يحتفل العالم في شهر أغسطس من كل عام بـ اليوم العالمي للعمل الإنساني ، وإذا ذكر في التاريخ العمل الخيري والإنساني، فإن محمد ﷺ هو رائد العمل الخيري والإنساني بلا منازع.
ولقد تنوعت الريادة في شخصية النبي محمد بن عبد الله ﷺ، حتى إننا نجد أنه كان رائدا في جميع مجالات الحياة الدينية والإنسانية، حتى أضحى محمد ﷺ أسوة وقدوة للعالمين، فكل من يبتغي خيرا في الدنيا والآخرة سيجد في سيرته الحافلة وحياته المليئة بالعطاء والإنجاز نموذجا يحتذى، وإن أعظم آية في وصف محمد ﷺ هي قوله تعالى: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب: 21].
ولقد كان العطاء والعمل الخيري والإنساني سمة غالبة على شخصية محمد ﷺ حتى قبل النبوة، ولما نزل الوحي على رسول الله ﷺ ورجع إلى خديجة خائفا، وقال لها:” لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة: كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق . رواه البخاري ومسلم، فنجد أن خديجة – رضي الله عنها– تستند إلى فكرها الثاقب ونظرتها الحكيمة إلى أن محمدا زوجها ﷺ مثله لا يخزيه الله تعالى، لأنه كان يداوم على العمل الخيري وينوع نشاطاته فيه، فهو يصل الرحم، و” تحمل الكل” أي كان النبي ﷺ يتحمل أثقال الفقراء والضعفاء والأيتام فينفق عليهم من ماله، ويعينهم بالمال، و” تكسب المعدوم”، فيعني أنه ﷺ كان يعين الفقير الذي لا يجد شيئا عنده، كما اشتهر النبي ﷺ بكرم الضيافة، كما أنه كان عونا للناس على ما يصيبهم من ابتلاءات وشرور، وهذا معنى:” وتعين على نوائب الدهر”.
وفي الإسلام أسس النبي ﷺ للتكافل الاجتماعي بين الأمة كلها، وجعل العمل الخيري سجية وملمحا من ملامح المجتمع المسلم، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: «كل سلامى من الناس عليه صدقةٌ، كل يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين الاثنين صدقةٌ، ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها، أو يرفع عليها متاعه صدقةٌ، والكلمة الطيبة صدقةٌ، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقةٌ، ويميط الأذى عن الطريق صدقةٌ»، فقد طور النبي ﷺ مفهوم الصدقة، ولم يقصرها في صدقة المال، بل جعلها متنوعة المجالات، فالإصلاح بين الناس صدقة، وإعانة الرجل بالجهد البدني صدقة، ومساعدة الآخرين في أعمالهم صدقة، والكلمة الطيبة للغير صدقة، وإماطة الأذى عن طريق الناس صدقة، حتى جعلت الصدقة جزءا من نسيج المجتمع المسلم. كما ظهر العمل الخيري في شخصية الرسول ﷺ منذ البواكير، فقد تبنى زيد بن حارثة، وجعله ابنا له قبل أن ينزل القرآن بتحريم التبني، ولما وجد زين بن حارثة من التعامل الراقي للرسول ﷺ له، رفض أن يرجع إلى أبيه وعمه حين جاءا للرسول يطلبان زيدا، وفضل البقاء معه؛ لما رأى من حسن خلقه وعشرته، فقال كما نقل ابن حجر في «الإصابة في تمييز الصحابة» (2/ 495): ما أنا بالذي أختار عليك أحداً، أنت مني بمكان الأب والعم، فقالا: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية وعلى أبيك وعمك وأهل بيتك، قال: نعم، إني قد رأيتُ من هذا الرجل شيئاً ما أنا بالذي أختار عليه أحداً، فلما رأى رسول الله ﷺ ذلك أخرجه إلى الحِجْر فقال: اشهدوا أن زيداً ابني يرثني وأرثه، فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت أنفسهما وانصرفا، فدُعِيَ زيد بن محمد حتى جاء الله بالإسلام.
مجالات العمل الخيري في حياة الرسول
لقد أسس النبي ﷺ للعمل الخيري والإنساني، ووضع الأسس الحاكمة له، كما وضع نظاما متكاملا في العمل الخيري، يحتاج إلى جهود لإظهار ذلك المنهج، فوضع أسس الزكاة والصدقات والأضحية والنذور والكفارات والديات وذبح الأضاحي، كما جاء بنظام للوقف والوصية والهبة والقرض والعارية والكفالة والأمانة والوكالة، وحث على المشروعات الخيرية المتنوعة، كبناء المساجد وسقي الماء وحفر الآبار وتفطير الصائمين ورعاية طالب العلم، ورعاية المسجد الأقصى، ورعاية الأرامل واليتامى، ودعا إلى إطعام الطعام، وإغاثة الملهوف، وحث على بناء بيوت الفقراء، ومشروعات الكسب الحلال وكفالة الدعاة ودعم ذوي الاحتياجات الخاصة وغيرها من المشروعات الخيرية المعاصرة.
