من بين جوانب كثيرة تميّز بها العلامة يوسف القرضاوي، رحمه الله، عنايته البالغة بالنقد الذاتي، وبالعمل على تقويم المسيرة وتصحيح الخطوات. وهذه فضيلة غائبة عن كثير من المسلمين؛ لأنهم يكتفون بالنظر إلى ذاتهم في ضوء ما لدينهم (الإسلام) من مكانة، وما لكتابهم (القرآن الكريم) من قداسة وعصمة.. فكأنهم يسحبون ذلك على أنفسهم، ويعطونها جزءًا من هذه المكانة وتلك العصمة! مع أن القرآن الكريم صريح في التفرقة بين الأمرين!

وحينما وقع للمسلمين في غزوة أحد ما وقع، جاء القرآن الكريم يلفت النظر إلى مسئولية “الذات” عما آلت إليه الأمور، منبِّهًا بالتالي على أن استصحاب “المنهج” وحده لا يكفي، وإنما المعوَّل عليه أيضًا هو كيفية التعامل مع المنهج: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ} (آل عمران: 165).

ولو كان استصحاب المنهج وحده كافيًا، لما وقعت للمسلمين هزيمة قط، ولما أُصيبوا بانتكاسة أبدًا.. ولكن سنة الله أن يجري عليهم ما يجري على سائر خلقه.. وإنْ كانت رحمة الله ولطفه لا ينفكان عن المسلمين.

والعلامة القرضاوي رائد في هذا الباب، وإمام في ممارسة النقد الذاتي والتنبيه على ضرورة المراجعة والتقويم.. وأول ما لفتني في ذلك، كتابه صغير الحجم عظيم الفوائد: (أين الخلل؟)؛ والذي كان قد شارك به على صفحات (مجلة الأمة) الغراء، في بابٍ أسهم فيه مفكرون وعلماء آخرون؛ في محاولة لتلمس ما ينبغي فعله، ولتدارس ما وقع من غفلة وخطأ.

وهذا الكتاب المهم (أين الخلل) قسمه الشيخ الجليل إلى ثلاثة أقسام:

  • 1- وقفة مع الأمة الإسلامية
  • 2- وقفة مع الحركة الإسلامية
  • 3- وقفة مع الأمل والعمل

أولا: وقفة مع الأمة الإسلامية

في هذه الوقفة المهمة مع الأمة الإسلامية، أوضح العلامة القرضاوي أن ما وقعت فيه أمتنا هو أكبر من مجرد التساؤل عما أصابها من الخلل؛ فهذا ليس خللاً فحسب؛ وإنما هو “غيبة عن الوعي. وبكلماته رحمه الله يقول: “إن عبارة (الخلل) عند إطلاقها تعني أن الغاية قد حُددت، وأن الطريق قد اتضح، وأن الوسيلة قد هُيئت؛ ولكن الخلل أصاب الوسيلة في وسط الطريق.. فإذا طبقنا ذلك على حال أمتنا الإسلامية، وجدنا الأمر أكبر وأعمق من مجرد (خلل)؛ إنه غيبة عن الوعي، إنه فقدان الهوية، إنه التيه عن الغاية ومن بعده- بالضرورة- ضياع الطريق”.

طاقاتنا معطلة

ثم أخذ رحمه الله يبين حال أمتنا في ضوء معايير التقدم المادي، ليخلص إلى أنها “لا زالت عالة على الأمم الأخرى في قوام حياتها الاقتصادية والعسكرية؛ إنها لا تنتج الكفاية من القوت الذي به قيام المعيشة، ولا من السلاح الذي به حماية السيادة”. ثم أوضح أن أمتنا: معطلة الطاقات، رغم طاقاتها الكثيرة والضخمة والمتنوعة!

طاقاتنا العقلية معطلة: لأننا نقلد ولا نجتهد، نحاكي ولا نبدع، ننقل ولا نبتكر، نحفظ ولا نفكر.. وليس هذا في العلوم التراثية وحدها، بل في العلوم الطبيعية والرياضية أيضًا.

طاقاتنا العملية معطلة: مع أن الله خلقنا لنعمل، بل خلقنا ليبلونا أيّنا {أَحْسَنُ عَمَلًا}. حتى صرنا نعقد المؤتمرات والتي تصدر عنها توصيات مبصرة، ولكنها- إلا في القليل النادر- لا ترى النور، ولا تبرز إلى حيز التطبيق.

