في ظل التحديات المتزايدة لـ تربية الأبناء وتنشئة الأجيال في العصر الحديث، حيث تتسارع التغيرات الاجتماعية والثقافية وتزداد المؤثرات الخارجية، أصدرت إدارة البحوث والدراسات الإسلامية في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في قطر طبعة خاصة من كتاب «القواعد العشر: أهم القواعد في تربية الأبناء» لـ الدكتور عبد الكريم بكار ، وهو الأكاديمي والباحث المتخصص في قضايا التربية والفكر الإسلامي، وعُرف بتقديمه رؤى عميقة تثري الثقافة التربوية. لنكتشف أسرار القواعد العشر في تربية الأبناء من أجل بناء بيئة أسرية سليمة.
الهدف المحوري من الكتاب
تأتي أهمية هذا الكتاب ابتداءً من أهمية موضوعه، وكونه يطرح عددًا من “المفاتيح المركزية في التعامل مع الأبناء وتهذيبهم”. ويمكن النظر إلى الكتاب بشكل عام باعتباره كتابًا في الثقافة التربوية، التي يُعرّفها المؤلف بأنها: «مجموعة المعلومات والخبرات التي نحتاج إليها في تكوين البيئة التربوية، وفي طرق تهذيب الأبناء وتنشئتهم النشأة الصالحة، وفي التعامل مع مشكلاتهم وأخطائهم»، كما تعني: «فهم جوهر التربية، وأنها قائمة على التفاعل وبناء الروح الجماعية، وما يتطلبه ذلك من مبادئ وقيم وتضحيات وأفكار ومفاهيم».
يُعدّ هذا الإصدار بالغ الأهمية في وقت تشهد فيه مجتمعاتنا، على وجه الخصوص، انتقالًا سريعًا من البيئات البسيطة إلى البيئات المعقَّدة والواسعة، يصحبها الكثير من التغيرات التي تنعكس على تربية الأطفال. ويُبرز الكتاب كذلك أن انهيار العقيدة وخمود جذوة الإيمان في النفوس، إلى جانب ضعف شعور الأبوين بـالمسؤولية تجاه الأبناء، يُعدّان من أخطر أسباب تفكك الأسرة، مما يزيد من إلحاح الحاجة لمثل هذه المراجع القيّمة التي تقدم نصائح تربوية عملية.
وفي مقدمة الكتاب، يبرز الدكتور عبدالكريم بكار نقطة جوهرية ومثيرة للاهتمام وهي أن “ما يُطرح في شأن تربية الأبناء هو موضع اتفاق في (٨٠%) منه بين كل الأمم وكل الحضارات”. هذه الفكرة تُعد محورية في فهم رؤية المؤلف، حيث إنها تُشير إلى وجود مبادئ تربوية عالمية وعابرة للثقافات لا تختص بأمة دون أخرى.
هذا التوافق الكبير يُعطي ثقلًا لمحتوى الكتاب ويُضفي عليه صفة العالمية، مما يعني أن المبادئ التي سيقدمها الكتاب ليست مقتصرة على سياق ثقافي أو اجتماعي معين، بل هي قواعد تربوية يمكن تطبيقها والاستفادة منها في معظم البيئات الأسرية حول العالم. هذه النقطة تُعزز من قيمة الكتاب وتُشير إلى أنه يقدم حلولًا ومفاهيم جوهرية تتجاوز الفروقات الثقافية الظاهرية في أساليب التربية.
القواعد العشر في تربية الأبناء وتحديات التربية المعاصرة
يتسلسل الكتاب في عرض القواعد العشر في تربية الأبناء ، مبتدئًا بالمرحلة التي تسبق الإنجاب، ومرورًا ببناء البيئة الأسرية، وصولاً إلى آليات التعامل مع تحديات سلوك الأبناء.
القاعدة الأولى: ما قبل الإنجاب
يؤكد الدكتور بكار أن الطفل أعقد من أي آلة، وتربيته تتطلب معرفة وخبرة واسعة. يشدد على أن الثقافة التربوية هي مجموعة المعلومات والخبرات اللازمة لتكوين بيئة تربوية صالحة. يستخدم تشبيه “شجرة البامبو الصينية” ليوضح أن ثمار التربية قد لا تظهر فورًا، بل تتطلب صبرًا ومثابرة لسنوات، داعيًا إلى عدم اليأس والقنوط. كما ينبه إلى أن انهيار الحضارات غالبًا ما يبدأ بتفكك الأسرة، وأن إصلاح المجتمع يجب أن يبدأ من الداخل (الأسرة). ويشير إلى أن صعوبة تربية الأبناء ذوي الطباع الصعبة يجب أن تكون دافعًا لزيادة الثقافة التربوية، وليس مصدرًا للشكوى.
