لفظة ” المعاصرة ” تعني العصر المعيش به، يقال عاصر فلانا: أي عاش معه في عصر واحد(1) ، والمعاصرة أن نعيش العصر بفكره وقضاياه ومستجداته. إن المعاصرة لا تكون واقعا فعليا إلا بمواكبة العصر الذي نعيشه فهما وفكرا وتطبعا ومعايشة للجديد فيه، فقد يكون هناك مجتمع، يبدو – في مظاهره – عصريا، كما يتجلى في أزياء سكانه ومساكنه، وطرقه المرصوفة، وأبنيته العالية، وسياراته الفارهة، ومع ذلك يعد هذا المجتمع متخلفا عن عصره وإن عاشه، فما أسهل اقتباس ذلك بشرائه لمن كانت لديه المقدرة المادية، وهو ما يختلف عن التحديث الذي يعني امتلاك وسائل المعرفة، فكل أمة في حاجة إلى النهضة، ولا يتحقق مرادها إلا بإرادة قوية، ونظام قادر وصالح لتعبئة هذه الإرادة وتوجيهها في طريق النمو والتحديث. <

إذن المعاصرة لا تعني التحديث في مظاهر المعيشة، دون تغيير الجوهر الفكري والثقافي والاجتماعي، وإلا صار الأمر شكليا، والتطوير محدودا، وهذا ما فهمه بعض خبراء التحديث في عالمنا العربي والإسلامي، فاهتموا بالإنشاءات ونسوا الثقافة والفكر والروح، فرأينا عقولا تعيش في ناطحات السحاب، وتعمل في مؤسسات حديثة، وتتعامل بنفس ما وجدته في الكتب التراثية دون تمحيص أو تجديد أو إعادة نظر ونقاش.

ولا نريد أن يكون نقاشنا حول الأصالة والمعاصرة، في الثنائية الفكرية المعروفة، التي أضرت فكرنا العربي المعاصر، وجعلته مريضا بهذه الثنائية، ومن نادى بالحل كان يطرح حلا ظاهره توفيقيا وباطنه تلفيقيا، دون دراسة فاعلة تستند إلى المرجعية والثوابت وهي تناقش القضايا المستجدة.

إن الأصالة دون المعاصرة وقوع في التقليد أو الجمود، والاعتزاز بالقديم على هذا النحو مظهر من مظاهر الانعزال ونسيان الواقع، وكأن القديم شيء في ذاته يعيش على نفسه، ويحتوي على قيمة متخفية في ذاته، والمعاصرة دون الأصالة وقوع في الجذرية المبكرة ( أو بالأدق التغييرية الشاملة ) التي لا يتحملها وجدان مسلمي العصر الذي ما زال محملاً بتراث الماضي وبثقل العصور، وتسرع الندرة من المثقفين ورغبتها في سبق الزمن وغرس المعاصرة بين يوم وليلة، وهي الكفيلة بتأصيل نفسها، وهي في الواقع وعلى هذا النحو تحكم على نفسها بالانعزال والوقوع في نرجسية المستقبل، وكثيراً ما يسهل استئصالها والقضاء عليها باسم أصالة القديم وتبعية الجديد، ولا تعمل إلا في أوساط نخبوية محدودة ويغلب عليها الطابع النظري وبالتالي فهي تشارك في الخطأ الأول أي الأصالة دون المعاصرة في انعزاليتها وغلبة القول على العمل (2).

الكلام السابق، يؤكد على أن المعاصرة لا تعني الإغراق فيما هو جديد غربي وافد، وإنما تعني دراسة القضايا التي تشغل المجتمعات في الواقع المعاصر، في ضوء شرعنا وثقافتنا وموروثنا؛ لأن الجديد لن يجد مستقرا له في بيئتنا، إلا بعد مواءمته مع شرعيتنا وفقهنا، وإلا أصبح دخيلا وإن بدا منتشرا بين الناس.

