيد الأجهزة والمعـدات والآليات ووسائل النقل، كانت طفرات قياسية في فترات زمنية قصيرة بالقياس إلى عمر الإنسان على (الأرض)..

ومن جمهرة الأجهزة التي (طفرت) تقنياتها.. أجهزة الصوت والميكرفونات التي تخدم- بصفة أساسية- الجهات التي تستخدم وسيلة الاتصال الصوتي المباشر بينها وبين المتلقي.. ومن تلك الجهات بالطبع المساجد ونحوها..

وبنفس القدر الذي تتطور به المجتمعات الإنسانية، وتتقدم به منتجاتها- تتغـير قيم الأشياء وتختلف نسبُها عما كانت عليه في مراحل وأزمان سابقة..

في التعـليم انخفضت قيمة (السبورة) و(الفصل) ومن ثم المعلم نفسه.. فضلا عن المدرسة و(مكتب التعـليم) والمناهج البالية..

وفي الطب ما عاد الطبيب محتكرا لمرضى مدينته.. فهناك التشخيص العابر للقارات،والتمريض الإلكتروني.. هذا إذا غضضنا الطرف عن أن كل شخص متعلم قد أصبح نصف طبيب.. وثلاثة أرباع صيدلي.. وممرض كامل..

أما عن الاتصال والمراسلة.. فلا تسل عن قيمة الخطابات الورقية.. وما كانت تنشئه من مؤسسات بريد ومراكز خدمة وما إلى ذلك..

إذاً.. تطور التقنية المستخدمة في مجال (ما) يؤثر بمقادير متفاوتة في قيمة (المجال) نفسه.. فضلا عن أدواره السابقة وما يتعـلق بها.. خاصة إذا وضعـنا في الاعتبار البدائل التي توفرها الطفرات التقنية في المجالات الأخرى ذات الصلة..

المساجد باعتبارها مراكز اجتماعية للإشعاع الحضاري والفكري، بجانب وظيفتها المركزية كمحراب إيماني ومورد روحي عذب زلال- تأثرت كغيرها من المراكز والمؤسسات الاجتماعية الأخرى؛ استجابة لسنة التأثير والتأثر المؤدية إلى التحسين والتطوير والتقدم..

تأثرت المساجد في جانب رساليتها ووظيفيتها كمدارس ومعاهد وجامعات.. وتأثرت في ناحية رسالتها الدينية والوعظية وبالتالي مكانتها الروحية.. ولا يخفى أثر وسائل الاتصال الجماهيري الأخرى كالإذاعات والفضائيات والشبكة العنكبوتية أخيرا..

وبالإضافة إلى الوسائل الاتصالية..فإن هناك أسباباً أخرى تتعـلق بتطور تقنيات العـمارة والبناء- ضمن عوامل أخرى- مما ساعد في انتشار المساجد وتعـددها في الحي الواحد.. الأمر الذي أدى إلى تناثر رسالة المسجد و(تفرق دمه في القبائل)..

وتأثرت قيمة (الأذان) كوسيلة للإسماع والإعلان عن وقت الصلاة.. حيث لم تعـد المآذن محتكرة لخدمة (رفع النداء).. فالإذاعات (تؤذن).. والفضائيات (تؤذن) أيضاً..

ذلك في الوسائل المسموعة.. أما في الوسائل الأخرى.. فالصحف تعـلن عن أوقات جميع الصلوات في صفحاتها الدينية أو على الصفحات الرئيسة أحيانا.. بالإضافة إلى انتشار (الموقتات) أو قوائم المواقيت التي تصدرها الهيئات الدينية الرسمية، أو الجهات التجارية كوسيلة دعائية.. والموقتات الإلكترونية على صفحات الويب.. هذا فضلا عن إمكانية استخدام الساعات والهواتف للتذكير بأوقات الصلوات..