القاعدة الثانية: نحن جزء من العالم، ولنا خصوصيتنا
يؤكد المؤلف أننا نعيش في عالم متصل بفعل العولمة التي ألغت الحدود، وأن أبناءنا يتأثرون بالتيارات والمشكلات والأذواق العالمية. لذا، يجب أن نكون واعين لهذه المؤثرات، ونستفيد من الخبرات التربوية الغربية دون أن نغفل خصوصيتنا الثقافية والإيمانية. يشير إلى أن خصوصيتنا تكمن في قيمنا الأخلاقية النابعة من العقيدة الإسلامية، وسُلّم القيم الذي يضع الأمور في نصابها الصحيح (مثال: صلاة الفجر أهم من السهر للدراسة، بر الوالدين أهم من السكنى في مكان جميل).
القاعدة الثالثة: هل البيئة هي كل شيء؟
يُسلط الضوء على الأثر العميق لـلبيئة الأسرية داخل المنزل على شخصية الأطفال. يرى أن جودة الأبناء تنبع من جودة الآباء أنفسهم، فـ “كما نكون، تكون تربيتنا”. يؤكد على أن القدوة الحسنة هي أقوى مؤثر، وأن سلوك الوالدين اليومي يرسم مستقبل سلوك الأبناء. يشدد على أهمية توفير بيئة منزلية مرحة وهادئة ومريحة يسودها الهدوء والسلام والأمن، بعيدًا عن التوتر والخلافات، مع مراعاة الفروق الفردية بين الأبناء والعدل بينهم. كما يوجه نصيحة للأم بجعل بيتها “روضة غناء” عبر النظافة والتنظيم.
القاعدة الرابعة: التربية تفاعل
يؤكد أن التربية عملية تفاعلية تتطلب أخذًا وعطاءً بين الآباء والأبناء. يدعو إلى الاستماع الفعال للأبناء والتعاطف معهم والاستفادة من ملاحظاتهم، وتغيير أساليب التربية بناءً على التجارب. يشير إلى أن الأطفال يحتاجون إلى فهم ما يدور حولهم، ويسألون كثيرًا. ويحذر من التكتم الشديد على أمور الأسرة، وضرورة بناء علاقة ثقة ومودة مع الأبناء عبر الحديث عن كل ما يهمهم، مهما بدا صغيرًا.
القاعدة الخامسة: تربية قائمة على الوضوح
يُعدّ الوضوح من أكبر فضائل الحياة التربوية. يعني وضوح الرؤية للأوضاع الحالية للأسرة، ووضوح الأهداف التربوية المراد تحقيقها في الأبناء. يتضمن ذلك التفاهم بين الزوجين على الأسلوب التربوي، ووضوح مدى التزام الأسرة وتدينها. يدعو إلى تجديد الأعراف الأسرية لجعل العلاقات أكثر شفافية وصراحة، حتى مع مشاركة الأبناء في ذلك. يشدد على أهمية الرسائل الواضحة والمحددة للأبناء، وتجنب الغموض والمواعيد المطاطية.
القاعدة السادسة: التربية اهتمام
يؤكد على أن الاهتمام هو جوهر التربية، فبدونه لا يمكن تذليل الصعاب. يحذر من أن العالم يتغير بسرعة، وتأثير الثقافات الأجنبية يتزايد، مما يتطلب يقظة ومتابعة مستمرة. يدعو إلى فهم ملامح التغيير الحادث حاليًا، ويدعو الآباء والأمهات إلى إدراك أننا نعيش في ظل حضارة تستبدل القيم الأصيلة بقيم الجمال والإثارة والمتعة والأنانية. يشدد على ضرورة الوعي بـ مسار الأسرة، وهل تسير نحو تحقيق أهدافها الإيمانية والتعليمية والاجتماعية.
