عن معاوية قال: سمعت رسول الله يقول: “إياكم والتمادح فإنه الذبح ” (حديث حسن رواه ابن ماجه). لماذا يُكره مدح الأحياء من البشر، بغض النظر عن أعمارهم وأعمالهم واتجاهاتهم وأفكارهم وغيرها مما يدفع إلى المديح؟ أليس المديح نوعا من التعزيز المعنوي للممدوح؟ أليس المدح المعنوي مطلوبا في زمن الماديات الذي نعيشه؟

قد توافقني في العنوان أعلاه، وأهمية تجنب مدح الأحياء، وربما تعارضني. وليست الفكرة في الموافقة أو المعارضة، بل لن نختلف على هذا الأمر، فلكل منا رأيه الخاص، ولكل منا تقديره واحترامه.

ما قصة المجاملات ؟

نعيش الآن زمناً صار المديح أو الإطراء على أي عمل، أمراً مطلوباً ولو بالإكراه المعنوي، على عكس ما كان قديماً حين كان المدّاحون يجزلون في عبارات المديح لأشخاص معينين، طمعاً في هدايا وأعطيات. لكن أن يصل المدح لأن يكون أمراً مطلوباً، ولو بالإكراه غير المباشر، فهذا أمر صار يعمّق أجواء المجاملات الخادعة التي نعيشها، والنفاق الاجتماعي الذي زاد عن حده، والذي لا يُرجى من ورائه خيرا.

هكذا وصل الحال بالناس، خاصة مع انتشار وتوسع وتنوع وسائل التعبير عن عبارات وأساليب المديح لهذا وذاك وتلك، عبر وسائل التواصل الاجتماعي المبتلى بها كثير من الناس، إن صح وجاز لنا التعبير.

ثناء بلا مبالغات

بادئ ذي بدء، لا شيء أن تمدح الآخرين، خاصة إن وجدت ما يستوجب المدح دون مبالغات، أو مجاملات كاذبة. فقد مُدح الرسول – – وهو يسمع ويرى، بل ليس هو من يحتاج مدحاً من أحد، فيكفيه مدح ربه له في قوله تعالى {وإنك لعلى خُلُق عظيم } (القلم :4) فليس بعد هذا المدح من مديح.

ومدح هو بعض أصحابه الكرام كأبي بكر وعمر. فقد وقف يوماً بين أصحابه، كما جاء في صحيح البخاري، وقال: ” من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير. فمن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دُعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دُعي من باب الصدقة «. قال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ما على من دُعي من هذه الأبواب من ضرورة، فهل يُدعى أحدٌ من تلك الأبواب كلها؟ فقال : ” نعم وأرجو أن تكون منهم «. ومدح كذلك الفاروق عمر في وجهه وقال له: ” ما رآك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك. الشاهد من القصة أن المدح مطلوب بعض الوقت ولغايات مقصودة. منها تعزيز الممدوح ليستمر على ما تم مدحه عليه، من عمل أو قول. ومنها رسالة للآخرين على الاقتداء بالممدوح في الأمر الذي استوجب مدحه عليه. ومنها إشاعة روح التقدير والمكافأة المعنوية بين الناس، وخاصة إن كان المدح يصدر من رئيس لمرؤوس.

المدح وفتنة الناس

امدح من شئت وكيف شئت دون مبالغات أولاً وكما أسلفنا، ومن ثم ثانياً، امدح بشرط الأمن من الوقوع في الفتنة، أو التسبب في وقوع آخرين بالفتنة أيضاً.. كيف؟

بالقدر الذي كان يمدح النبي الكريم – – بعض أصحابه المستحقين للمدح، فإنه بالقدر نفسه كان حريصاً ألا ينتشر هذا الأمر في مجتمعهم، نظراً لخطورته على المادح والممدوح. فأما وجه الخطر على المادح فيكون كامناً في قبول وثناء الممدوح له حتى وإن كان مبالغاً فيه، ثم يتبعه تقدير مادي بشكل وآخر، الأمر الذي قد يدفع المادح إلى أن يتجرأ بعد قليل، ليواصل في هذا العمل مع صاحبه الممدوح أو أمثاله من محبي المدح والشهرة والأضواء، فيدخل بذلك هذا المادح من حيث لا يدري أو يدري، عالم الكذب والنفاق والخداع، بل الأخطر من ذلك كله، عالم غمط الحق.

أما الممدوح فإن وجه الخطورة عليه متمثل في احتماليات وقوعه في فتنة الشعور بالزهو والفخر والترفع. فإن أردت مدح فلان أو علان وفلتان، فيجب أن تكون على يقين من أن المدح لن يفتنهم ويدفعهم إلى الاغترار بأنفسهم، ويكون مدحك ومدح آخرين لهم، عاملاً مساعداً دافعاً لتسرب داء الغرور إلى أنفسهم من حيث لا يشعرون، فتكون بالتالي أنت ومدّاحون آخرون، سبباً في فتنتهم.

المدح يميت القلب

حين وصف النبي الكريم – – المدح بالذبح في حديث ” إياكم والتمادح، فإنه الذبح ” فلأنه يميت القلب أولاً، ومن ثم هناك احتمالية كبيرة أن يُخرج الممدوح عن تعليمات دينه، فيهتز ويضعف كلما كثرت عبارات المديح له هنا وهناك، سواء أكان مستحقاً أم غير مستحق، لتراه بعد حين وقد اغتر بأحواله. وربما يسيطر عليه بعد ذلك شعور العُجب والكبر، ويرى نفسه دوماً وأبداً أنه أهل للمديح، لا سيما إن كان ممن استهوتهم الدنيا بزينتها وأضوائها وبريقها !

هذا الأمر لا يقتصر على من يقوم بأعمال دنيوية فحسب، بل يشمل كذلك علماء الدين والدنيا، والأمراء والرؤساء، ومن على شاكلتهم في المستويات والدرجات. فلا تمدح عالماً أو مفكراً أو صاحب رأي أو رئيساً أو مرؤوساً إلا بالقدر الذي يستحقه دون مبالغات ومجاملات، فإنك لا تدري بعد حين من الزمن، يطول أو يقصُر، ما عساه أن يفعل ويقول. فإن أردت مدح صاحب رأي أو علم أو رياسة ووجاهة، فليكن لمن مات على الحق. أما قبل ذلك، فالحذر مطلوب. فقد يكون الممدوح اليوم على حق مبين، ثم ينقلب على عقبه بالغد، ويصير ناصراً للباطل غير مكترث لما كان عليه بالأمس !

وهكذا قلب الإنسان الحي، متغيرٌ متقلب. وما سُمي القلبُ قلباً، إلا لأنه يتقلب على الدوام.

سُئلت أم المؤمنين أم سلمة عن أكثر دعاء رسول الله – – إذا كان عندها، فقالت: ” كان أكثر دعائه (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) فسألته:” يا رسول الله: ما لأكثر دعائك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ قال:» يا أم سلمة، إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله، فمن شاء أقام، ومن شاء أزاغ ” (رواه الترمذي بسند صحيح).

أسأل الله لنا ولكم ثبات القلوب على دينه وطاعته، وأن يجنبنا فتن المديح ما ظهر منها وما بطن، مادحين أو ممدوحين.