تغـير قيمة الأذان المتعارف عليها.. لا يؤثر في قيمته الحضارية العميقة في نفوس المسلمين ومن يعـيش بينهم- لكنها تقتضي التعامل معه كأمر إيجابي حتمي يتطلب تفاعلا يحافظ على القيمة الحضارية العـميقة كما ذكرنا- وينميها ويعـمقها أكثر في وجدان الأجيال وذاكرة التاريخ..

وبقدر ما تأثرت قيمة (الإسماع) بالنسبة للأذان، فإن رسالته (الفكرية) قد أصبحت أسهل وأكثر وصولا للمستهدفين بها من أهل الديانات الأخرى.. وإذا كان سماع الأذان في السابق حصريا على من هم في محيط المسجد.. فإنه اليوم أقرب إلى كل الناس تقريبا من أقصى الأرض إلى أقصاها.. وهذا تغـير وتطور نوعي لا تخفى أهميته..

انخفاض قيمة (الإسماع) في مقابل زيادة إمكانية الوصول إلى (أي زمان وأي مكان).. مرحلة تتطلب من المسلمين بصفة عامة ومن القائمين على أمر المساجد- الاعتناء بجمالية الأذان وأبعاده الفكرية والروحية والحضارية.. بجانب العـناية بمدى عمقه وتجذره في نفوس الناشئة..

تطور أجهزة الصوت وزيادة مقدرتها الإسماعية.. وكثرة المساجد وتعـددها في مساحات سكانية صغـيرة.. بجانب تعدد الأنشطة المسجدية من صلاة وذكر ومواعظ ودروس ومحاضرات وندوات وملتقيات.. إضافة إلى تعدد مقيمي تلك الأنشطة واختلافهم غالبا مما يذكي برامج المساجد ويزيدها اشتعـالا بالمحاضرات والمحاضرات المضادة ونحو ذلك..

كل العـوامل السابقة مجتمعة أدت- فيما أدت إليه- وما زالت تؤدي إلى تشتيت انتباه المصلين بين الاستماع لقراءة إمامهم أثناء الصلوات- وبين متابعة الأصوات العالية الصادرة من المساجد القريبة والتي تتقاطع عادة مع قراءة الإمام.. بجانب تضرر المحيطين بالمساجد والقريبين منها ومن هم في مرمى ميكروفوناتها.. وتأثرهم بالأصوات العالية أو (العالية جدا).. وبالطبع لا يسمح لهم بالاحتجاج أو إبداء الرأي حتى.. ما دام الأمر (ديناً) غير قابل للنقاش!! بالرغم من أن (خلط) الأمور بهذه الصورة إنما يؤدي إلى نتائج عكسية في غالب الأحوال..

الأذان وسيلة للإعلان عن دخول الوقت.. ودعوة لحضور الصلاة في المسجد.. فلمَ لا يتم ذلك بمستوى صوت مناسب يكفي لإسماع القاطنين في المساحة المستهدفة؟.. ولمَ لا يكون الأذان بصوت نديّ جميل عـذب، يحمل مع أثيره عـذوبة كلماته وعـمق دعـوته وجمال فكرته؟

أما بالنسبة للأنشطة المسجدية الأخرى.. فلا أحسب أن المستهدف بها إلا أولئك الحاضرون داخل المسجد.. وهؤلاء تكفيهم مكبرات الصوت الداخلية.. وليست هناك حاجة البتة لإسماع العابرين أو من هم في بيوتهم وأعمالهم.. فضلا عن غيرهم من المرضى أو المنشغـلين بالدراسة والمذاكرة ونحوها..

هذه حصاة صغـيرة ألقيتها في بركة كبيرة واسعة.. راجيا أن تحسن من مستوى تعاملنا مع السنن الربانية في التغـير والتطور.. وتحسن- من ثمّ- من مستوى تواصل مآذننا بأسماعـنا.. فما عاد النداء هو الهدف الأساسي من الأذان.