طاقاتنا الاقتصادية معطلة: فنحن نعيش في أهم بلاد الله موقعًا، وأطيبها بقعة، وأخصبها أرضًا، وأحفلها بالمعادن المذخورة في باطنها، والثروات المنشورة في ظاهرها؛ ولكننا لم نستغل ثرواتنا، ولم نزرع أرضنا، ولم نصنّع المعادن والمواد الخام المستخرجة من أرضنا.. أصبح الطابع الغالب علينا: أننا نستهلك ولا ننتج، ونستورد ولا نصنع، ونفتخر باقتناء أحدث السيارات العالمية ونحن لا نحسن صناعة دراجة!!

طاقاتنا العددية معطلة: فتفرَّقنا طرائق قددًا، ولم نتكامل ولم نتعاون ولم نتلاحم، في عصر يتكلم بلغة الكتل الكبيرة، ولا تستطيع القلة فيه أن تعيش وحدها.. وأصبح أكبر هم الكثيرين منا أن نقلل عددنا ونحدد نسلنا! بينما في الأرض أمم ضخمة لم تشكُ من كثرة سكانها كما نشكو؛ بل اجتهدت أن توظف الكثرة في خدمة الإنتاج.

طاقاتنا الروحية معطلة: فقد أعلينا الطين والحمأ المسنون فينا على نفخة الروح، التي هي سر تكريم الله لأنبيائنا من قبل، ولنا من بعد: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} (الحجر: 29). هبَّت رياح المعصية فأطفأت شموع الخشية من قلوبنا، وطال علينا الأمد فقست قلوبنا من بعد، كما قست قلوب أهل الكتاب من قبل: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (البقرة: 74).

من المسئول؟

وبعد أن أشار العلامة القرضاوي بإيجاز إلى حال أمتنا، تطرق إلى تحديد المسئول عن ذلك، لنعرف من أين أُتِينا؛ حتى نسد مواقع الخلل، ونعالج مواضع الداء، ونتقي مكامن الخطر.

مسئولية الحكام: وفي هذا أوضح الشيخ القرضاوي أن الحكام لاريب أنهم يحملون قسطًا كبيرًا، وربما القسط الأكبر، مما نحن فيه؛ ولكن المؤكد أيضًا أن الحكام في الغالب أشبه بشعوبهم، وهم إفراز مجتمعاتهم.

مسئولية العلماء: وهنا بيّن الشيخ أن مِن العلماء مَن قصّر في واجب البيان والبلاغ، ومنهم من مشى في ركاب السلطان وجعل العلم خادمًا للسياسة، والفتوى حسب الطلب! ثم لفت لنقطة مهمة، وهي أن علماء الأمة لم يعودوا وحدهم في الميدان كما كانوا في العصور الماضية؛ فقد غدا الذين يملكون الكلمة المقروءة والمسموعة والمرئية في أجهزة الإعلام أشد تأثيرًا في الجماهير من أصحاب المنابر، وإن كان لكلمة الدين من القوة ما ليس لغيرها.. على أن من العلماء من أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ولقي في سبيلها من العذاب ما لقي.

مسئولية الجماهير: وهنا تساءل الشيخ: هل تقع المسئولية على الشعب، أي الجماهير؟

مسئولية مشتركة متفاوتة

ثم بيَّن الدكتور القرضاوي أن المسئولية مشتركة، يتحمل كل الأطراف منها نصيبًا، على قدر ما لديها من إمكانات؛ فمسئولية العالم أكبر من مسئولية الجاهل، ومسئولية ذي السلطة أكبر من مسئولية من لا سلطة له، ومسئولية ذي المال أكبر من مسئولية من لا مال عنده؛ وإن كان الكل مسئولاً. والإسلام لا يعرف طبقة خاصة يعتبرهم وحدهم (رجال الدين) المسئولين عنه؛ بل كل مسلم رجل لدينه، والأمة كلها مسئولة بالتضامن عن فرائض الله وأحكام شريعته، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}( التوبة: 71).

