تبدأ سورة الأعلى بالتسبيح وهو التعظيم لله وتنزيهه عن كل نقص أو عيب لا يليق بجلاله وكمال صفاته، ثم تصفه تبارك وتعالى بصفة الأعلى في قوله تعالى: “سبح اسم ربك الأعلى”.
ووصفه تعالى بالأعلى يقتضي من العبد الخضوع والانكسار له، فلا يكون شيء في قلبه ولا شعوره أعلى من الله تعالى، ومثل هذا الشعور ينعكس على المؤمن استقامة وهدى.
ولمّا نزلت هذه الآية على النبي – ﷺ – قال: ( اجعلوها في سجودكم ) ( رواه أبو داود)
إن مقام السجود حيث يهوي العبد إلى أخفض موضع على الأرض ليضع عليه جبهته التي هي أعز ما في جسمه، ليسبح ربّه الأعلى – فيكون هو الأدنى وربّه هو الأعلى – إنما يعبر بذلك عن ذلّه وانكساره بين يدي ربه عز وجل.
ومن أثر هذا الاسم “الأعلى” أنه يجعل المؤمن يسير في طريقه إلى الله، في إيمان ويقين، فلا يخشى في الله لومة لائم، ولا يحيد عن الطريق بسبب خوف أو عجز ، لأنه في معيّة العزيز الأعلى الذي لا يُقهر ولا يُغلب.
ثم تقيم الآيات الدلائل على علوّه وعظمته سبحانه وتعالى، فهو الذي خلق الخلائق وقدّر الفطر والسنن التي يصلح بها معاشها، وتضرب مثلا على المبدأ والمنتهى باخضرار المرعى ثم تحولّه إلى هشيم يابس، وهكذا الأمور والأقدار كلها بيده وحده، قال تعالى: “الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى * فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى “
وتشير الآيات إلى تأييد الله لعبده المؤمن، بما يقذفه في قلبه من الإيمان وأنوار القرآن، فلا يغفل ولا ينسى: “سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى”.
وعندما تملأ هذه الأنوار نفس المؤمن وقلبه فإنه لا يبخل بها على من حوله من الناس، فيدعوهم إلى هذا الخير الذي عنده، باذلا في ذلك كل الأسباب، متوكلا على الله، غير مكترث بالنتائج والعواقب فتلك حسابها عند الله: “فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى”.
إن الموعظة لا تقع بمكان إلا في قلب وعقل من خشي الله وخاف مقامه، ومن يتجنب الهداية ولا يتعظ بآيات الله، فهو الشقي الذي اختار طريق الشقاء وحاد عن طريق الحق الذي كتب الله السعادة لكل من سار فيه في الدنيا والآخرة: “وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى.
وليس شقاؤه في الدنيا وحسب، بل أيضا في الآخرة حين يعاين العذاب في النار الكبرى، وليس عذاب أشد من عذاب يدوم ولا ينقطع أو يُخفف، فلا هو يحيى في النار حياة طيبة ولا هو يموت فيستريح: ” ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى “
وترسم الآيات في ختام السورة ملامح النجاة والفلاح، لأولئك الذين سيفوزون بجنة الله ورضوانه، وينجون من سخطه ونيرانه: ” قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى”.
وانظر كيف ربطت الآية بين الصلاة وتزكية النفس ، وكيف لا تكون كذلك وهي التي تحجزه بالمداومة عليها عن الفحشاء والمنكر، وهي كذلك معراج المؤمن إلى ربه ، وفيها يأنس بذكره ، ويزداد قربا منه ، جاء في الحديث الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -ﷺ- قال: «أقْرَبُ ما يَكون العبد مِنْ رَبِّهِ وهو ساجد، فَأَكْثروا الدُّعاء». ( رواه مسلم )
وأخيرا … فمن تذكر الآخرة وما فيها من النعيم المقيم، فلن يطمع في هذه الدنيا، ولن يمد عينيه إلى ما فيها، وهذا ميزان العقلاء الذين يضعون الأمور في نصابها، فلا يؤثرون الفاني على الباقي، ولا النعيم الزائل العاجل على النعيم المقيم الآجل: “بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى”.
ثم التسلية على الطريق للنبي والمؤمنين، ولكل من يسير على هذا الطريق، طريق الحق وأنه الطريق الذي سار عليها الأنبياء والمصلحون من قبل، فيصبرون ولا يستوحشون لأنهم يعلمون أن نهايته إلى جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر “إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى”.