أما عن النخبة التي تبنت الفكر الغربي بوصفه جديدا، ويمثل حضارة حديثة نعيش في مخترعاتها، فهي قد اكتفت بالنقل وإعادة إنتاج الخطاب الغربي الوافد بقضاياه، دون أن تكلف نفسها عناء البحث عن الخصوصية الثقافية، وهل يتواءم الفكر الجديد بمعطياته وطروحاته مع الشريعة الإسلامية بوصفها المصدر الأساسي للهوية العقدية والشرعية والقانونية والاجتماعية. يظل السؤال معلقا، لأن النخب –العلمانية تحديدا – تبنت خطابا متغربا، منعزلا، غامضا في مصطلحاته، ولم تعبأ كثيرا بتأصيل الخطاب ثقافيا وشرعيا، ومدى مواءمته، أو على الأقل، الاطلاع على ما قام به الباحثون والعلماء الشرعيون في هذه القضايا، ومناقشتهم فيها، بدلا من أن يعمل كل فريق بمفرده.

والمثال على ذلك: ما يسمى بمواثيق حقوق الإنسان بأجيالها المختلفة، حقوق الإنسان، والطفل، والمرأة..، السياسيون والحقوقيون يتبنون الطروحات الغربية بشكل كامل، وتلك الحقوق في جوهرها ومبادئها وآلياتها وطرائقها، تتوافق مع الشريعة السمحاء، ( ربما تخالفها في حقوق المثليين والإجهاض.. )، ولكن لو تدعمت هذه ثقافة حقوق الإنسان بين أهل الشريعة لصارت عنوانا واضحا محددا في خطابهم، بعد تأصيله شرعيا، وستكون أيضا سبيلا لمخاطبة العالم الخارجي بنفس مصطلحاته وقوانينه، في ضوء خصوصيتنا الثقافية.

فالمشكلة لدى البعض أنهم يستخدمون الأصالة في رؤية الحاضر بمرآة الماضي، فهي ليست غاية في ذاتها بل وسيلة لإدراك الواقع في كل أبعاده، فكثيراً ما تنشأ اتجاهات تدعو للأصالة ولكنها تقوم بتغليف الواقع بشرائع وأحكام أضعف من أن تسيطر عليه أو تغير فيه شيئا (3).

وتلك إشكالية مهمة، ففرق بين قضية رؤية الواقع المعاصر بمرآة الماضي، وبينها وبين دراسته وقراءته في ضوء شريعتنا، فالأولى ( الرؤية بمرآة الماضي ) يعني أن تستحضر الماضي، وتسقطه على الحاضر، وتعدّ كل ما هو جديد في الحاضر ؛ إعادةَ إنتاج للماضي بشكل أو بآخر، مما يؤدي إلى تجمد الرؤية والطرح وعدم تطوير الفكر ولا الممارسات ولا التعاملات ولا الآليات، لأن هذا المنطق الفكري، يستند إلى أن كل ما هو قديم إنما هو عظيم، ونسي أن الاجتهادات القديمة إنما صدرت من علماء ورجال ؛ نكنّ لهم كل تقدير، وتبقى القضية أنهم رجال ونحن رجال، فهذا يؤدي إلى إعادة إنتاج خطاب القدماء ورؤاهم، وعدم القدرة على الرؤية الصحيحة الواقعية لقضايا العصر.

أما القضية الثانية ( دراسة الواقع المعاصر ) في ضوء شريعتنا العظيمة، فتعني استحضار جملة أمور: مبادئ الشريعة، غاياتها، كلياتها، مقاصدها، والاستعانة بمناهج العلماء والفقهاء في الدرس والاستنباط والاجتهاد والقياس، فتكون الوقائع المبثوثة في كتب الفقه سبيلا وعونا ومرجعا نظريا وتطبيقيا في الدرس والمقارنة والتطبيق والاجتهاد، ولن ننحبس في إطارها، بل ستكون المرشد والمرجع والموّجه في الدراسات الفقهية المعاصرة.

