أنزل الله تعالى القرآن هدى ونور وشفاء لما في الصدور، استقبله البعض على أن هداية من الله تعالى وهدية، واستقبله آخرون بالجحود والنكران فجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا، ولم يكتفوا بذلك بل حرصوا على أن يحجبوا نور الله تعالى عن العالمين حين ادعوا أن القرآن ليس من عند الله وحين شوهوا جمال القيم الإسلامية، مما أدى إلى شحن عاطفي ضد كل ما يتصل بالقرآن، وكان ما رأينا من مسألة الاعتداء على القرآن بالتحريق أو بالسباب، لأن هؤلاء الذين حرموا من رؤية هداية القرآن ظنوه مصدرا للظلم والعدوان ومنبعا للجهل والتخلف.  

 وإذا أردنا أن نوجه رسالة لهؤلاء الذين لا يتوقفون عن الاعتداء على القرآن، ويظلمون أنفسهم حين يغمضون أعينهم عن أنوار القرآن وهداياته، والذين يسيؤون إلى الحقيقة حين يكوّنون صورة ذهنية لم يستقوها من مصادرها الأصلية، والذين يحرمون أنفسهم من الخير حين ينفرون من القرآن وأهله دون أن يطلعوا على ما فيه من خير وصلاح. 

فنقول لمن يريدون الاعتداء على القرآن أتعرفون القرآن؟ هل قرأتموه يوما؟ أم أنكم قرأتم عنه بقلم عدو أو حاقد أو جاهل؟

ثلاث وقفات مع هدايات القرآن

تعالوا معنا إلى القرآن الكريم لنقف وقفات ثلاث مع هداياته المتعددة:

الوقفة الأولى:

أول هذه الوقفاتمع طريقة تلقي الأخبار، جاء في كتاب الله تعالى {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا } [النجم: 28]، كم هي الأوهام التي تتحكم في الناس وتجد من يصدقها ويتصرف من خلالها حين يحب أويكره، ويوالي أويعادي ويدخل في استثمارات أو يخرج منها بعد أن سمع متحدثا ما أو قرأ شيئا ما، هذا الكتاب الكريم يقدم للإنسان  نورا يضيء له طريق في التعامل مع الأخبار التي يسمعها ،فلا يسلم أذنه ولا عقله ولا قلبه إلا للخبر الصادق والمعلومة الصحيحة، لا تغتر بكثرة الكلام الذي يقال،{وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116] تأكد مرة ومرة قبل أن تكوّن رأيا أو تتخذ قرارا.

هل تريدون أن يسير البشر  بغير هدى فيقبل كل ما يسمعه؟، هل الحضارة التي تدعون أنكم وصلتم إلى قمتها تقتضي أن يغمض الإنسان عينه، ويتبع كل صاحب صوت عال دون أن يفتش في ما يسمع؟.

الوقفة الثانية:

ثاني هذه الوقفات تتعلق بإعمال النظر والفكر ، جاء في كتاب الله تعالى العديد من الآيات التي فيها قوله سبحانه:”  يتفكرون” “تتفكرون” “يتدبرون” “يدّبروا”  “يتذكرون” “تتذكرون” “أولو الألباب”،  هذه الألفاظ والجمل القرآنية تفتح النفس والعقل والقلب والروح على الملكوت لكي يفكر ويتأمل، ولو ضربنا مثلا واحدا بما جاء في كتاب الله تعالى يحث على إعمال الفكر، نجد قوله عز وجل: { أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } [ق: 6 – 8] فيعود بعد هذه الجولة وقد ازداد إيمانه ومعرفته بالكون ،وازداد يقينه بأن الله على كل شيء قدير . هذه المعارف العلمية بالكون وما فيه من قوى وموجودات سخرها الله تعالى لبني آدم ،تتطلب من المسلم أن يطيع الله تعالى فيحول المعلومات إلى مخترعات ومنتجات تيسر حياة الإنسان على ظهر هذا الكوكب.

هل الحضارة التي تدعون أنكم وصلتم لقمتها تتطلب البحث والدرس لكل ما تقع عليه العين؟  أو تكتفي بالنظرة التي تقف عند جمال الكون – لو وقفت – دون أن تبحث عما فيه من موارد سخرها الله للبشر، ودون أن تتسائل عن الخالق وما أنزله من كتاب يهدي الخلق إلى التي هي أحسن.

 الوقفة الثالثة:

وثالث هذه الوقفات يتعلق بالشأن الاجتماعي، نجد في كتاب الله تعالى توجيهات كثيرة تصلح المجتمعات، منها قوله عز وجل {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114]  كثيرة هي الأحاديث التي تدور في المجالس أو عندما يلتقي الناس عرضا دون تخطيط مسبق، كيف نسخر هذه اللقاءات لما فيه خير المجتمعات بدلا من أن تكون أداة هدم وهدر للوقت، وللعلاقات الاجتماعية تكون أداة نفع وبناء وإصلاح؟؟

ثلاث وسائل لتحسين من حياة الناس

ونجد في الآية الكريمة ثلاث وسائل تحسن من حياة الناس:

الوسيلة الأولى:

أول هذه الوسائل، الأمر بالصدقة، وهو تعزيز للتكافل المادي بين أعضاء الجسد الواحد ليكبر هذا الجسد وينمو ويستطيع مقاومة الخلايا السرطانية التي تنتج من المسافات الشاسعة بين الأغنياء والفقراء،  وتنتج من شح  الأغنياء  وعدم إحساسهم بمعاناة إخوانهم المحيطين بهم.

