الوحدة الوطنية مصطلح شاع في الأوساط الفكرية في الآونة الأخيرة يهدف إلى اعتبار الوطن وحدة واحدة يجمع مواطنيه مع الاختلافات المتنوعة تحت مظلته ليكون على قدم المساواة في الحقوق والواجبات ويستظلون بسيادة القانون.

ورغم اتفاق غالب أطياف كل مجتمع على اعتبار الوحدة الوطنية من أهم الأهداف التي يجب أن نسعى إليها، فإن هناك من يشكك في مصداقية هذا المصطلح ويراه مصطلحا غريبا عن فكرنا الإسلامي، وأنه يقصد منه أمور قد يكون فيها مخالفات شرعية، والحق أن الوحدة الوطنية من أهم مقاصد الشريعة، وذلك أن أول دولة في التاريخ قامت على فكرة ( الوحدة الوطنية) هي دولة الإسلام، فقد كانت الدول قبل الإسلام تقوم على أحادية الجنس والمعتقد، فالدولة الرومانية لها جنسها ودينها، والدولة الفارسية لها دينها وجنسها وهكذا، ولما هاجر الرسول إلى المدينة وضع أول دستور مدني في التاريخ عرف بـ ( صحيفة المدينة).

ويذكر المفكرون المعاصرون بأن ما فعله الرسول في ( صحيفة المدينة) التي وحدت بين الأوس والخزرج، وبين المهاجرين والأنصار، وجمعت في المدينة بين المسلمين واليهود وغيرهم تحت مظلة ما بات يعرف حديثا بـ ( الأمة الوطنية)، أي الدولة التي تجمع تحت مظلتها جميع الأديان والجنسيات والأعراف، وبهذا كان للمسلمين السبق على العالم في تدشين ( الوحدة الوطنية)، وإن لم يكن هذا المصطلح شائعا آنذاك.

وقد جاء الاهتمام بالوحدة الوطنية في القرآن والسنة وإن لم تكن الإشارات فيهما كثيرة؛ لأن حب الأوطان من الفطرة، فلا يحتاج إلى كثير بيان، وقد عبر الفقهاء عن ذلك في القاعدة الفقهية ( الوازع الطبعي كالوازع الشرعي)، أي أن الشريعة في الأمور الفطرية تكتفي بهذه الفطرة، وهي تساوي في منزلتها الأمر الشرعي، وضربوا بذلك مثلا حب الأوطان، فإن النفوس السليمة تميل إليه وتشد عليه، فليس بحاجة إلى الإكثار عن الحديث عنه.

كما جاء القرآن بالحديث عن وحدة المسلمين والدعوة إليها كما قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران: 103]، ونهى عن الفرقة فقال سبحانه: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [آل عمران: 105].

وجعل المسلمين كلهم أمة واحدة فقال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]

وما أروع ما قاله النبي لمكة حين خروجه منها : “ما أطيبك من بلدة وأحبك إلي ولولا أن قومك أخرجوني ما سكنت غيرك”، وقال عن المدينة:” اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد”.

وحب الوطن سنة الأنبياء جميعا، فهذا كليم الله موسى – عليه السلام يقول الله عنه: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص : 29].
قال الإمام ابن العربي المالكي في تفسير الآية: قال علماؤنا لما قضى موسى الأجل طلب الرجوع إلى أهله وحنّ إلى وطنه وفي الرجوع إلى الأوطان تقتحم الأغرار وتركب الأخطار وتعلل الخواطر ويقول لما طالت المدة لعله قد نسيت التهمة وبليت القصة”…

وفي الجملة.. فحب الوطن والسعي إلى وحدتنا من الفطرة والإيمان.