دأب إعلامنا العربي والإسلامي على الربط بين شيخ الإسلام ابن تيمية وبين حوادث الإرهاب والتكفير القتل ، فما إن تقع حادثة إرهابية إلا ويسارعون باستدعاء اسمه واتهام كتبه وفكره بتغذية هذا الفكر المتطرف، وإلى هنا قد يقل التعجب  باعتبار أن هؤلاء الإعلاميين يغلب عليهم الجهل بفكر قامة كبيرة كشيخ الإسلام ابن تيمية، فكثير من هؤلاء لا يحسن أصلا نطق اسمه بشكل صحيح.[1]

لكن ما لا ينقضي منه العجب أن يتورط بعض المنتسبين إلى العلم في هذه الورطة، كما حدث مؤخرا أن قال أحد المحسوبين على العلم في تعليله عن مرجعيات الجماعات التكفيرية، قال : أزمة التكفيريين أنهم لا يقرأون للمذاهب الأربعة، أبي حنيفة ومالك والشافعي، بل لا يقرأون إلا لابن تيمية، وكتب ابن تيمية زاخرة بالتكفير، فإننا إذا طالعنا كتاب الفتاوى له، سنجد أنه فيها  أربعمائة وثلاث وثمانين مسألة( 438 )، يقول فيها ابن تيمية : يستتاب صاحبها وإلا يقتل![2]

فهل صحيح أن كتب ابن تيمية تنظر للفكر التكفيري، هذا ما نحب أن نبينه في السطور التالية :

أولا : التكفير موجود في كل دين وفي كل مذهب وفي كل فكرة. ودين ليس فيه أصول يكفر من ينكرها ليس بدين، وهذا أمر تتفق عليه جميع الديانات السماوية كالإسلام واليهودية والنصرانية، بل إن الأيديولوجيات الوضعيّة كالشيوعية والعلمانية وغيرها تحكم على من لم من لم يؤمن بأصولها بالخروج عن دائرتها، بل رأينا بعض الدول تضع شروطًا للتمتع بالجنسية للمواطنين الأصلاء، وتخلعها عمن يفرط في هذه الشروط!

ثانيًا :  الحديث عن ضوابط التكفير وأحكامه في كتب العقائد والفروع ليس عيبًا، بل هو من الضرورات لوضع الخطوط الفاصلة بين التمسك بالدين والكفر به. وها هو القرآن إذا طالعنا كتاب المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم وجدنا أن القرآن ذكر مادة ( الكفر) بمشتقاتها وفق الإحصائية التالية :

كلمة كفر = 19 مرة ، كلمة كفرتم = 8 مرات، كلمة كفروا = 194 مرة، كلمة تكفرون = 16 مرة، كلمة يكفر =12 مرة، كلمة يكفرون = 20 مرة، كلمة يكفر = 12 مرة، كلمة الكفر = 17 مرة، كلمة كَفَرَ = 3 مرات، كلمة كفرهم = 8 مرات، كلمة كافر = 5 مرات،  كلمة الكافرون = 36 مرة، كلمة الكافرين = 93 مرة، كلمة الكفار = 19 مرة،  كلمة كفور = 12 مرة، كلمة كفَّار = 4 مرات. ولم نذكر هنا  المواد التي ذكرت أقل من ثلاث مرات.

ثالثا : لم يخلُ مرجع من المراجع الفقهية عن الحديث عن الردة ( أي الكفر بعد الإسلام) وأسبابها  ونتائجها والآثار المترتبة عليها.

وتذكر هذه المراجع للمذاهب الفقهية الأربعة، بل الثمانية أنه تنقسم الأمور التي تحصل بها الردة إلى أربعة أقسام :

أ – ردة في الاعتقاد .

ب – ردة في الأقوال .

ج – ردة في الأفعال .

د – ردة في الترك .

وبوسع أي إنسان أن يعود إلى مصطلح ( الردة) في الموسوعة الفقهية الكويتية  (22/183) ليطلع على مراجع المذاهب الأربعة في ذلك

– كفر الاعتقاد : تذكر الموسوعة الفقهية  مثالا على كفر الاعتقاد، اتفاق الفقهاء على أن من أشرك بالله ، أو جحده، أو نفى صفة ثابتة من صفاته، أو أثبت لله الولد فهو مرتد كافر .

وكذلك من قال بقدم العالم أو بقائه، أو شك في ذلك .

– كفر الأقوال : تذكر الموسوعة الفقهية  مثالا على كفر الأقوال، اتفاق الفقهاء على أن من سب الله تعالى كفر ، سواء كان مازحا أو جادا أو مستهزئا، وكذلك سب النبي .