الوسيلة الثانية:

ثاني هذه الوسائل أو الأدوات التي يستخدمها المجتمع المسلم في البناء والإصلاح، الأمر بالمعروف ولابد أن يكون ذلك  بطريقة تراعي التنبيه على الخطأ وليس تجريح من نأمرهم بالمعروف.

الوسيلة الثالثة:

وثالث هذه الأدوات جهد  تعيد به مياه الود إلى مجاريها؛ بين جار وجاره وأخ وإخوانه ووالد وولده وزوج وزوجته، وهذا من أفضل الأعمال أجرا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ؟ ” قَالُوا: بَلَى. قَالَ: “إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ” قَالَ: “وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ”. [مسند أحمد وقال محققوه :إسناده صحيح]

هذه الأعمال الثلاثة  إذا أديت كما ينبغي وقصد بها فاعلها وجه الله، فله من الله تعالى الأجر العظيم، والكريم إذا وعد بأجر عظيم فلا تسأل عن سعته وكثرته ،فهذا أكبر مما تتحمله عقولنا. 

تكررت الحوادث المؤسفة المسيئة للنبي وللقرآن وللإسلام، والمؤذية لمشاعر المسلمين  والمعتدية على أبدانهم وأوراحهم  ولكل حادثة ملابساتها.

هل يمكن أن نوجه الرسائل السابقة وغيرها لهؤلاء المعتدين المتذرعين بحرية التعبير،  ليدركوا إلى أين يسيرون بأنفسهم وبمن يتبعهم؟؟

هل يمكن أن نعود إلى أوصاف النبي في الكتب السابقة لكي نتخذ منها أسوة في التعامل مع هذه الحالات المزعجة للتواجد الإسلامي في الغرب، والتي نجد منها:”  ولا تزيده شدة الجهل عليه إلا حلما”؟؟ [المستدرك]، إن الحلم الذي نتعلمه من النبي يقتضي التعامل بروية و موازنة بين المصالح والمفاسد.

هل يمكن يوما ما أن ندعوا هؤلاء المعتدين على حرماتنا إلى الاسلام؟؟ لنقتدي بمصعب بن عمير الذي واجهه أُسيد بن حضير حين جاء متهددا ومتوعدا وحاملا لحربته لكي يؤكد تهديده لمصعب أن يتوقف عن تعريف الناس بالله تعالى وبما يأمرهم به من خير وما ينهاهم عنه من شر، فرد عليه مصعب بن عمير رضي الله عنه ردا ملؤه الحكمة والتعقل:” ألا تجلس فتسمع فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهت كففنا عنك ما تكره”، قال أُسيد:” أنصفت”.

هل يمكن أن تفيد هذه الرسائل القرآنية أمام من يبغضون الإسلام ويعادون أهله؟ لنعد إلى السيرة النبوية لنجد أنفسنا أمام أشخاص لم يكونوا أعداء للإسلام فحسب بل جاءوا للنبي لكي يترك الرسالة بجملتها، ويتحول من رسول يبلغ رسالة ربه إلى أحد رجالات الدنيا ويغرونه بالمال لكي يتم هذا التحول المستحيل، قرأ النبي على هذا الرجل القرآن، صحيح أن حبه للدنيا حال بينه وبين الانقياد لله رب العالمين، لكنه أبصر الحقيقة وحدثت اللحظة التي عاد فيها لفطرته السليمة، حتى قال من رآه:” أحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد – عتبة بن ربيعة-بغير الوجه الذي ذهب به [سيرة بن اسحاق].

ماذا نفعل حيال الاعتداء على القرآن؟

مع تقديرنا لهذه العواطف الملتهبة التي ظهرت في ردود أفعال البعض والتي تدل على حب واستعداد للتضحية، إلا أن التعامل مع مثل هذه الحوادث والتي تكررت ولا يوجد ما يمنع تكرارها طالما بقي الوضع على ما هو عليه؛ من بلاد ترى حرية التعبير بلا سقف، ومواقف دبلوماسية لا تستطيع أن تضغط بما فيه الكفاية لوقف مثل هذه الأعمال التي تثير الضغينة والعداء بين الشعوب، ومواقف شعبية يتم تصويرها على أنها بربرية وعداء للحرية، ومواقف لبعض العلماء يتم تصويرها في إطار التخاذل والنأي بالنفس عن مواقف صارمة قد تكلف البعض حريته أو حياته.

وفي هذا الإطار الملتبس ما الذي يمكننا تقديمه أو القيام به حيال الاعتداء على القرآن ولكي نعرض مواقفنا بوضوح وشفافية، ولتكون مواقفنا مؤثرة أو مساهمة في إيقاف هذه الإساءات؟ هذا السؤال مطروح للنقاش، ولعل ما يمكن أن نقدمه – وهو كثير- أن نقدم صورة حقيقية للقرآن بأخلاقه وقيمه وتعاليمه وحلاله وحرامه يراها الناس تسير على قدمين اقتداء بالنبي ،ما لم نفعل ذلك ستبقى الصورة الذهنية في حاجة إلى التصحيح، وستبقى محاولات العدوان متكررة.