عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ” والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن”، قيل: من يا رسول الله؟ قال: “الذي لا يأمن جاره بوائقه” (متفق عليه).

قبل التطرق للتوجيه النبوي الوارد في الحديث أعلاه يجب علينا بداية تصحيح فهم حصر التدين كله في قلب حديث أركان الإسلام الخمس، وأنه إذا صلى المسلم وصام وأدى الزكاة واستطاع الحج فقد أتم الدين على وجه المطلوب وإن كان لا يخلو قلبه من أمراض الحسد والحقد وسوء الظن والكبر، ولسانه أليف الكذب والغيبة والنميمةوشهادة الزور ونحوها، وهذا الفهم الخاطئ للأسف هو السائر والسائد لدى بعض المسلمين حتى تجسد في أفهامهم وحياتهم وسلوكهم ومعاملتهم، مع أن نصوص الوحيين الواضاحات والأدلة الشريعة الشهيرة لا تسعف ذلك المعنى القاصر بل تنسفه نسفا، كما تراه في ضوء صفحات القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف والقواعد الشريعة العامة، والتي تشير إلى المفهوم الأوسع للدين وعدم حصره في الظاهرة الدينية الخاصة، حيث نوهت بصورة واضحة بأن حقيقة الدين تتمثل في حسن الخلق، والقول الحسن، والعمل الصالح تصحبه حسن النية، ومجانبة كل ما يخدش ذلك.

المعاملة الحسنة من الدين

من الآثار والمعاني الجلية للعبادة والشعائر التعبدية العظيمة والمقاصد الدينية؛ هو التخلق بالأخلاق الفاضلة ومكارم الأخلاق، من الصدق والبر ولين الجانب والصبر والتواضع والتراحم والتعاون والجود ونحوها.

يقول عليه الصلاة والسلام:”إن من خياركم أحاسنكم أخلاقاً “[1] وفي رواية :”أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خُلُقاً”[2] وتأمل التعبير النبوي الرائع، ولم يقل: أحاسنكم أو أحسنهم صلاة..صياما .. زكاة .. حجا، ليقرر علو منزلة حسن الخلق من الدين وبيان مكانته، لأن ثمرات العبادات الشعائرية بأنواعها وأشكالها هي مكارم الأخلاق، وصلاحها في صالح الأخلاق، وقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام إعلان هذا المعنى بقوله:” إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق”[3]

وقال ابن عبد البر في التمهيد: “ويدخل في هذا المعنى الصلاح والخير كله، والدين والفضل والمروءة والإحسان والعدل فبذلك بعث ليتممه”[4].

ويتضح من هذا أن من أساس الدين معاملة الناس بالحسنى والجميل، وأن المسلم الكيس يستطيع أن يسع الناس بمحاسن أخلاقه ما لم يستطع فعله بأمواله كما روي في الخبر.   

ولذا أمر الله سبحانه وتعالى بالقول الحسن للناس: {قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (البقرة: 83) وهذه الآية الكريمة – وغيرها من النصوص المتكاثرة الدالة على – قاعدة مفصلية لأهمية مبدأ حسن التعامل مع جميع الناس وتأليف قلوبهم، وإن كلمة “حسنا” نكرة تعم جميع أنواع الإحسان القولي الذى لا يعجز عنه الإنسان، من حيث احترام الناس وتوقيرهم، وعدم تنقصهم وعيبهم، ولين الخطاب من غير مداهنة.

قال الرازي في التفسير: قال أهل التحقيق: كلام الناس مع الناس إما أن يكون في الأمور الدينية، أو في الأمور الدنيوية.

فإن كان في الأمور الدينية فإما أن يكون في الدعوة إلى الإيمان، وهو كما قال تعالى لموسى وهارون: { فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى } (طه : 44) أمرهما الله تعالى بالرفق مع فرعون مع جلالتهما ونهاية كفر فرعون وتمرده وعتوه على الله تعالى، وقال لمحمد : “ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك … الآية “.

وإما في دعوة الفساق فالقول الحسن فيه معتبر قال تعالى: { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة } (النحل : 125) وقال { ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} ( فصلت : 34).

وأما في الأمور الدنيوية فمن المعلوم بالضرورة أنه إذا أمكن التوصل إلى الغرض بالتلطف من القول لم يحسن سواه، فثبت أن جميع آداب الدين والدنيا داخلة تحت قوله: {وقولوا للناس حسنا} [5]

ولقد أرشدنا الله تعالى إلى الاهتداء بالطيب من القول فقال سبحانه: {وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد}. فحق على المسلم أن يعود لسانه على أطيب الأقوال وأن يختار أجمل الكلمات في تعبيراته ومحادثته، وأن ينأى بلسانه عن الطعون والسفساف والرديئة.

وقد أخبرنا عليه الصلاة والسلام بأن الإنسان “ليتكلَّمُ بالكلمة من رضوان الله لا يُلقي لها بالاً، يرفعه الله بها في الجنة “[6]

والعجيب أن حسن الخلق يورث صاحبه درجة العباد الزهاد الصالحين كما روي في الحديث:”إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم”[7] بل يجعله من سعداء الدنيا والآخرة، لقوله عليه الصلاة والسلام:” ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن “[8].

