يعد الذكاء الاصطناعي بتقنياته وأنظمته المختلفة والتي شملت العديد من مناحي الحياة من المسائل العلمية المستجدة التي لم يعرفها فقهاء الشريعة القدامى، وللوقوف على الموقف الشرعي من تلك التقنيات الذكية وما تقدمه للبشرية من خدمات جليلة في مجالات عدةٍ سأتعرض لمكانة العلم في الشريعة الإسلامية، ثم أردف ذلك ببيان الموقف الشرعي من تلك التقنيات وذلك من خلال الفرعين التاليين:

الفرع الأول مكانة العلم في الإسلام إن الناظر والمتأمل في كتاب الله عزوجل وسنة رسوله الكريم يلاحظ أنه لا يوجد دين من الأديان قد أعلى من شأن العلم والعلماء مثل الإسلام يدل على ذلك أن أول آية نزلت من القرآن لم تأمر بصوم ولا صلاة ولا جهاد وإنما أمرت بالقراءة التي هى المفتاح الأساسي لسائر العلوم دينية كانت أو دنيوية كما قال جلّ شأنه: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ** الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴾﴾[سورة: العلق، الآيات: ١ – ٤]

ويطلق العلم في الإسلام على كل ما هو نافع من الأمور حيث يهدف لتكوين الإنسان الصالح وزيادة صلته بربه، وفي خدمة الدين الإسلامي، ولصالح الحياة والإنسان[1]، فحث الإسلام على العلم لا يقتصر على تحصيل العلوم الشرعية فقط، بل يشمل كل علم مفيد لبني الإنسان يدل على ذلك إطلاق لفظ العلم في قوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾[سورة: طه، من الآية: ١١٤ ]، وما روى أن النبي قد طلب من زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتعلم لغة اليهود فعن خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ زَيْدٍ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ «أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ اليَهُودِ» حَتَّى كَتَبْتُ لِلنَّبِيَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُتُبَهُ، وَأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ، إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ”[2].

بل إن عقيدة الإسلام قائمة على أساس العلم بالأشياء وليس على أساس التسليم الأعمى كما قال جل شأنه:﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّ اللَّهُ﴾[سورة: محمد، من الآية ١٩]، وقوله تعالى: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَّابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة: المائدة، الآية ٩٨] إلى غير ذلك من الآيات، كما اشتمل القرآن على مئات الآيات الدالة على طلب العلم وإعمال العقل والحث على التفكر والتأمل نحو قوله تعالى: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ، أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ، أَفَلَا يَنْظُرُونَ، أَوَلَمْ يَتَقَكَّرُوا، لِقَوْمِ يَعْقِلُونَ. لِقَوْمِ يَتَگِّرُونَ﴾ وغيرها[3].

 ومما يدل على فضل العلم في الإسلام إعلائه من شأن العلماء وجعلهم في مكانة لا تدانيها مكانه ويظهر ذلك جلياً في قوله تعالى: ﴿ شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[سورة: آل عمران، الآية ١٨]، قال الإمام ابن القيم: وهذا يدل على فضل العلم وأهله من وجوه أحدها: استشهادهم دون غيرهم من البشر، والثاني: اقتران شهادتهم بشهادته، والثالث: اقترانها بشهادة ملائكته، والرابع: أن في ضمن هذا تزكيتهم وتعديلهم فإن الله لا يستشهد من خلقه إلا العدول ….. السادس: أنه سبحانه استشهد بنفسه وهو أجل شاهد ثم بخيار خلقه وهم ملائكته والعلماء من عباده ويكفيهم بهذا فضلاً وشرفاً[4].

وقال الإمام الغزالي: فانظر كيف بدأ سبحانه وتعالى بنفسه وثنى بالملائكة وثلث بأهل العلم وناهيك بهذا شرفاً وفضلاً وجلاءً ونبلاً[5].

ومما يزيد من عظم تلك المكانة قوله تعالى: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [سورة: المجادلة، من الآية ١١].

كما أكدت السنة على أهمية العلم ومكانته في الإسلام ويظهر ذلك جلياً من خلال الحث على تعلم العلم وتعليمه للناس ومن ذلك ما روى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” …. وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ … “[6].

وما يدل على فضل العلم عدم انقطاع ثوابه بموت صاحبه فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ” إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحِ يَدْعُو لَهُ “[7]. إلى غير ذلك من النصوص النبوية الدالة على فضل العلم والحث على نشره بين الناس.

