الحمد لله القائل في كتابه الكريم: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أمَلاً} ، إن الله تعالى ما خلقَ الخليقة إلا ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (هود: 7). وقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (الملك: 2)
وأقسم سبحانه بالعصر وهو الزمان محل اكتساب الأعمال على فوز من آمن وعمل صالحاً فقال: {وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} سورة العصر.
فالعمل الصالح قرين الإيمان، ولو ادَّعى مدع أنه مؤمن وترك الأعمال الصالحة، من صلاة وزكاة وصيام وحج وبر للوالدين وصلة للرحم وغيرها، فإنه لا يكون حينئذ مؤمناً، لأن قوله يخالف عمله، إذْ لم يأت بالعمل المصدق لقوله.
وأفضل الأعمال وأحبها إلى الله تعالى، ما دام عليه صاحبه، وللمداومة على العمل الصالح مكانة عظيمة فى الإسلام، ومما يظهر أهميته:
1- إن فرائض الله عز وجل إنما فرضت على الدوام ، وهي أحب الأعمال إلى الله تعالى كما في الحديث القدسي: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه» رواه البخاري.
وقال تعالى عن المفلحين من خلقه: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (المؤمنون:9 )
وقال: {إِلاَّ الْـمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ} (المعارج: 22، 23)
ويستثنى من ذلك الحج الذي فرض في العمر مرة، درءاً للمشقة والحرج عن أمة محمد ﷺ.
2- أن الله تبارك وتعالى أمر عباده بطاعته إلى الممات، قال سبحانه لنبيه ﷺ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حََى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} (الحجر: 99).
وقال عيسى عليه السلام: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} (مريم: 31).
3- أن من هدي النبي ﷺ المداومة على الأعمال الصالحة ، وعدم قطعها إلا لعارض، من مرض أو سفر ونحوه ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله ﷺ إذا عَمل عملاً أثبته، وكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة . رواه مسلم.
وقالت أيضاً: «وكان نبي الله ﷺ إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها، وكان إذا غلبه نومٌ أو وجعٌ عن قيام الليل، صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة، رواه مسلم.
4- إن المداومة على الأعمال الصالحة، أحب الأعمال إلى الله تعالى، كما قال ﷺ: «أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل» رواه البخاري فقليل دائم، خيرٌ من كثير منقطع.
5- ومنها: أن مَن فاته شيء من الأعمال التي يداوم عليها، استحب له قضاؤه، وهذا مما يدل على أهمية المداوة.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يبلغ به إلى النبي ﷺ أنه قال: «من فاته شىء من ورده – أو قال: من جزئه – من الليل فقرأه ما بين صلاة الفجر إلى الظهر، فكأنما قرأه من ليله» رواه مسلم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «من نام عن وتره أو نسيه، فليصلها إذا ذكرها، فإنَّ الله تعالى {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وللمداومة على الأعمال الصالحة آثار عظيمة على العباد والبلاد:
1- دوام اتصال العبد بربه ، وقلبه بخالقه سبحانه وتعالى ، ومن أجل هذا شرعت الصلوات الخمس والجمع وأذكار اليوم والليلة، وغيرها من الأذكار المطلقة، والعبادات المتنوعة.
2- أنها سبب لمحبة الله تعالى للعبد وولايته له، كما في الحديث القدسي: قال تعالى: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه» أخرجه البخاري (11/ 340).
وقال ﷺ: «من سره أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف» رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الشعب.
أي: يزداد حبه لله تعالى ورسوله بمداومة قراءة كتابه.
3- وسببٌ عظيم لتكفير السيئات، وتحصيل الحسنات، كما قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْـحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (هود:114).
وفِي الصحيح: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من دَرنه شيء؟» قالوا: لا، قال: «فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطابا» متفق عليه.
وفي الحديث أيضاً «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفراتٌ لما بينهن إذا اجتُنبت الكبائر» رواه مسلم.
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخُلق حسن» رواه الترمذي.
4- إن المداومة على صالح الأعمال تنهى صاحبها عن الفواحش والمحرمات، قال تعالى: {اتْلُ مَا أُوحِي إِليكَ من الْكِتابِ وَأقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكرِ} (العنكبوت: 54).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: «إن فلاناًَ يصلي بالليل فإذا أصبح سرق، فقال ﷺ: «إنه سينهاه ما تقول» رواه أحمد.
5- إن المداومة على العمل الصالح، سببٌ لاستظلال العبد بظل العرش يوم القيامة، يوم لا ظل إلا ظله.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشابٌ نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه…» متفق عليه.
ومعلوم أن عدل الإمام ونشوء الشاب في عبادة الله، وتعلق قلب الرجل في المساجد، والتحاب في الله، لا بد فيه من الاستمرار والدوام، حتى يحصل على هذا الفضل العظيم يوم القيامة.
