ليت للفكر لسانا حتى يصرخ في وجهنا: ما لأمتنا انتقلت من وأد بنات الأصلاب إلى وأد بنات الألباب؟! لقد وقفت متحيرا و أنا أقرأ لأحد المؤسسات التي تعنى بالفكر العربي تعلن أن الكتاب الذي فاز بجائزة “أهم كتاب عربي” عبارة عن “رواية”!!
يمكن أن أتقبل أن يكون أمتع كتاب عربي عبارة عن رواية، لكن.. أن تكون “أهم” كتاب عربي، فهذا و الله لا يهضمه عقل، حتى و لو طُبِخ على نار إبراهيم عدد سنين حياة نوح – عليهما السلام – ..
و الذي أزال الستار و أوضح ملامح المشكل أكثر هو شُكْر المؤلفِ اللّجنة المكلّفة بالاختيار على تقديرها للجانب الجمالي للرواية!.. لا أعترض على الرواية التي فازت بحد ذاتها و لا على مؤلفها، لكن.. متى أصبحت أهمية الكتاب في عالم الفكر تقاس بمدى تزويق نسج العبارات و تنميق حبكة الحكايات؟ أما لنا أن نتعظ من عرب الجاهلية الذين صبوا ذكاءهم وفطنتهم في بركة الجماليات الراكدة فلم تستطع حتى أن تلمس طرف ثوب التغيير في فلسفة الحياة لديهم، و التي لم تخرج عن إطار “العاديات ضبحا و المغيرات صبحا” حتى مَنَّ الله عليهم بالإسلام..
دفن الكتاب العربي في مقبرة الجماليات هو من جهة أخرى نتاج لنوعية المثقف العربي الذي أصبح يقاس مستواه بمدى استعماله للصيغ الفلسفية و المصطلحات الفكرية التي لا يفقه مدلولاتها أكثر الناس
و ترى المعاهد الأجنبية تنظم مسابقات عن القصص الخيالية و تتكفل بنشرها، حتى تشد أيدينا أكثر على السكين الذي ذبحنا به الكاتب العربي.. الكتاب الذي يمثل أهم وسيلة في نقل العلم و تثقيف الأمم..
كلما نظرنا إلى جانب من جوانب أزمة الفكر العربي، يتضح أكثر أن دفن الكتاب العربي في مقبرة الجماليات هو من جهة أخرى نتاج لنوعية المثقف العربي الذي أصبح يقاس مستواه بمدى استعماله للصيغ الفلسفية و المصطلحات الفكرية التي لا يفقه مدلولاتها أكثر الناس، فكأن الفكر أصبح لغة خاصة نسمي من يتقنها “مثقفا”!..
إن استنطاقنا للتاريخ يجعل استغرابنا يبدو في غير محله، لأن هذا الفهم المشوه ميز كل البقع السوداء في صفحات تاريخنا، حتى أصبح وجوده معيارا جيدا للدلالة على وجود التخلف، و إن الأمم – بما فيها أمتنا- لم تنهض يوما إلا عندما صُبَّ الفكر في قالب مبسط يتغلغل ببساطة في عقول عامة الناس، فيصيغ مجتمعا قادرا على حمل راية القيادة..
إن الكتاب العربي ضحية من ضحايا مجازر عقول أدعياء الثقافة و الفكر، الذين يحلمون بأن يطير بهم الفِكر لسماء النّهضة، لكنهم – بعدم نقدهم لأساس أساليبهم، يقطعون أجنحته من دون أن يشعروا، و النتيجة أننا بقينا لقرون نحلم ببلوغ الثريا ونتخبط في الثرى مع الديدان..
يجب أن نخرج الكتاب العربي من قبره و نعيده لدوره في صناعة العقول الناضجة المفكرة، و لنترك الروايات في زاويتها الصغيرة نكسر بها ملل الجد بين الحين والآخر..