الفرع الثاني الحكم الفقهي للذكاء الاصطناعي

بينا في الفرع السابق فضل العلم ومكانته في الإسلام وأن العلم الذي يدعو إليه الإسلام لا يقتصر على العلوم الدينية فحسب بل يشمل كل علم من شأنه أن يكون نافعاً للإنسانية من العلوم الدنيوية المختلفة عملاً بعموم قوله تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾[سورة: طه، من الآية: ١١٤ ] وبمقتضى تلك الآية يمكن القول بأن الذكاء الاصطناعي كعلم من العلوم لا حرج فيه طالما قد خلا من المحظورات الشرعية وأنه من الأمور المباحة لما فيه من منافع للإنسانية وذلك طبقاً لما هو مقرر في شريعتنا من الأصل في الأشياء الإباحة والحل حتى يأتي دليل على تحريمها بدليل عموم قوله تعالى: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾[ سورة: الجاثية، من الآية ١٣]، وفي هذا يقول الإمام تيمية رحمه الله عليه:”لست أعلم خلاف أحد من العلماء السالفين في أن ما لم يجئ دليل بتحريمه فهو مطلق غير محجور”[8].

أما عن الموقف الفقهي لتقنيات الذكاء الاصطناعي وأنظمتة المختلفة فيمكن بيان الحكم الشرعي لها تبعاً لشكلها والغرض منها وذلك على النحو التالي:

أولاً: حكم تقنيات الذكاء الاصطناعي من حيث الشكل:

تتخذ انظمة وتقنيات الذكاء الاصطناعي أشكالاً وصوراً عدة منها ما يكون على هيئة ذوات الأرواح كالإنسان وغيره، ومنها ما يكون بخلاف ذلك، فإن كانت هذه التقنيات الذكية على هيئة الإنسان أو غيره من ذوات الأرواح فلا شك أنها تأخذ حكم تصوير وتجسيد ذوات الأرواح المنهي عنه شرعاً عند جمهور العلماء قاطبة[9]، بل نقل كثير من المالكية الإجماع على ذلك[10].

الأدلة

استدل جمهور العلماء على تحريم تجسيد ذوات الروح من الإنسان وغيره بالقرآن والسنة والإجماع والمعقول:

أولاً: القرآن الكريم:

فقد وردت العديد من الآيات القرآنية الدالة على تحقير التماثيل وتقليل شأنها، والاستهانة بها وبعابديها، وصانعيها[11] وأن الذين يعكفون عندها متبرون أي هالكون لا محالة، وكل هذا إن دل فإنما يدل على شدة تحريم صناعتها واتخاذها[12]، ومن هذه الآيات ما يلي:

قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾[سورة: الأنبياء، الآيات ٥٢- ٥٤]، وقوله تعالى: ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [سورة: الصافات، الآيتان ٩٥ – ٩٦]، وقوله تعالى: ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَنَّوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامِ لَهُمْ قَالُوا يَامُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهَا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [سورة: الأعراف، الآيتان ١٣٩،١٣٨].

ثانياً: السنة النبوية:

أيضاً اشتملت السنة النبوية المطهرة على العديد من النصوص الدالة على تحريم تجسيد ذوات الأرواح من الإنسان وغيره وقد تجلى هذا التحريم في صورتين:

الأولى: قيام النبي الكريم بهدم الأصنام التي في جوف الكعبة وعلى ظهرها ومن حولها حتى تولى عملية الهدم والتكسير لها بيده الشريفة [13]، ومن الأحاديث الدالة على ذلك ما يلي:

– عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، وَحَوْلَ البَيْتِ [ص: ٨٧] سِتُّونَ وَثَلاَثُ مِائَّةٍ نُصُبٍ، فَجَعَلَ يَطْعُنُّهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ، وَيَقُولُ: ” {َجَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ، إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: ٨١]، {جَاءَ الحَقُّ وَمَا يُبْدِئُّ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: ٤٩] “[14].

– عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسَدِيّ، قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: أَلَا أَبْعَثُّكَ عَلَى مَا بَعَثَّنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ («أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالَا إِلَّا طَمَسْتَهُ وَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّ سَوَّيْتَهُ»[15].

الحديثان يدلان على عظم حرمة هذه التماثيل وشدة قبحها وأنها من أبطل الباطل، وأظلم الظلم فهى من أعظم أسباب الشرك بالله رب العالمين حيث كانت سبباً في كفر أغلب الأمم وأكثرها[16].

الثانية: النصوص التي تحذر من صناعة واتخاذ الصور التي تجسد الإنسان وغيره من ذوات الروح وتبين عقوبة من يزاول هذا العمل، ومن هذه النصوص ما يلي:

– عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةً فِي دَارٍ مَرْوَانَ فَرَى فِيهَا تَصَاوِيرَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي؟ فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةَ، أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً»[17].

 – جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ، فَأَفْتِنِي فِيهَا، فَقَالَ لَهُ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا مِنْهُ، ثُمَّ قَالَ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، قَالَ: أُنَبِتُكَ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ، يَجْعَلُ لَهُ، بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا، نَفْسًا فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ» وَقَالَ: «إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلً، فَاصْنَعِ الشَّجَرَ وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ»[18].

– عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ، تَقُولُ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ سَتَّرْتُ سَهْوَةً لِي بِقِرَامِ فِيهِ تَمَاثِيلُ، فَلَمَّا رَآَهُ هَتَكَهُ وَتَلَوَّنَ وَجْهُهُ وَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللهِ»[19].

– عَنْ نَافِعِ، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” الَّذِينَ يَصْنَعُونَ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ “[20]. فهذه الأحاديث تدل على شدة تحريم صناعة التماثيل لذوات الروح من الإنسان وغيره بشتى أنواعها[21].

ثالثاً: الإجماع: فقد نقل كثير من المالكية الإجماع على تحريم تصوير وتجسيد ذوات الروح من الإنسان وغيره[22].

رابعاً: المعقول: إن صناعة التماثيل واتخاذها تشتمل على العديد من المفاسد العظيمة منها:

أ- إنها من أعظم طرق الشرك ووسائله إلى عبادة غير الله تعالى[23]، وقد ضلت كثير من الأمم السابقة بسببها[24] بداية من صالحي قوم نوح عليه السلام (ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر)[25]، انتهاءً بأمة محمد وعبادتها للأصنام والتماثيل حتى أدخلوها الكعبة وعبدوها فيها [26]، وعليه فمن وقع فيها بسببه فعليه وزره ووزر من اتبعه إلى يوم القيامة[27].

ب – إن فيها مشابهة ومضاهاة لخلق الله تعالى، ولاشك أن هذا فيه منازعة للخالق في خصائص ألوهيته وروبوبيته وهذا من أعظم الذنوب[28].

ج – إن فيها تشبه بأمم الكفر والضلال من قوم نوح ومن النصارى الذين ملؤا كنائسهم ومعابدهم بالتماثيل والصور ثم عبدوها، وبمشركي العرب الذين صنعوا الأصنام والصور وعبدوها من دون الله [29].

هذا كله إذا كانت تلك التماثيل مكتملة الهيئة المشابهة للإنسان وغيره من ذوات الروح، أما إذا كانت تلك التماثيل غير مكتملة البنيان فإن كانت مقطوعة الرأس قطعاً كاملاً فلا خلاف في إباحتها[30]، وكذا إذا كانت ناقصة عضو أو أكثر مما لا تبقى معه الحياه في ذي الروح ولو ولو كان الرأس باقياً بناءً على ما ذهب إليه الحنفية والمالكية وجمهور الشافعية والحنابلة من إباحة تلك الحالة وزوال المانع[31].

حكم استخدام ما يسمى بالإنسان الآلي

 – الإنسان الآلي: هو آلة مكانيكية مصنعة على هيئة الإنسان مبرمجة سلفاً للقدرة على القيام بأعمال معينة سواءً في المنازل أو المصانع أو المحال التجارية أو المستشفيات ونحو ذلك مع إمكانية قدرتها على الحركة والكلام، ولها ذاكرة لاستقبال المعلومات وإعطائها في مجال معين، وغالباً ما تكون الأعمال التي تبرمج الإنسالة على أدائها أعمالاً شاقة أو خطيرة أو دقيقة، مثل البحث عن الألغام والتخلص من النفايات المشعة، أو أعمالاً صناعية دقيقة أو شاقة[32].

أما عن حكم استعمال مثل تلك التقنيات فيمكننا القول بأنه طبقاً للعرض السابق لمسألة الصور المجسمة للإنسان وغيره من ذوات الروح يجب التفريق بين حالتين:

الأولى: أن تكون تلك الآلة على هيئة الجمادات، أو على هيئة الإنسان ولكنها تكون مقطوعة الرأس ففي تلك الحالة لا حرج في استعمالها والاستفادة منها كما مر لحديث جبريل عليه السلام:” فمر برأس التمثال الذي بالباب فليقطع فليصير كهيئة الشجرة[33]”، وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ – رضي الله عنهما – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : ” الصُّورَةُ الرَّأسُ، فَإِذَا قُطِعَ الرَّأْسُ فَلَا صُورَةَ[34]”، كما أنه ليس بالضرورة أن يكون نفع مثل تلك الآلات مرتبطاً بوجود الرأس علیھا من عدمه.

الثانية: أن تكون تلك الآلة مصممة على هيئة الإنسان بكامل أعضائه وأجزائه بما في ذلك الرأس والوجه بما فيه من ملامح الإنسان مع إضافة القدرة على الحركة والكلام إليها فإن هذا يجعل من استخدام مثل هذه الآلة محرماً كما هو الحال في استخدام التماثيل بل أشد لشدة مضاهاتها لخلق الله تعالى كما دلت على ذلك عموم النصوص[35] الدالة على تحريم الصور والتماثيل وتحريم استخدامها [36].