اقرأ أيضا :

جدلية العلاقة بين العلم والدين والتباساتها في الفكر الإسلامي المعاصر

فلا يمكن أن يظل الفقيه بمعزل عن التغيرات الحادثة في عصرنا، ولا يحدث خطابه الفقهي والدعوي، ويظن أن ما في تراثنا يغنينا عن واقعنا، فتكون المحصلة انفصاما بين ما يشرحه الفقيه في محاضراته وكتبه، وهي لا تخرج عن اجترار ما في كتب التراث، وبين قضايا مستجدة لا يجد المسلم في منابر الدعوة ما يشفي غليله، ويرد أسئلته.

والمثال على ذلك ؛ فإن ما جاءت به “ العولمة Globalization (4) من مستحدثات في المجتمعات المسلمة المحلية، تجعل الفقيه في حاجة إلى معرفة ووسائل اختراقها للمجتمعات والتأثيرات الحادثة والمحتملة لها، ومن ثم تكون اجتهاداته الفقهية وإرشاداته الدعوية، فمن هذه الإشكالات: الانتماء إلى المحيط الإنساني وإلى الرابطة الإسلامية الكبرى، وكيفية مواجهة مثل هذه الدعاوى، التي تحضّ – في طياتها الخبيثة – على نزع الانتماء العقدي الإسلامي، لصالح ما هو إنساني، وتناسوا أن الانتماء للإنسانية – روحا وخلقا وسلوكا – أساس في الإسلام، وأن الله خلقنا جماعات وقبائل لنتعارف ونتلاقى، فتلك دعوة خبيثة، تريد إسقاط الانتماءات الدينية لصالح انتماء فضفاض لا أساس له.

أيضا، هناك قضايا حول حوار الأديان، صحيح أنها ليست بالجديدة، ولكن وسائل الاتصال الحديثة جعلتها متاحة أمام العامة والبسطاء، عبر غرف الدردشة، وتكون سبيلا للتنصير، وبلبلة الأفكار عن الإسلام، عبر تواجد منصّرين يستترون برداء التحاور الإنساني مع الشباب المسلم.

وفي هذه الحالة، يلزم أن يكون الخطاب الدعوي مستحدثا، مواكبا، حاضرا، في الفضاء الإلكتروني، قدر حضوره على المنابر، ويكون العالم الشرعي في حالة متابعة لما يستجد على الساحة من أفكار. مما يقتضي – من العالم والداعية – إجادة مهارات الحاسوب، والتواصل المستمر مع الناس، خاصة في شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع المهتمة، سواء كانت إسلامية متخصصة، أم دعوية عامة، أم عامة متنوعة، فهو متابع، بشكل دائم، يرصد الجديد ويتعرف عليه بدقة.


(1) المعجم الوسيط، ص604.

(2) حديث الأصالة والمعاصرة، د.حسن حنفي، على موقع التجديد العربي

(3) السابق.

(4) مصطلح العولمة بالرغم من أنه فضفاض في دلالاته، إلا أن تعريف رونالد روبرتسون يحاول أن يضع حدًا أدنى من القاعدة التي يمكن الاتفاق عليها، والذي يقول: “العولمة هي اتجاه تاريخي نحو انكماش العالم وزيادة وعي الأفراد بهذا الانكماش “. أي أن العولمة سبيل للتقارب بين الشعوب على مختلف الأصعدة والمجالات. فقد أضحى هذا الانكماش أو التقارب جزءًا من الوعي الكوني ( global consioushess  ) والذي يُقصَدُ به:” تقبل ثقافات الغير وتفهمها في كثير من الأحيان كجزء من تقدير القضايا الاجتماعية والاقتصادية والإيكولوجية العالمية ” انظر: العولمة: النظرية الاجتماعية والثقافة الكونية، رونالد روبرتسون ترجمة: أحمد محمود ونورا أمين، مراجعة وتقديم: محمد حافظ دياب، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، العدد ( 78 )، 1998، ص 27، 28.  وهو وإن كان فيه بعد إيجابي يتمثل في التقارب بين الشعوب، إلا أنه يزيد من تعرّض المجتمعات المسلمة لتيارات الغزو الفكري والاجتماعي الذي يهددها بثقافات الغرب وقيمه، وهذا يستلزم المزيد من جهود التحصين الفكري والمجتمعي، والمواكبة الفقهية للقضايا المستجدة.