“التمكين” هو الترجمة العربية الشائعة لمفهوم “empowerment” أحد المفاهيم المستحدثة التي تم تداولها وتوظيفها بكثرة في عدد من المجالات والحقول المعرفية، وقد وقع اختيار الأمم المتحدة على هذا المفهوم ليشكل حجر الزاوية في منظومتها التنموية منذ نهايات القرن الفائت والتي استهدفت دمج النساء والفئات المهمشة في عملية التنمية، وهو ما أدى إلى انتشار المفهوم عالميا على صعيد واسع. ولكن ماذا عن التمكين في القرآن؟

وفي السطور التالية نسعى إلى تحري مفهوم التمكين في السياق القرآني ثم نتبعه بدراسة المفهوم في السياق الحداثي الغربي مستهدفين الإجابة عن سؤال رئيس وهو: هل يعد مفهوم التمكين موازيا ومكافئا لمفهوم “empowerment” أم أن هناك اختلافات بينهما تجعلنا متحفظين من وضع المفهومين بموازاة بعضهما البعض، وإذا صح وجود الاختلافات ألا يعد ذلك حالة من حالات التلبيس أو السطو المفاهيمي على مفهوم قرآني (حسب تعبير الدكتور سيف عبد الفتاح) بحيث يتم تفريغه من دلالاته المعرفية وربطه بدلالات مغايرة وربما مضادة للدلالات الأصلية.

التمكين في الرؤية القرآنية

التمكين هو مصدر للفعل (مكَّن)، والمكان عند أهل اللغة هو الموضع الحاوي للشيء، وقد وردت مادة (م ك ن) بمعان متعددة، منها: مكن الشيءُ قوي ومتن ورسخ واطمأَنَّ فهو ماكِنٌ، ومكَّنه من الشيء وأمكنهُ منهُ: جعل لهُ عليهِ سلطانًا وقدرةً، وأمكن فلانًا الأمر: سهل عليهِ وتيسَّر وقدر عليه. وتمكن من الأمر واستَمْكَن منهُ: قدر عليهِ وظفر بهِ. ويقال: مَكَّنْتُه وأمْكنتُ له فَتَمَكَّنَ، وأمْكنتُ فلانًا من فلانِ (1).

وقد وردت كلمة التمكين ومشتقاتها في القرآن الكريم في ثمانية عشر موضعًا، وغلبت عليها الصيغة الفعلية التي يبدو فيها التمكين كأنه صيرورة وليس مفهوما ساكنا، وفيها ينسب الله تعالى التمكين إلى ذاته العلية؛ فهو وحده من يمكن للإنسان وليس الإنسان من يمكن لذاته فردًا كان أو جماعة.

وتُظهر الآيات القرآنية وجود علاقة ارتباطية وثيقة بين مفهومي التمكين والاستخلاف؛ فالله تعالى يقول (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم) وفي الآية يبدو الاستخلاف في الأرض سببًا لعملية التمكين في الدين ويكون التمكين نتيجة مترتبة على عملية الاستخلاف، وتشير الآيات كذلك إلى أن التمكين مثلما يتحقق في المستوى الجمعي فإنه يتحقق في المستوى الفردي؛ فالله عز وجل يقول (ولقد مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء).

يمكن التمييز بين صيغتين قرآنيتين من صيغ التمكين في القرآن؛ الأولى التمكين للإنسان في الأرض، والثانية التمكين للشيء (الدين، والقوة، والمال..)، في الصيغة الأولى يتم التمكين عبر المستوى الحسي المادي، وفيه يتم تمكين الإنسان من التصرف في الأرض ويُمنح القدرة على جعلها مستقرا ومعاشا (الوظيفة الاستخلافية)، فيقول الله تعالى “ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون”، ويندرج تحته تمكين المال والقوة والنسل “ولقد مكناهم فيما إن مكناكم ” وفي الصيغة الثانية يتم التمكين عبر المستوى الروحي؛ حيث يفضي التمكين للدين إلى تحقيق الأمن للإنسان، وهو ما يتجلى في قوله تعالى “وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم بعد خوفهم أمنا”(2).

وبتضافر هذين المستويين تتحقق تكاملية عملية التمكين في بعديها المادي والروحي؛ فالتمكين ليس عملية مادية يتحقق فيها إعمار الأرض بالوسائل المادية لكنه أيضا ضمان الأمن النفسي والروحي للإنسان.

التمكين في المنظور الحداثي

مفهوم empowerment من المفاهيم المتداولة بكثرة في المجال المعرفي الغربية، حيث يستخدم في عدد من الحقول المعرفية والمجالات العلمية كالاقتصاد والتنمية وعلم النفس والتعليم والإدارة والاتصالات والدراسات النسوية، وهو يوصف بأنه “مفهوم ملغز”؛ فبعض الدراسات تستخدمه دون تعريف مستندة إلى انتشاره، وبعضها تقوم بتعريفه انطلاقا من مجال معرفي معين؛ فتقلص من معانيه وتختزلها عند حدود هذا المجال رغم شموله. وحسب قاموس ويبستر فإن الفعل (empower) يعني إعطاء القوة القانونية أو السلطة الرسمية، كما يعني الاستطاعة

 والقوة (Power) هي الكلمة المحورية التي تكسب المفهوم معناه ودلالاته ويتم تعريفها بأنها السيطرة على الموارد المادية والمالية والفكرية، كما تعني -في بعض التعريفات- القدرة على التنفيذ وإجبار الآخرين على تنفيذ سياساتنا بغض النظر عن اهتماماتهم ورغباتهم. ويستشف من ذلك أن القوة ليست مفهوما إيجابيا أو حتى حيادي الدلالة؛ وإنما مفهوم محمل بالدلالات السلبية المؤسسة على الصراع من أجل الاستيلاء على الموارد والمحاولات القسرية لإحداث التغيير دون توضيح كيفيته أو تحديد وسائله وأدواته.

