من يتعمق في سنن الكون والمنهجية التي يسير بها يلاحظ أنها تسير ضمن منهجيتين، منهجية منسجمة مع حركة الإنسان في الحياة ومُطوَعة له لقضاء حوائجه وتطويره على الصعيد المادي والمعنوي. وخذ مثلا حركة الشمس والقمر والأرض وما ينعكس عن هذه الحركة من فائدة للإنسان من حيث ثباته على الأرض وتهيئة المناخ المناسب، بل وقدرة الإنسان الاستفادة من هذه الحركة وتنمية واستدامة الموجودات من حوله بسهولة، وهذا من شأنه أن سهل العملية التعليمية ونظرياتها وتطبيقاتها عل أرض الواقع وتاريخية التعليم العالمي دليل على السهولة التي كان التعليم يعيشها بدون أي عقبات.

 إلا أن هناك سننا كونيه معاكسة لحركة الإنسان في الحياة وتشكل عائقاً أمامه في انجاز واتقان العملية التعليمية، فضلا عن تنمية واستدامة المواد والآليات من حوله في ضوء هذه السنن المعاكسة، وهذه السنن في الحقيقة هي دافعية للعقل الإنساني وتحفيز لحركته واجتهاده بدلا من الاعتماد على المسلمات والجاهزات، كما يفهما الإسلام من منظور سُنة التدافع في الأرض، فضلا عن مفهوم القضاء والقدر في الإسلام الذي يتطلب من العقل المسلم التسليم للواقع من حيث مصدره، وحرية طرق مجابهته ورفعه، انطلاق من عقيدة أهل السنة والجماعة تحديدا.

والسؤال المطروح هنا في هذه الورقة هل التنمية المستدامة والتطوير للتعليم ممكن في ضوء الجوائح من خلال الرؤية الإسلامية، نستطيع القول للإجابة على هذا التساؤل أن القوانين والسنن الكونية تفرض على العقل نوعاً من الحتمية، لتقيد حركته وتصرفاته في حدود القانون، فالجاذبية قانون لطالما قيد العقل بحتمية التنقل براً أو بحرا، ولم يتخلص العقل من هذه الحتمية بإلغاء هذا القانون، ولكن بالتصرف مع شروطه بوسائل جديدة تجعله يعبر ويركب الفضاء كما يفعل اليوم، فإذا أفادتنا هذه التجربة شيئا، إنما تفيدنا بأن القانون في الطبيعة لا يستحيل أمام الإنسان الدائب استحالة مطلقة، وإنما يواجه بنوع من التحدي يفرض عليه اجتهادا جديدا للتخلص من السببية ضيقة النقاط، لذلك تؤكد الرؤية الإسلامية في هذا المجال أن الإنسان هو محور ومركزية التغيير والتنمية في ضوء صعوبة القانون، كما يسميه المفكر الإسلامي جودت سعيد بمحور النفوس[1] ويتخذ  من الوحي مرجعية في هذا السياق لقوله تعالى: ﴿‌إِنَّ ‌اللَّهَ ‌لَا ‌يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11]، ويرى أن القوانين العلمية والإنسانية وحركة التاريخ جميعا خاضعة إلى إرادة النفس الإنسانية، إما في مُجارات القوانين السلسة للاستفادة منها وتنميتها واستدامتها، وإما تطويع القوانين المعاكسة من خلال إرادة الانسان التغلب عليها والاستفادة منها، لذلك يمنح الوحي مساحة أكبر للعقل لتنسيق العلاقة بين الإنسان والكون وهو الجانب الآخر من العقيدة.

