أورد أحد الأصدقاء مقولةً للفيلسوف الألماني “ليسنج” رأيتُ أنها هرطقةً لا معنى لها، فدار الحوار التالي:

– فلسفة زايدة!

– أهم شي الفكرة، ليست مثل قصص حدثني أحد الإخوة وما يرد يعدها من قصص خيالية.

– “حدثني أحد الإخوة” لا أبني عليها ديني والحقائق الغيبية، وإنما تبنى هذه الحقائق وتؤسس بكتاب الله تعالى وفهمه عن طريق النبي المرسل بالتبيين والهداية، وبفهم الخلفاء الراشدين الذين أوصى بهم، والعلماء الربانيين.. فلا تؤخذ من الفلاسفة ولا من “حدثني”…

وصلنا لنقطة التقاءٍ انتهى عندها الحوار.

ما لم ينتهِ هو ما أصبح مألوفاً وتكاد تكون ظاهرةً عند بعض الدعاة الذين يوردون القصص العجيبة والمدهشة التي تعضد أقوالهم وما يرغبون في أن يستقرَّ في نفوس مستمعيهم من الحق، وليس لهم سندٌ أو متكأٌ يتكئون عليه إلا “حدثني أحد الثقات، أو أخبرني من أثق به أو قرأتها في أحد المواقع أو الكتب… وغير ذلك من الألفاظ التي يليها سردٌ لقَصَصٍ أقرب ما تكون لعالم الخيال، وأنا هنا لا أخوِّن أو أكذِّب أحداً منهم، فربما يكون قد سمعها فعلاً، ولكن من يضمن أن مصدر القصة قد اخترعها وألَّفها وصاغها من تلقاء نفسه.. وقريباً من هذا قول بعضهم: “ثبت علمياً…” ويُثْبِتُ ما لم يتثبَّتْ من ثبوته علمياً لتقوية كلامه وبعض النصوص الشرعية التي أمرت بأمرٍ ما أو نهت عن فعله، سواءً كان ذلك عبادياً محضاً أو في الجانب الدنيوي الحياتي.

ويدور في فلك هذا الأمر ما انتشر قبل فترةٍ في بعض المواقع من وجود جماعاتٍ تنشر بعض الصور الغريبة العجيبة المخترعة والممنتجة عبر برنامج الفوتوشوب وغيره، ثم تكتب وصفاً كاذباً لعجيب الصنع وغرابته وأنه من الإعجاز العلمي والكوني، ثم تذيلها بعبارة “سبحان الله”، للضحك على الانتشار الكبير الذي يحدث لها بين عامة الناس، وتصديقها من قبلهم بلا بينةٍ واضحة ولا مصدرٍ علميٍّ موثوق.

ديننا وشرعتنا أيها السادة في غنىً عن هذا، ولا ينقصه سرد قصةٍ من نسج الخيال أو إرفاق صورةٍ مخترعة أو إثباتٌ علميٌّ بصلاح ما شرعه.. لقد أكمل الله تعالى هذا الدين وأتم نعمته علينا، وفيه من الأصول والبراهين والحقائق والشواهد والأدلة ما لا يحتاج معه إلى مثل هذا..

نعم إن القصة والصورة كلاهما له جاذبيته وتأثيره على قلب وعاطفة الإنسان، وهما من الأساليب المعتمدة شرعاً، فالقصص واردةٌ وبكثرةٍ في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، ولكن ذلكم مصدره الحق سبحانه {ومن أصدق من الله حديثا}، والمشرع صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى {إن هو إلا وحيٌ يوحى}.. كما أن الصورة واردةٌ أيضاً – ليس بالمعنى اللفظيِّ في زمننا وإنما حكايةً وضرب مثل للتقريب – كما في تصوير الله تعالى للكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة التي تؤتي أكلها كل حين، والكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة التي تجتثُّ ولا تقرُّ في الأرض، وتشبيهه لعمل الغيبة بأكل لحم الميت تنفيراً من الوقوع فيها، وكما في تشبيه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمن بالنخلة التي لا يسقط ورقها ولا يتحات، وتشبيه الدنيا بجيفةٍ نتنةٍ تبشيعاً لغرورها الزائف.. بل حتى أقرب من ذلك حين خطَّ لأصحابه على الأرض خطاً مربعاً، وخطاً في الوسط خارجاً منه، وخطوطاً صغاراً إلى الخط الذي في الوسط، وقال: (هذا الإنسان، وهذا أجله قد أحاط به، وهذا الذي هو خارجٌ منه أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض..) إلى آخر الحديث.

القصة والصورة أسلوبان ناجعان عظيما الأثر.. لكن المعترَضَ عليه والذي قد يوجد ثغراتٍ يتسلل منها ذوو النفوس الضعيفة المريضة للتشكيك في هذا الدين والسخرية منه ومن الداعين إليه، هو ما يُتَلَقَّفُ دون بيِّنةٍ واضحةٍ ومصدرٍ موثوقٍ ويكون فيه من الغرابة ما تستنكره الأسماع ولا تقبله العقول، وقد ورد النهي عن الحديث بكلِّ ما يصل إلى الأسماع.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع”، وقال: (بئس مطية الرجل زعموا)، وذلك لما قد يحوي ذلكم الحديث من كذبٍ أو تخليطٍ أو تهويلٍ، أو ما قد يرتدُّ على قائله عكسياً من قبل المتلقِّي، بل وأخطر من ذلك أن يتعدَّاهُ إلى الفتنة والتكذيب للمشرِّع سبحانه وتعالى أو للمبلِّغ صلى الله عليه وسلم.. قال عليٌّ رضي الله عنه: “حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبُّون أن يكذَّب الله ورسوله؟!”، وورد عن  عبدالله بن مسعود قوله: “ما أنت محدثاً قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة”.