القاعدة السابعة: تربية تقوم على التوازن
يعتبر التوازن والاعتدال أساس التربية الناجحة، مستشهدًا بوصف الله للأمة الإسلامية بأنها أمة وسط. يوضح أن الفضيلة وسط بين رذيلتين (الكرم بين السرف والبخل، الشجاعة بين التهور والجبن). يدعو إلى التوازن في الأدوار بين الأبوين (أب حازم وأم شفيعة، أب عملي وأم عاطفية)، والتوازن في اتخاذ القرارات (لا استعجال ولا تسويف)، والتوازن بين الحرية والضبط (منح الحرية مع تحديد المسؤوليات).
القاعدة الثامنة: التربية تعاطف
يُسلط الضوء على أهمية التعاطف والحب والتشجيع كـ”مادة كيميائية” توفر القابلية الروحية والنفسية للتأثر والتأثير. يدعو إلى مشاركة الأبناء في مشاعرهم (الفرح والحزن)، والتعاطف معهم حتى في الأمور التي قد تبدو بسيطة للكبار. يؤكد على أهمية المكافأة المعنوية (ابتسامة، تقبيل، ثناء) التي تفوق المادية أثرًا. ويشير إلى أن التعاطف يظهر في البعد الروحي والتعبدي، مثل اصطحاب الأبناء إلى المسجد، وقراءة القرآن معهم.
القاعدة التاسعة: تفهّم أسباب مشكلاتهم
يرى المؤلف أن الأطفال مخلوقات ضعيفة وعاجزة عن فهم مشكلاتهم، وأن الآباء يجب أن يتفهموا طبيعة هذه المشكلات وأسبابها وجذورها لمعالجتها. يرفض فكرة أن الأبناء مجرد “نسخ مكررة” من الكبار. يركز على ثلاثة أمثلة لـمشكلات الأطفال الشائعة:
- النشاط الزائد: يذكر أسبابًا محتملة مثل الوراثة، خلل دماغي، التسمم، أو تأثير حالة الأم أثناء الحمل.
- كذب الأطفال: يوضح أن الأطفال يكذبون لأسباب مختلفة كالحصول على مكسب، حماية الأصدقاء، تقليد الكبار، الدفاع عن النفس، أو اختلاق حكايات للإعجاب.
- مشاكسات الأشقاء: يصفها بأنها طبيعية، لكنها قد تتجاوز المألوف بسبب التنافس على محبة الوالدين، أو تفضيل أحد الأبناء على الآخر، أو إسناد سلطات واسعة للأخ الأكبر.
القاعدة العاشرة: لا تربية من غير تأديب
يؤكد على أن التأديب ضروري لجميع الأطفال، لكن بدرجات متفاوتة. يشدد على أن التأديب يجب أن يكون “جهدًا تكميليًا” يكمل المبادرات العاطفية والتوجيهية، وليس الأساس. يدعو إلى التخطيط المسبق للتأديب والاتفاق عليه بين الأبوين والأبناء، وأن يكون “حازمًا من غير قسوة ولا إهانة”. يرفض الشتم والوصف بالألفاظ المسيئة، ويرفض الضرب الجسدي تمامًا، معتبرًا إياه إهانة لإنسانية الطفل، ويشدد على ضرورة احترام الطفل للكبار وضبط عواطفه، وتحمل النتائج المنطقية لسلوكه.
خاتمة: دعوة لتربية واعية ومثمرة
يختتم الدكتور عبد الكريم بكار كتابه بدعوة إلى الوعي المستمر بأهمية التربية، وإلى العمل الدؤوب والمثابرة في بناء أجيال قوية ومتوازنة. يرى أن التربية هي “جهد مشكور وقضاء دين”، وأنها تتطلب معرفة وخبرة وتفاؤلاً وصبرًا. إنه ليس مجرد كتاب يقدم نصائح، بل هو خارطة طريق ملهمة لـلآباء والمربين، تهدف إلى إعادة الاعتبار لدور الأسرة كمحضن أساسي لتكوين الأفراد الصالحين، القادرين على مواجهة تحديات الحياة بثقة وإيمان. في زمن تتلاطم فيه أمواج التغير، يقدم هذا الكتاب مرساة الأمل، ويوجه القارئ نحو تربية رشيدة مثمرة، بإذن الله تعالى.