تحفل الجزائر بعديد العلماء والأئمة والصلحاء الذين تركوا أثارهم البيّنة في خدمة العلوم الإسلامية والانتصار لهذا الدين الخاتم في مصنفاتهم وفعالهم وتلاميذهم. ومن هؤلاء العلماء الأفذاذ الإمام أبو عبد الله محمد بن يوسف السنوسي الذي يعتبر إمام أهل السنة والجماعة، ورجل التوحيد والتجديد الذي انتهت إليه رئاسة العلوم العقلية والعقدية بحاضرة تلمسان الزيانية.

مولده

ولد أبو عبد الله محمد بن يوسف السنوسي التلمساني بالمغرب الأوسط بتلمسان سنة (832هـ )، وبها توفي عام (895هـ)، وتميزت حياته بالنبوغ العلمي والتقدم المنهاجي، فهو الإمام والأستاذ الفقيه المحدث المفسر المتكلم المنطقي المالكي الذي جسد مقالات التكامل المعرفي منذ قرون. ولشهرته في العقائد كان يسمى بالسنوسي التوحيدي. ويلقب بمحي الدين وناصر السنة، ومجدد الدين على رأس المائة التاسعة.

أساتيذه وشيوخه

عاش الإمام السنوسي في القرن الزاهر للمغرب الأوسط وهو التاسع الهجري، حيث لمع فيه الجهابذة الذين أطّروا العلوم العقلية والنقلية، وتركوا آثارهم العلمية في تكوين برامج التعليم في زوايا ومعاهد ومدارس المغارب كلها وإفريقيا جنوب الصحراء. حيث عرفت تلمسان أعلاما وأسرا خدمت التعليم، وتعاورت على خطط الفتيا والخطابة والقضاء، وبعضهم اشترك في إدارة الحكم تنفيذا أو استوزارا أو استشارة، ومن هذه الأسر: المقريون، المرازقة، العقبانيون، ومن الأعلام عبد الرحمان ابن خلدون وأخيه يحي، وابني الإمام، وباقعة العقليات الإمام الآبلي، وفارس البيان ابن الخطيب وغيرهم كثير.

ومن الشيوخ المبرزين الذين كان لهم الأثر الفكري في تكوين الإمام السنوسي وتشكيل حاضنته الفكرية والسلوكية العلماء الآتي ذكرهم:

الشيخ علي بن محمد التالوتي (895هـ)، وأبي الحسن القلصادي (891هـ) في الفرائض والحساب، وابن زاغو المغراوي (845هـ)، وأبي عبد الله الحباك (865هـ) في الفلك، والثعالبي عبد الرحمان (876هـ) في الحديث والأسانيد، كما أخذ نصيبا وافرا من الفقه على الحسن أبركان (857هـ)، وختم المدونة على الجلاب المغيلي ( 850 هـ)، وتتلمذ لأبي القاسم الكنابشي البجائي في علوم التوحيد، ولزم الكفيف بن مرزوق (901هـ). وأخذ العربية عن أبي نصر الزواوي، والمنطق والأصول عن العلامة ابن العباس العبادي(871هـ)، والسلوك والزهد عن إبراهيم التازي (866هـ).

تلامذته

وهم كثر يملئون السهل والوعر، ولكننا سنكتفي بذكر أهم القناطر التي نقلت علومه، ومنهم: محمد بن عبد الكريم المغيلي (910هـ) ناشر الإسلام في إفريقيا الغربية وصاحب مشروع طرد يهود توات، وابن أبي جيدة الوهراني (951هـ)، وابن الحاج الورنيدي  (930هـ)، وابن صعد التلمساني (910هـ)، والعلامة زروق البرنسي (899هـ)، ومحمد بن عبد الرحمان الحوضي (910هـ)، ومن أشهر تلاميذه أبو عبد الله الملالي الذي خصه بترجمة مناقبية واسعة هي “المواهب القدوسية في المناقب السنوسية”، وهي التي تضمنت في مؤلف أحمد بابا التنبكتي (1036هـ) “اللالىء السندسية في الفضائل السنوسية”.