العمل الخيري المعنوي
ولم يقف تأسيس العمل الخيري في حياة الرسول ﷺ عند الجانب المادي فقط، بل شمل الجانب المعنوي، فدعا إلى التطوع وإكرام الضيوف، والإحسان إلى الجار، والإحسان إلى الخدم، ورعاية الطيور والحيوانات، وإماطة الأذى عن الطريق، وعيادة المرضى وبذل النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الرسول يتبرع بكامل ثروته
ولقد كان النبي ﷺ أول فاعل للعمل الخيري، فكان أعظم منفق لماله عرفته البشرية، فقد لقد للنبي ﷺ الحق في عشرين بالمائة ( الخمس) من غنائم الحروب، ورغم تلك الثروة الطائلة، فلم يكن النبي ﷺ يأخذ منها لنفسه ولا لأهله شيئا، بل يوزعها على الفقراء والمساكين، وإن ما استحقه النبي ﷺ من أموال الغنائم وحدها ليعد بالملايين أو المليارات، ورغم تلك الثروة كلها؛ لم يكن لنفسه حظا فيها.
وإننا لنتخيل ملوك الأرض حين يغزون غيرهم ويكسبون غنائم الحروب كيف تكون قصورهم، وكان الرسول ﷺ له غرف صغيرة يعيش فيها، ولننظر كيف كان متاع الملوك، والنبي ﷺ كان ينام على الحصير يؤثر في جسده، ولننظر كيف كان طعام الملوك، ولم يكن النبي ﷺ يوقد في بيته نار للطبخ إلا كل شهرين أو ثلاثة، وإن كان للملوك عشرات بل مئات العبيد والجواري، فلم يكن للنبي ﷺ مثلهم، بل كان يعتبر العبيد والإماء إخوانه في الله تعالى.
ومن كثرة جوده وعطائه وصف ذلك الجود منه ﷺ بـ” الريح المرسلة”.
العمل الخيري مع الجيران
فقد أوصى النبي ﷺ، ولم يجعل معيار الوصية الدين، بل مطلق الجار، حتى إنه ﷺ أوصى بالجار غير المسلم، فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن مجاهد بن جبر، عن محرر بن قيس بن السائب ، أن عبد الله بن عمرو أمر بشاة فذبحت، فقال لقيمه: هل أهديت لجارنا اليهودي شيئا؟ فإني سمعت رسول الله ﷺ، يقول: «ما زال جبريل عليه السلام يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».
وجعل من أولى الجار أن يطعم جاره الجائع، ومن لم يفعل كان ناقص الإيمان، ففي الأدب المفرد للبخاري عن عبد الله بن المساور قال: سمعت ابن عباس يخبر ابن الزبير يقول سمعت النبي ﷺ يقول: ” ليس المؤمن الذي يشبع، وجاره جائع”، وفيه أيضا وصيته لأبي ذر رضي الله عنه، حين قال: “يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماء المرقة، وتعاهد جيرانك، أو اقسم في جيرانك”
العمل الخيري مع الخدم
ولقد كان النبي ﷺ سباقا في وضع معالم العمل الخيري مع الخدم منذ البواكير، وأن علاقة السيد بخادمه لابد أن يحوطها الإيمان والرعاية والإحسان، ففي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله أكلة أو أكلتين، أو لقمة أو لقمتين، فإنه ولي حره وعلاجه».
العمل الخيري مع الحيوان
ولقد كان النبي ﷺ سباقا لمواثيق العالم المعاصر من العناية والرفق بالحيوان، فحث على إطعام الحيوانات وسقيها، كما في البخاري ومسلم أنه ﷺ قال:” «في كل كبد رطبة أجر».
وحرم حبس الحيوان وإيذاءه، حتى جعل مصير من يفعل ذلك النار، كما ورد من قوله ﷺ في الصحيحين: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا هي أرسلتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت».
هذه بعض صور من العمل الخيري في حياة النبي ﷺ وما هي إلا غيض من فيض وقليل من كثير، تدل الإنسانية على أن محمدا ﷺ هو رائد العمل الخيري والإنساني بجدارة لا ينازعه فيه أحد.
وإن الأمة بحاجة إلى استخلاص منهجه في العمل الخيري واتباعه ﷺ فيه، والحفاظ على خيرية هذه الأمة من خلال نهجه ﷺ خاصة في العمل الخيري والإنساني.