6- المداومة على الأعمال الصالحة سبب لحفظ الله تعالى وكلاءته، وسبب للنجاة من الشدائد والكروب، فعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي ﷺ أوصاه، فقال في وصيته: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة» رواه أحمد.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «من سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد، فليكثر الدعاء في الرخاء» خرجه الترمذي.
وهذا خلق المؤمن الشاكر، بخلاف الشقي الكافر، الذي ينسى ربه عند نعمته، كما قال تعالى {فإِذا رَكِبُوا فِي الفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ}.
وقال: {وَإِذَا مَسَّ الإنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلّهِ أنداداً لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} (الزمر: 8).
7- إن في المداومة على الأعمال بُعدٌ عن الغفلة، وتعويد للنفس على فعل الخيرات، حتى تصبح ديدناً وخُلقاً وعادة.
وقد قيل: نفسك إن لم تُشغلها بالطاعة، شغلتك بالمعصية.
8- إن المداومة على الأعمال الصالحة سببٌ لحسن الخاتمة، فإن من عاش على شيء مات عليه، فمن اتقى الله تعالى بفعل ما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، يُرجى له أن يموت كذلك، وهو ما أمر الله تعالى به في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران: 102) أي: لا يأتيكم الموت إلا وأنم على التقوى.
وقال سبحانه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِـمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (إبراهيم: 27).
وقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْـمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69).
9- إن المداومة على العمل الصالح سبب للبعد عن النفاق، وللنجاة من النار.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «من صلى لله أربعين يوماً في جماعة، يُدرك التكبيرة الأولى، كُتبت لله براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق» أخرجه الترمذي (241) والبراءة: هي الخلاص والنجاة. فعمله هذا يشهد بأنه غير منافق، لأن المنافقين يتكاسلون عن الصلوات.
10- إن المحافظة على الأعمال الصالحة سبب لدخول الجنة.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة، دُعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد، دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة، دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان» قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، ما على أحدٍ يُدعى من تلك الأبواب من ضرورة، فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها ؟ قال رسول الله ﷺ: «نعم، وأرجو أن تكون منهم» رواه مسلم (1027).
قال العلماء في قوله: «من كان من أهل الصلاة» معناه : من كان الغالب عليه في عمله وطاعته ذلك.
واعلم رحمك الله: إن من داوم على عمل صالح، ثم انقطع عنه بسبب مرض أو سفر أو نوم، كتب الله له أجر ذلك العمل.
فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا مرض العبد أو سافر، كُتب له مثلُ ما كان يعمل مقيماً صحيحاً» رواه البخاري.
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال: «ما من امرئٍ تكون له صلاةٌ بليل يغلبه عليها نومٌ، إلا كُتب له أجر صلاته، وكان نومه عليه صدقة» رواه أبو داود (1314) والنسائي (1785).
وكان ذلك بنيته، إذْ لو لا المانع لقام بها.
* أما الأسباب التي تعين على المداومة على العمل الصالح:
فمنها الإيمان بأن الله تعالى قد افترض على العبد طاعته وعبادته ما دام حياً.
ومنها: احتساب الأجر والثواب، وتذكر ما أعد الله تعالى لعباده العاملين في أنواع العبادات والطاعات.
ومنها: التلذذ بالطاعة، وتذوق حلاوة العبادة، والأنس بالله سبحانه وتعالى، فإنها من أعظم لذات الدنيا.
ومنها: القصد في الأعمال، وعدم الأثقال والتشديد على النفس، كما في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ: «خذوا من الأعمال ما تطيقون، فإن الله لا يمل حتى تملوا» متفق عليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ «إن الدين يسرٌ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيءٍ من الدلجة» رواه البخاري.
فإن الإنسان إذا أثقل نفسه بغتة ، ملت وانقطعت، بخلاف ما إذا عوَّدها الخير شيئاً فشيئاً، وتدرج بالأعمال من الأسهل إلى ما هو فوقه.
ومنها: نبذ العجز والكسل وهما داءان قاطعان للأعمال، والاستعاذة منهما، كما كان النبي ﷺ يستعيذ منهما فيقول: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم…» متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه.
ومنها: الاستعانة بالله تبارك وتعالى، وبقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وبقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، كما صح في الحديث.
ومنها: اتخاذ ما يعينه على دربه ومواصلة عمله الصالح، من إخوة له في الله صالحين خيرين عاملين، يعينونه إذا ذكر، ويذكرونه إذا نسي، وزوجة صالحة تعينه على أمر دينه ودنياه.
ومنها: الحذر من السيئات والمعاصي والآثام، فإنَّ لها آثاراً على حياة العبد وعمله الصالح، ولربما حرم العمل الصالح والحسنة، بالسيئة يرتكبها.