عومل النبوغ السنوسي

كثيرة هي عوامل فرادة السنوسي، وهي عوامل انبثقت عن الحاضنة الفكرية والبيئة العلمية والأسرة الصالحة والجو العلمي، وكانت فواعل مهمة في صناعة رجل ذي منهاجية عالية في إعادة تدوين الدرس العقدي وإعادة كتابته بصيغ بيداغوجية متفاوتة حسب الاستعداد والتلقي، ولكنننا سنقف عند أهم العوامل الجديرة بالنظر والتدقيق في الموهبة السنوسية، وهي:

أ- الاجتهاد: عُرف السنوسي بالاجتهاد المفرط في تحصيل المعارف المتاحة في عصره، وأجمع مترجموه على عكوفه على العلم في حلق مساجد ومدارس تلمسان، ورحلته في طلب الحديث للجزائر عند الإمام عبد الرحمان الثعالبي، ولم يترك علما أصليا أو وسليا إلا أخذه، بل وامتد شغفه العلمي لتحصيل العلوم التطبيقية كالتوقيت والهيئة والإسطرلاب والطب، ولن نعدم شهادات مترجميه في هذا، فهذا ابن القاضي يقول عنه: “الإمام المعقولي الفقيه، المحدث، الفرضي، الحيسوبي، صاحب العقائد التي لم يأت أحد بمثلها من المتأخرين.

ب- الظروف العلمية المواتية: والتي اشتهرت بها تلمسان الزيانية من كثرة المساجد والمدارس والأوقاف، حيث كان بها ثمان مدارس للتعليم العالي، ولا غرو أن يستفيد السنوسي من هذا الزخم العلمي، ويُقبل على العلوم المتاحة في زمانه، حتى انتهت إليه الإمامة الدينية، كما قال ابن عسكر: “وكان من أكابر الأولياء وأعلام العلماء، وتآليفه تدل على تحقيقه وغزارة علمه، وعقائده الخمس وشروحها من أفضل ما ألف في الإسلام”.

ج- الصلاح: اشتهر السنوسي بالزهد والصلاح وملازمة السنة والاجتهاد في العبادة، وطارت العبارة المبينة عن مكانته التربوية: “العلم مع التنسي، والصلاح مع السنوسي، والرئاسة مع ابن زكري”، والمتعمق في كتبه متونا وشروحا يجد ذلك النفس التزكوي المتميز في جمع القصود كلها لله تبارك وتعالى، وابتغاء الدار الآخرة، وجمع الهمّ استعدادا ليوم المعاد، ويكفي أن نستدعي شهادة مؤرخ المالكية المتأخر محمد مخلوف الذي حلاه بقوله: “عالم تلمسان وصالحها وفاضلها، العلامة المتكلم المتفنن شيخ العلماء والزهاد والأساتذة العباد، العارف بالله، الجامع بين القول والعمل.

الآثار السنوسية

كثيرة هي آثار الإمام السنوسي، ووفيرة إذا ما قورنت بالعمر القصير المتوسط الذي عاشه، وأكثرها في العقليات، فمنها العقائد (الكبرى، الوسطى، الصغرى (أم البراهين)، صغرى الصغرى، والحفيدة والمفيدة)، نصرة الفقير في الرد على أبي الحسن الصغير، شرح المرشدة لابن تومرت، شرح لامية الجزائري، شرح جمل الخونجي. كما أغنى السنوسي الدرس الحديثي بمؤلفات لامعة أكدت استمرار الريادة المغربية في العناية بصحيح مسلم في مؤلفه الشهير:” مكمل إكمال الإكمال”، وفي شرحه للبخاري الذي لقي عناية فائقة من الجزائريين حيث وصل في شرحه لباب ” من استبرأ لدينه وعرضه “، كما ترك مختصره في المنطق، إضافة إلى علوم الإسطرلاب والفرائض واللغة والتصوف والتفسير والطب، ولم تخل مؤلفاته الأخرى من هيمنة المنطق الكلامي والدرس التربوي الصوفي السني.

 وعلى العموم يعدّ السنوسي لحظة فارقة في التاريخ الثقافي الجزائري مما يمكن وسمه بالعصر السنوسي. إذ يمكن أن يحُلّى بشيخ أهل السنة والجماعة بالغرب الإسلامي. لأن مؤلفاته سيطرت سيطرة تامة على الدارسين لعلم الكلام طوال العصر العثماني ولم يكن ذلك مقصورا على الجزائر وحدها، بل تجاوزها إلى معظم الأقطار العربية والإسلامية.