ولبيان ذلك، حكى الدكتور القرضاوي ما قاله أحد المستمعين لأحد الدعاة بعد محاضرة ألقاها: قد مضى لكم ثلاثون سنة وأنتم تتكلمون، فماذا صنعتم؟ وكان جواب الداعية مفحمًا حين قال: وأنتم مضى لكم ثلاثون سنة وأنتم تسمعون، فماذا صنعتم؟!

ويعلق القرضاوي قائلاً: وهذا حق؛ فإن على المستمع، كما على المتكلم، مسئولية تحويل الكلام إلى عمل، والأفكار إلى واقع؛ وإن اختلفت درجة المسئولية.

ثانيا: وقفة مع الحركة الإسلامية

وفي هذه الوقفة بين الشيخ رحمه الله أنه لا يقصد حركة بعينها وإنما مجموع العمل الإسلامي الجماعي الشعبي المحتسب، المنبثق عن ضمير الأمة، والمعبر بصدق عن شخصيتها وآلامها وآمالها، وعقائدها وأفكارها، وقيمها الثابتة وطموحاتها المتجددة.. ويدخل في هذا الإطار كل الجماعات العاملة لتجديد الدين وتحكيم شريعته وإحياء الأمة به.

ومن أهم ما أوضحه الشيخ في هذا المقام، هو أن أسباب إخفاق هذه الحركات يرجع إلى أسباب خارجية وأسباب داخلية معًا، مطالِبًا بالتوسط في رؤية هذين الأمرين، وألا يحدث انحياز لطرف على حساب الآخر، حتى تكون الرؤية واضحة، قائمة على العلم والعدل.

وقال: وليس معنى هذا أن الحركة الإسلامية مبرأة من كل مأخذ، أو أنها فوق النقد والنصح، كما يتوهم بعض المخلصين من أتباعها؛ حيث يخلط بين الحركة الإسلامية والإسلام ذاته.

وفيما يتصل بالنقد الذاتي رصد الشيخ بعض الأمور المهمة؛ مثل:

1- ضعف النقد الذاتي.

2- الانقسام والاختلاف.

3- غلبة الاتجاه العاطفي على الاتجاه العقلي والعلمي؛ بما يعنيه من:

• قصور الدراسة والتخطيط.

• العجلة في تحقيق النتائج.

• المبالغة في وصفها لنفسها، وفي نقدها لخصومها.

4- الخوف من التجديد.

ثالثا: وقفة مع الأمل والعمل

وفي هذه الوقفة أشار د. القرضاوي إلى أن ما ذكره من نقد عن الأمة وعن الحركة الإسلامية لا يعني أن الأمل مفقود، وأن الطريق مسدود؛ فثمة دلائل كثيرة تبشر بالخير، وأن البحث عن الخلل لتشخيصه ووصف العلاج له هو من الظواهر الصحية المبشرة بغد أفضل؛ فالوعي بجوانب النقص أول خطوات تحقيق الكمال.

وطالب د. القرضاوي بإنصاف الحركة الإسلامية، بذكر حسناتها وثمراتها، كما تذكر عيوبها ومآخذها.. ولفت إلى ضرورة العمل لكسب النخبة والجماهير معًا، وإزالة ذلك السور الذي ضرب بين الحركة وبين عدد كبير من النخبة، أي المثقفين الذين غزاهم- أو غزا كثيرًا منهم- الفكرُ الدخيل؛ فأثّر في أفكارهم ومفاهيمهم، كما أثر في مشاعرهم وولائهم؛ فهم لا يفهمون الإسلام إلا كما يفهم الغربيُّ المسيحية، وهم يُسقطون على الإسلام ما أسقطه الغربيون على مسيحيتهم؛ فهم يفترضون عداوة موهومة بين الإسلام والعلم، ومناقضة بين الشريعة والتطور، ويرون أن مكان الدين في ضمير الفرد، أو تحت سقف المسجد لا يتعداه.. وهم يتخذون من التراث موقفًا عدائيًّا، على حين يقدِّسون كل ما جاء من الغرب ويُضمرون الولاء له، والتقدير لرجاله، ويجعلون منه موئلاً وإمامًا.