فإن كان الوحي يعطي هذه المساحة للعقل ويفسح المجال أمامه، فإننا أمام نصوص توجب على العقل المسلم التفكير والتفاعل والتنمية في ضوء التحديات إذ يبين القران الكريم عند ذكره للإنسان في معرض الموجودات خصوصية التميز والرفعة وقدرته على مواجهة التحديات، ويضعه في المكان الجلي في سلم التفاضل القيمي للمخلوقات وهو ما جاء واضحا أشد الوضوح في قوله تعالى ﴿‌وَلَقَدْ ‌كَرَّمْنَا ‌بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: 70]، وهذا التفضيل للإنسان والإعلاء من شأنه بين سائر المخلوقات حيث بينت أن الكائن الجديد سيقوم بتغيير جذري في الموجودات بما يحمل من أدوات، حيث أصبح مؤثرا ترنو إليه المخلوقات جميعا، وقد خُص الإنسان أيضا بصفات خاصة على المستوى المعرفي وهي المتمثلة في قدرته على الاستيعاب المعرفي للكائنات، فهو مهيأ بوسائله الإدراكية لأن ينقل العالم الخارجي في مواصفاته الكمية إلى عالمه الداخلي على سبيل التصور، فيصبح هذا الكائن الصغير حاملا في ذاته لذلك العالم الكبير .

 فيحصل له بذلك الأفضلية على سائر الكائنات، وهو ضرب من الرفعة والاستعلاء أكدهما قوله تعالى: ﴿‌وَعَلَّمَ ‌آدَمَ ‌الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 31]، لذلك أعطى الوحي المساحة المطلقة للعقل في إدراك وتعلم هذا الكون بل سخر هذا الكون بكليته وما ينطوي من قوانين  منسجمة أو تحمل التحدي لهذا العقل لتحقيق الاستخلاف له، تأسيسا لتنمية الإنسان وقدراته وتنمية الموجودات من حوله المادية والمعنوية.

والعملية التعليمية في ضوء جائحة كوروناتعرضت لنكسة بسبب عدم الجاهزية، وبسبب عدم التأسيس الفكري الذي يبنى عليه أي تغيير في نمط حياة الانسان، بالرغم من وجود هذه التأسيس في التصور والفهم الإسلامي للجوائح والمتغيرات كما أسلفنا. والذي يؤسس للعمل التطبيقي في تنمية واستدامة العملية التعليمية، لذلك ومن خلال الآيات نجد التأسيس الإسلامي للاستفادة من صفحة الكون الكليةوفتح الآفاق أمام العقل التعليمي بتعدد أليات التعليم ومصادرة، فالوحي حين يلفت انتباه العقل المسلم الى الكون بكليته هي إشارات إلا أن هذا الكون على المستوى المادة العلمية كله مفتوح دون أي قيود، وكذلك آليات المعرفة كلها طرق مشروعه ومباحه لتحصيل المعرفة الإنسانية، هذه المساحة الشاسعة في الفهم الإسلامي تمنح العملية التعليمية استراتيجيات متعددة وبأن كل منهج وألية يمكن استخدامها وأن الاقتصار على منهج وآلية واحده تضييق على العقل وتضييق على العملية التعليمية.

لذلك هذا التأصيل يحفز علماء التربية والتعليم الى فتح الباب واسعا لآليات التعليم حتى لا تقع المجتمعات في الإشكاليات التعليمية التي عاشتها أثناء جائحة كورونا، وهذا من شأنه تحفيز العقل التعليمي الى مسألتين : أولاً: القدرة على مجابهة جائحة كورونا ومثيلاتها وذلك بالانتقال الى آليات ومصادر متعددة يؤكد عليها الوحي من خلال مصادر المعرفة المتعددة، كالوحي، والمثالية، والمادية، والحدسية، وغيرها مما يقره الإسلام كمصادر معرفية، إذا استعصى جانب سيجد العقل مصدرا آخر يعزز فيه معرفته وحاجته المعرفية، فإذا كانت المعرفة المادية التطبيقية يصعب ممارستها في جائحة كورونا، يفتح المجال للجانب المثالي والفكري والتنظيري، وحتى الحدسي العلمي، فكلها طرق معرفيه لها دورها في تغذية الانسان المعرفية، وتأتي التقنيات الإلكترونية الحاملة لهذه الجوانب في تقويتها وتداولها. من جانب آخر يؤسس الوحي الى تعدد المادة العلمية ذاتها.