وبعيدا عن التعريفات اللغوية يمكن النظر إلى التمكين في القرآن بوصفه عملية ذات أبعاد وتجليات مختلفة، يمكن بيانها كالتالي:

عملية اجتماعية متعددة الأبعاد: تتم على الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتتنقل بينها جميعا دون أن تقتصر على صعيد بعينه، ومن جهة أخرى تجمع بين المستويين الفردي والمجتمعي؛ ذلك أنها تفترض أن تمكين الفرد يؤدي في نهاية المطاف إلى تمكين المجتمع.

عملية تغييرية: تستهدف حصول الأفراد على القوة وتفترض أن هذا يتم من خلال اكتساب المعلومات الخاصة بهم وبالبيئة التي يعيشون فيها، ومن خلال التطلع نحو العمل مع الأفراد والمؤسسات من أجل إحداث التغيير المطلوب في المجتمع.

عملية تفاعلية: هي نتاج تفاعل خبرات الأفراد، وينتج عنها التغير الاجتماعي، وغايتها أن يتمكن الأفراد من العمل لإحداث التغيير من خلال المؤسسات ذات التأثير في حياتهم ومجتمعاتهم.

عملية تنموية: تبتغي زيادة وعي الأفراد بقدراتهم، وتحثهم على تطويرها ليصبحوا مؤهلين للحاق بعملية التنمية.

استنادًا إلى هذه الخصائص تم تعريف التمكين في وثائق الأمم المتحدة ببضع تعريفات منها، أنه “فعل اجتماعي يستهدف حث الأفراد والمؤسسات والمجتمعات على زيادة التحكم فرديا وجماعيا، وتحقيق الفاعلية السياسية وتحسين جودة الحياة، وتحقيق العدالة الاجتماعية”، وهو في تعريف آخر يتسم بالمرونة والعمومية “عملية اجتماعية متعددة الأبعاد تساعد البشر على أن يتحكموا في حيواتهم الخاصة، وهو عملية تعزيز القوة التي يستخدمها البشر في حياتهم الخاصة وفي مجتمعاتهم”، ويتم تعريفه أيضا بأنه “عملية تحدي افتراضاتنا حول الكيفية التي يتشكل عليها الواقع وما ينبغي أن يكون عليه”(3).

مقارنات بين المفهومين

وبمقارنة الدلالات والمعاني المرتبطة بمفهوم “empowerment” بمثيلاتها المرتبطة بمفهوم التمكين يتبين أن هناك اختلافات أساسية يمكن تلخيصها في التالي:

 أولا: أن التمكين في المجال التداولي الغربي مهمة تقع على عاتق الإنسان وهي ما يطلق عليها “تمكين الناس للناس” أو (people empowering people (the، على حين يعد التمكين في المجال التداولي العربي عملية من صنع الخالق سبحانه وتعالى وليس للإنسان يد فيها.

ثانيا:أنه بينما تتقلص أبعاد مفهوم empowerment في بعد وحيد هو البعد المادي ويتمركز حول دلالات مفهوم القوة الصراعية، فإن مفهوم التمكين يعد ذا دلالة مركبة تجمع ما بين المادية والروحية في تعبير فريد عن ثنائية الطبيعة الإنسانية التي تستوعب المادة ولا تنكر الميتافيزيقا.

وثالثا: أن المقاصد التي يبتغيها كل مفهوم منهما تختلف اختلافا بينًا عن مقاصد الآخر، فبينما يروم مفهوم التمكين في السياق الغربي إلى أن يسيطر البشر على حيواتهم ويصبحوا أكثر تحكما في الموارد، فإن عملية التمكين في المجال التداولي العربي الإسلامي مقصدها الرئيس التمكين لدين الله وتحقيق الطمأنينة للإنسان.

 وإزاء هذه الاختلافات فإننا نجد أنه يتعذر التسوية بينهما في الدلالة والمقصد، ولذلك نعتقد أنه ينبغي علينا التريث قبل نقل المفاهيم الحديثة ونقلها إلى المجال التداولي العربي والإسلامي، بحيث يتم فحص المفاهيم ومحتواها ودلالاتها فحصا جيدا، والبحث عن أقرب المفاهيم إليه، فإن لم يوجد يتم نحت اصطلاح جديد، والابتعاد تماما من المساس بالمفاهيم الكلية القرآنية التي تدور في فلك منظومة مفاهيمية متكاملة تحيل على دلالات محددة المعاني، وعلى هذا نقترح أن يتم نقل مفهوم empowerment إلى المجال التداولي العربي تحت مسمى (التقوية) تمييزا له عن مفهوم التمكين القرآني، أو التمكين في القرآن واعتقادا أنه الأكثر قدرة على التعبير عن مضمونه القائم على حيازة القوة.