المؤلفات العقدية للسنوسي

وهي كثيرة جدا، وقد استوفها الملالي في مناقبه، ففضلا عما سيرد، فإن له جهودا في شرح البخاري وفي مصنفات المنطق وفي التفسير والردود، وأما المفردة في الفن العقدي فهي:

أ- العقيدة الكبرى: “عقيدة أهل التوحيد المخرجة من ظلمات الجهل وربقة التقليد المرغمة أنف كل مبتدع عنيد” وهي أم العقائد السنوسية التي اختصرها في خمس أخرى. ولعله تابع فيها مهيع ابن مرزوق الخطيب الجد الرئيس شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد (781هـ) في رسالته “عقيدة أهل التوحيد المخرجة من ظلمة التقليد”،وقد شرح السنوسي عقيدته الكبرى في “عمدة أهل التوفيق والتسديد في شرح عقيدة أهل التوحيد”.

ب- العقيدة الوسطى: وله شرح العقيدة الوسطى، وهو شرح بديع في بابه.

ج- العقيدة الصغرى، أم البراهين، السنوسية. وله شرح عليها، ولها عناوين آخر مثل: توحيد أهل العرفان ومعرفة الله والرسول بالدليل والبرهان، شرح أم البراهين، شرح السنوسي على صغراه، شرح على أم البراهين.

د- صغرى الصغرى للسنوسي: (عقيدة مختصرة أصغر من الصغرى). وقد وضعها السنوسي لوالد تلميذه محمد بن عمر الملالي لما استعصت عليه أم البراهين، وله شرح مختصر على صغرى الصغرى التي تسمى بالبنت.

ه- عقيدة صغرى صغرى الصغرى، وتسمى الحفيدة، والعقيدة الوجيزة.

و- العقيدة المفيدة للولدان والنساء المؤمنات وضعفاء الحفظ. وهي العقيدة السادسة، غير معروفة كثيرا. وهي معتصرة من الحفيدة، وهي ذات صيغة تقريرية خالية من البراهين المنطقية.

ز- المقدمات المبينة للعقيدة الصغرى، المقدمات، المقدمات في التوحيد، وله شرح المقدمات في العقائد.

ح- شرح لامية الجزائري (884هـ): المنهج السديد في شرح كفاية المريد في علم التوحيد.

ط- شرح على منظومة الحوضي أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمان (910هـ) المسماة واسطة السلوك.

ي- شرح المرشدة لابن تومرت المهدي.

ك- شرح الأسماء الحسنى: قال الملالي: “فبعدما يذكر تفسير كل اسم يذكر حظ العبد من الاسم”

ل- الحقائق في تعريفات مصطلحات علم الكلام. أو حقائق التوحيد.

م- شرح التسبيح: أو شرح للمعقبات بعد الصلاة، وقد شرح فيه الحديث:” من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد الله ثلاثا وثلاثين، وكبر الله ثلاثا وثلاثين، فتلك تسعة وتسعون، ثم قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيىء قدير، غفرت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر” (مسلم، 597)، كما تكلم في معاني التسبيح والتنزيه، وحكمة تقديم التسبيح وتوسط الحمد وتأخير التكبير.

ن- رسائل أخرى مثل تأويل مشكلات البخاري، عرض فيه للمتشابه الوارد في أحاديث البخاري. ورسالة في تقييد في بيان وزن الأعمال في الرد على المعتزلة في الميزان والأعراض. وأخرى في مراعاة الصلاح والأصلح، أبطل فيه القول بوجوب الأصلح. وتقييد في معرفة حدوث العالم، واستحالة حوادث لا أول لها. ورسالة في الرد على من أثبت التأثير للأسباب العادية.

وقد نالت عقائده القدح المعلى في العناية بها عند الجزائريين والمغاربة والمشارقة، وعلماء الفلان والتكرور والهوسا، ووصلت إلى شرق أسيا، وترجمت إلى لغات محلية عديدة في إفريقيا وآسيا، بل واعتنى بها بعض الحنابلة والماتريدية، وبلغت هذه الأعمال قرابة المائتين، مما يدل على القبول الذي منحه الوهاب لها. ولا تزال عقائده عمدة الدرس العلمي في مدارس التعليم التقليدي في الزوايا والكتاتيب والخلاوي في غرب إفريقيا وشمالها، فضلا عن اعتماد المعاهد الأزهرية للعديد من عقائده في مختلف المستويات التعليمية.