خطوط عريضة

ثم قدم الشيخ رحمه الله خطوطا عريضة لترشيد الصحوة، فصّلها فيما بعد في عدد من كتبه أبرزها (الصحوة الاسلامية من المراهقة الى الرشد).. فلابد أن تنتقل دائرة الاهتمام والتركيز:

1 ـ من الفروع والجزئيات إلى الأصول والكليات.

2 ـ من النوافل إلى الفرائض.

3 ـ من المختلف فيه إلى المتفق عليه.

4 ـ من أعمال الجوارح إلى أعمال القلوب.

5 ـ من طرفي الغلو والتفريط إلى الوسطية والاعتدال.

6 ـ من التعسير والتنفير إلى التيسير والتبشير.

7 ـ من الجمود والتقليد إلى الاجتهاد والتجديد.

8 ـ من الكلام والجدل إلى العطاء والعمل.

9 ـ من العاطفية والارتجال إلى العلمية والتخطيط.

10 ـ من التعصب علي المخالفين في الرأي إلى التسامح معهم.

11 ـ من الإثارة إلى التفقيه (أو من أسلوب الوعاظ إلى أسلوب الفقهاء، أو من حماس المنبر إلى هدوء الحلقة).

12 ـ من الكم إلى الكيف (أو من الاهتمام بتزايد الأعداد ولو على حساب التربية، إلى العناية بالتربية ولو على حساب العدد).

13 ـ من سماء الأحلام إلى أرض الواقع (أو من المثالي المنشود إلى الممكن الموجود).

14 ـ من الاستعلاء على المجتمع إلى المعايشة له (أو من موقف ممثل الاتهام إلى موقف الطبيب).

15 ـ من الانكفاء على الماضي إلى معايشة الحاضر، والإعداد للمستقبل.

16 ـ من الاستغراق في العمل السياسي إلى الاهتمام بالعمل الاجتماعي.

17 ـ من اختلاف التضاد والتشاحن إلى اختلاف التنوع والتعاون.

18 ـ من إهمال شئون الحياة إلى التعبد بإتقانها.

19 ـ من الإقليمية الضيقة إلى العالمية الواسعة.

20 ـ من الإعجاب بالنفس إلى محاسبة النفس (أو من الغلو في إثبات الذات إلى نقد الذات).

خلاصات

وهكذا يمكن القول من خلال ما أوجزنا من نظرات العلامة القرضاوي في النقد الذاتي، ومما كتبه لاحقًا، عدة أمور:

– أنه رحمه الله قد انطلق من باب النصيحة.. والنقد لاشك من صور النصيحة وأهمها.

– أنه تحلَّى بالإنصاف سواء لرؤية الذات أو الآخر.. وهذا ضروري في رؤية الأمور وعدم تهويلها أو تهوينها.

– أنه انطلق من قاعدة علمية واسعة جمعت بين علوم الشرع ومعرفة الواقع.. وهكذا يكون النقد الصحيح؛ فكلما اتسعت رؤية المرء العلمية وتنوعت اتجاهاتها كان أقدر على رؤية الأمور على وجهها الصحيح.

– النقد يقتضي الإلمام بالتاريخ والماضي مع استشراف المستقبل والآتي.. فالسنن قائمة وفاعلة في حركة المجتمعات، و”الماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء” كما قال ابن خلدون.

– النقد يلزمه التحلي بالأخلاق.. لأنه نوع من النصيحة.. ومن المهم أن يعبر الناقد عن مقصوده بأدب ودون تجاوز، حتى لا يدخل في متاهات وسجالات تبعده عن أصل الموضوع.

– النقد يلزمه أيضًا التحلي بالشجاعة.. فكم من صاحب رأي يسكت على رأيه، مخافة مواجهة المعترضين وأن يصيبه منهم أذى أو سوء ظن أو سوء تفسير.. فنفقد صوابًا في النصيحة، وتقويمًا في النقد.

هذه كانت إطلالة موجزة جدًّا على جانب مهم من جوانب تميز العلامة يوسف القرضاوي رحمه الله.. مما نحن في أمسّ الحاجة لتدبره، والإفادة منه في بناء رؤية نقدية، تجعلنا أكثر قدرة على أن نبصر مواطن الخلل، ونسعى لاستكمال عوامل النجاة.. في مصارحة لا تعرف التدليس، ووعي لا يمسه الغفلة..