أما إن كانت هناك حاجة أو ضرورة تدعو لاستخدام الصورة الثانية من الروبوتات الذكية كالحاجة لاستخدامها في أعمال شاقة أو خطيرة أو دقيقة، مثل البحث عن الألغام والتخلص من النفايات المشعة، أو أعمالاً صناعية دقيقة أو شاقة، أو العمليات الجراحية الدقيقة ونحو ذلك مع توقف الفائدة المرجوة منها على صنع ما يشبه رأس المخلوق وإلا كانت بلا فائدة مع شدة الحاجة إلى مثل تلك الآلة ولا بديل عنها ففي مثل تلك الحالات لا حرج في استخدامها متى دعت إلى ذلك ضرورة عملاً بقاعدة:” الضرورات تبيح المحظورات[37]، ولكن بالقدر الذي تندفع به تلك الضرورة وتسد به الحاجة فقط عملاً بقاعدة:” الضرورة تقدر بقدرها[38]”. وقاعدة:” ما جاز لعذر بطل بزواله[39]” والله تعالى أعلى وأعلم.

ثانياً: حكم تقنيات الذكاء الاصطناعي من حيث الغرض منها:

أيضاً يختلف الحكم الفقهي لأنظمة الذكاء الاصطناعي وتقنياته المختلفة تبعاً للغرض الذي صنعت من أجله فإن كان هذا الغرض مباحاً وفيه مصلحة معقولة لا ترفضها العقول السليمة كاستخدامها في أعمال شاقة أو خطيرة أو دقيقة، مثل البحث عن الألغام والتخلص من النفايات المشعة، أو أعمالاً صناعية دقيقة أو شاقة، أو العمليات الجراحية الدقيقة ونحو ذلك ولم تكن على هيئة ذوات الروح من الإنسان وغيرة ما لم تدع ضرورة لذلك كان استخدامها مباحاً عملاً بقاعدة:” الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يقم دليل على تحريمه” بدليل عموم قوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾[ سورة: الجاثية، من الآية ١٣]، وفي هذا يقول الإمام تيمية رحمه الله عليه:” لست أعلم خلاف أحد من العلماء السالفين في أن ما لم يجئ دليل بتحريمه فهو مطلق غير محجور “[40]، كما أن الشريعة قد راعت مصلحة العباد وشرعت لهم الأحكام الموصلة إليها، وعليه فإن كل مصلحة لم يرد في الشرع حكم خاص بها وكانت ملائمة لتصرفات الشارع ورعايته لمصلحة العباد ولا تخالف حكماً من أحكامه فهى جائزة[41].

فكل ما هو مصلحة مطلوب وجاءت الأدلة بطلبه، وكل ما هو مضرة منهي عنه وتضافرت الأدلة على منعه وهذا أصل مقرر مجمع عليه لدى فقهاء المسلمين، فجميع أحكامه سبحانه وتعالى متكفلة بمصالح العباد في الدارين، وأن مقاصد الشريعة ليست سوى تحقيق السعادة الحقيقية لهم [42].

أما إن كان الغرض الذي صنعت له غير مباح شرعاً أو يؤدي إلى مفسدة فتكون محرمة ولا يجوز استخدامها فيه كالروبوتات الجنسية مثلاً والتي يروج لها على أنها بديل مناسب للرجال والنساء، وكذا العديد من البرامج التي تستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي بهدف استخدامها في أغراض يقصد منها الكذب والخداع وإلحاق الضرر بالغير كتقنية ال “DeepFake” أو التزييف العميق، وهي تقنية تعتمد على برامج الذكاء الاصطناعي وتقوم بتركيب وتزييف الصور والفيديوهات على مقاطع فيديو أخرى غير حقيقية تشبه إلى حد كبير الواقع ومن الصعب اكتشاف تزييفها [43]، ويعد “التزييف العميق” من أخطر تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تعتمد على تشويه سمعة الآخرين عن طريق فبركة مقاطع مرئية أو مسموعة أو صور لهم بغرض ابتزازهم ماديًّا أو الطعن بها في أعراضهم وشرفهم، أو دفعهم لارتكاب أفعال محرمة، ولاشك أن هذه الأفعال من الإيذاء والبهتان الذى ذم الله صاحبه؛ فقال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرٍ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ﴾[ سورة: الأحزاب، الآية ٥٨].

أو يكون الغرض من هذه التقنيات الذكية الإفساد في الأرض عن طريق استخدامها في أعمال القتل والسلب والنهب ونحو ذلك من الأغراض التي تحرمها الشريعة الغراء[44].