ثانياً: هذا التعدد في مصادر المعرفة وآلياتها سيكون حافزا الى تنمية التعليم واخراجه عن إطاره التقليدي حتماً ممن ثم تنمية هذه الآليات من خلال استحداث آليات جديدة

دافعية العقل المسلم الى افتراض المسائل والجوائحوحلها في عالم التخيل الممكن وغير الممكن

إن تنمية العقل واستدامته قبل الجائحة وخلالها يعتبر أكبر تفكير عقلي تنموي يمكن ان يمارسه العقل المسلم

 وهذا يعتبر بحد ذاته تنمية مستدامة للعقل وتنميته على قدرة التصور التخيلي وإيجاد الحلول للوقائع والمسائل حتى غير الممكنة في الواقع، والانتقال لاستراتيجية التنمية الفكرية، فالآيات القرآنية الآمرة والموجهة للإنسان في مجال التعليم لم تحد أو تمنع الآليات الممكنة في التعليم والمتعددة منها.

 وهذا ما التقطه علماء الإسلام الأحناف تحديدا أصحاب مدرسة الرأي وقدموا نموذجا استراتيجيا لحل الأزمات والمسائل والنوازل قبل وقوعها وممارسة التخيل المعرفي ومحاولة وضع الحلول قبل وقوعها واقعيا او تخيلياُ من خلال الفقه الافتراضي.

وهذه الآليات من شأنها أن تصبح نظريات تعليمية معاصرة وإنتاج العقل التخيلي والافتراضي للمسائل، وهذا من شأنه إفادة التعليم من جانبين:

أولاً: من جانب حل المسائل التي تواجه التعليم في جائحة كورونا إذا ما واجهت العملية التعليمية فيكون العقل التعليمي مهيئ لها أو بما يشابهها من الجوائح التي كان قدر تصورها أو تخيلها ووضع لها حلولا.

ثانيا: من جانب تنمية العقل الإنساني التعليمي ليصبح لديه القدرة التخيلية والاجتهادية الكبيرة فالتنمية المستدامة تكون بذلك على صعيد الواقع وعلى صعيد آليات التفكير الإنساني وتنميتها. ولكن ما يميز هذه النظرية رؤيتها الإسلامية من خلال التأكيد على الجوانب التي يوجه الوحي العقل لها، حتى لا يدخل التفكير في مساحة ما لا فائدة منه في الحقل المعرفي التخيلي وخدمة العملية التعليمية، والتأكيد كذلك على التفكير التخيلي المقاصدي الذي يؤكد على الضرورات الخمس التي يطرحها الإسلام للتأصيل الى كل علم، والذي من شأنه حفظ هذا النوع من التنمية الفكرية من الشذوذ، أو استخدامه في غير محله ولإضرار بالعلوم وتغيير مسارها الذي أوجدها الله لأجله.

وهذه النظرية التعليمية وتأصيلها الإسلامي تعتبر فاعلة في عالم التعليم وآلياته الفكرية الحديثة خلال جائحة كورونا وما بعدها، بحيث يمكن لكل تخصص وعلم أن يعيد صياغة المناهج الدراسية الخاصةبه في ضوء التفكير الافتراضي والتخيلي المقاصدي، فبعد أن يتم تلقين الطالب بمسائل العلوم الأساسية والمسلمات المتفق عليها في كل علم من العلوم، يتم الانتقال من خلال المنهج الى مسائل افتراضية يهيئ من خلالها المنهج عقل الطالب لقدرة التخيل الممكن وكيفية استيعابه ووضع الحلول الناجعة له.  وهذه النظرية باعتقاد الباحث أصل لها فقهاء الإسلام من خلال ممارسة الفقه الافتراضي ومسائله وسبقوا بذلك النظريات الحديثة التي يتداولها الباحثون مثل (مهارات التفكير الناقد) من غير الإشارة الى تأصيلها عند علماء الإسلام.


[1] – انظر: سعيد، جودت، حتى يغيروا ما بأنفسهم، القاهرة تقديم مالك بن نبي، مؤسسة الاهرام للنشر، 1998، ص: 11.