وإذن فإن المسلم مطالب أن يكون متدينا نزيها في المقال والأفعال مع كل الناس بلا استثناء، ويدخل في ذلك غير المسلم، والإحسان والعدل معه مطلوب شرعا ما لم يدخل في المداهنة.

خطورة تحريم إيذاء الجيران

قد تظاهرت النصوص الشريفة على عظم حق الجيران وأهميته في الإسلام حتى نزل جبريل في شأنه مرارا ليوصي به النبي ، كما قال عليه الصلاة والسلام:” ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه”[9] انظر كيف بلغ ظنه عليه الصلاة والسلام بحق الجار إلى هذا الحد، إلى علو منزلته منزلة الورثة نظرا لأكيد الحق.

وقال الإمام الذهبي معلقا على الحديث:” إنما جاء الحديث في هذا الأسلوب للمبالغة في حفظ حقوق الجار وعدم الإساءة إليه؛ حيث أنزله الرسول منزلة الوارث؛ تعظيما لحقه، ووجوب الإحسان إليه، وعدم الإساءة إليه بأي نوع من أنواع الأذى[10]

وجاء عن عبد الله بن عمرو أنه كان حريصا على الامتثال بهذه الوصية حتى أنه مرة لما ذبح له شاة فقال لأهله: أهديتم لجاري اليهودي؟ ثم قال: فإني سمعت رسول الله يقول:” ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه[11]

ولذا يعد حق الجار من شعب الإيمان الذى دعا إليه الإسلام ورغب وشدد فيه، وأن من قصر في رعاية حقه فعسى أن يكون من ضعفاء الإيمان، والقيام بأدائه يقوي الإيمان ويزيده.

قال عليه الصلاة والسلام:” ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره”[12]. وعند مسلم: “فليحسن إلى جاره”[13] 

وفي هذا الحديث معاني تحذيرية من إيذاء الجار في جميع الأحوال، وقوله عليه الصلاة والسلام:” فليكرم جاره” “فليحسن إلى جاره” أمر صريح ومفيد للوجوب، فمخالفة هذا الأمر النبوي معصية عظيمة، ويضاف إليه أنه أمر مقرون بمصداقية الإيمان وعدمه.

تحديد مفهوم الجار  

تجاوز مفهوم الجار إلى النطاق الواسع عند أهل العلم حتى شمل المسلم والكافر، سواء في المسكن أو في العمل أو في الدراسة أو في والسوق أو في المركب وفي صور أخرى، إذ لم يرد النص الصحيح الصريح في تحديد من هو الجار، وإنما العرف هو المرجع والمحكم.

أنواع الجار

تعددت أنواع الجار وتفاوت مراتب حقوقهم تبعا لقربهم وبعدهم، فكادت أن تتفق كلمات العلماء على أن الجار لا يخلو من ثلاثة أنواع إجمالا وأربعة تفصيلا:

الأول: الجار المسلم ذو الرحم، وهذا الجار يجب أن يحفظ له ثلاثة حقوق؛ حق الإسلام، وحق القرابة، وحق الجوار.

الثاني: الجار المسلم وهذا الجار لا بد من إعطائه حقين، حق الإسلام وحق الجوار.

الثالث: الجار الكافر ذو الرحم، يراعي لهذا الجار حقين، حق النسب والقرابة وحق الجوار.

الرابع: الجار الكافر الذي ليس برحم، يحفظ له حق واحد، وهو حق الجوار.

ماهية حقوق الجار

يتلخص حق الجار في ثلاثة أمور رئيسة وهي:

  • بذل المعروف،
  • وكف الأذى،
  • وتحمل الأذى،

وأعظم الثلاثةهو تحمل الأذى وأدناها كف الأذى. ويقول الحسن البصري: ليس حسن الجوار كف الأذى، حسن الجوار الصبر على الأذى [14].

مؤذى الجيران على شفا الهلكة

” الذي لا يأمن جاره بوائقه ” لم يكن النبي عليه الصلاة والسلام يقسم قسم اليمين إلا على أمر عظيموجليل، وكيف إذا كان القسم مؤكدا ومكررا على نفي الإيمان عن الإنسان؟

وهو عليه الصلاة والسلام في مقام الدفاع عن حق الجار وتنبيه على خطورة انتهاكه يقول:” والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن. قيل: من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه” (متفق عليه).

وقال عليه الصلاة والسلام لمن أذى جاره:”فقد لعنك الله قبل الناس”[15].

بل قال في حق من تقوم الليل وتصوم النار :” لا خير فيها، هي في النار” لماذا لا تشفع لها الصلاة والصيام؟ لأنها تؤذي جيرانها. وكذا نفى عليه الصلاة والسلام دخول الجنة عمن لا يأمن جاره من شروره فقال:”لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه”[16]. والبوائق هي الإساءة بالقول أو بالفعل وبأي لون ألوان الإساءة والأذى.

ونظائر مثل هذه النصوص الوعيدية في الباب كثيرة، مما لا يجعل الريب في أن هذا الخلق السيء من كبائر الذنوب، ويفضى بصاحبه إلى مورد اللعنة والعذاب ونقصان الإيمان وعدم دخول الجنة.

ويجب أن لا يغيب عن بال كل مريد النجاة حديث “أتدرون من المفلس؟” وأن يجعل في نصب عينيه حديث”المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده” وحتى لا يكون مسلما بالشعائر التعبدية مجردا عن مقاصدها الحقيقية.