كما تذكر الموسوعة أن الشافعية يرون سب النبي ( ردة وزيادة ) كما تذكر أن المالكية لا يقبلون توبته، بينما تذكر أن ابن تيمية مع الحنفية والحنابلة يقبلون توبته.

– كفر الأفعال : تذكر الموسوعة الفقهية  مثالا على كفر الأفعال، اتفاق الفقهاء على أن إلقاء المصحف كله في محل قذر يوجب الردة ؛ لأن فعل ذلك استخفاف بكلام الله تعالى، فهو أمارة عدم التصديق .

وتنقل عن الشافعية والمالكية  أن إلقاء  بعض المصحف مثل إلقائه كله ، وأنهم يعدون كل فعل يدل على الاستخفاف بالقرآن الكريم كفرًا

كما تذكر الموسوعة الفقهية  مثالا على كفر الأفعال، اتفاق الفقهاء على أن من سجد لصنم ، أو للشمس ، أو للقمر فقد كفر.

– كفر الترك : وتذكر الموسوعة الفقهية  مثالا على كفر الترك، اتفاق الفقهاء على كفر من ترك الصلاة أو  الزكاة أو الصيام أو  والحج جاحدا  لوجوبها.

وتنقل الموسوعة عن ( الإمام مالك والشافعي وأحمد ) وجوب قتل تارك الصلاة كسلا وتهاونًا، بينما تنقل عن الحنفية الاكتفاء بوجوب سجنه حتى يتوب.

رابعا : العيب ليس في وضع ضوابط التكفير، ولكن المشكلة تكمن في الغلو في التكفير، وإنما تورطت الجماعات الراديكالية في الغلو في التكفير، وهذا مكمن خلافها مع علماء المسلمين (كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وابن تيمية وغيرهم).

هل كان ابن تيمية مغاليًا في التكفير؟

لقد كان ابن تيمية مع مدرسة أهل السنة والجماعة في الاقتصاد في التكفير، لا رَغَبًا في شيء ولا رَهَبًا من شيء، ولكن لأن هذا هو الدين كما فهمه علماؤنا جميعا إلا ما شذ عنهم.

وفي ذلك يقول ابن تيمية : ” إن الكفر والفسق أحكام شرعية، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل. فالكافر من جعله الله ورسوله كافرا، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقا، كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمناً ومسلماً، والعدل من جعله الله ورسوله عدلاً، والمعصوم الدم من جعله اللهُ ورسولُه معصومَ الدم، والسعيد في الآخرة من أخبر الله ورسوله عنه أنه سعيد في الآخرة، والشقي فيها من أخبر الله ورسوله عنه أنه شقي فيها”[3]

فهو لا يصف فعلًا  من الأفعال بالكفر إلا إذا وصفه القرآن والسنة بذلك.

ابن تيمية لا يكفر بالذنوب

من المعروف علميًّا أن مرتكز الخلاف بين أهل السنة والفرق المبتدعة، أن أهل السنة لا يكفرون أحدًا بمعصية أو ذنب، بينما تذهب الفرق المبتدعة كالخوارج والمعتزلة وغيرهم إلى التكفير بالذنوب والمعاصي، فمن أي الاتجاهين كان ابن تيمية؟

لنقرأ مباشرة ماذا يقول في هذه الجزئية : ” قد تقرر من مذهب أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة أنهم لا يُكفِّرون أحداً من أهل القبلة بذنب ، ولا يُخرجونه من الإسلام بعمل إذا كان فعلاً منهياً عنه، مثل: الزنا والسرقة وشرب الخمر، ما لم يتضمن ترك الإيمان، وأما إن تضمن ترك ما أمر الله بالإيمان به، مثل: الإيمان بالله وملائكته؛ وكتبه ورسله؛ والبعث بعد الموت، فإنه يكفر به، وكذلك يكفر بعدم اعتقاد وجوب الواجبات الظاهرة المتواترة وعدم تحريم الحرمات الظاهرة المتواترة.[4]

حتى أصحاب الكبائر

يقول :  “وأما صاحب الكبيرة ، فسلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة، لا يشهدون له بالنار، بل يجَوِّزون أن الله يغفر له ، كما قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فهذه في حق من لم يشرك ، فإنه قيدها بالمشيئة. وأما قوله تعالى : {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا} فهذا في حق من تاب ولذلك أطلق وعم”.[5]

قال: “ وأهل السّنة وَالْجَمَاعَة متفقون على انه لَا يكْفُرُ الْمُسلم بِمُجَرَّد الذَّنب، كَمَا يَقُوله الْخَوَارِج، وَلَا أنه يخرج من الإيمان بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا يَقُوله الْمُعْتَزلَة، لَكِن يَنْقص الإيمان، وَيمْنَع كَمَاله الْوَاجِب. وإن كَانَت المرجئة تزْعم أن الإيمان لَا ينقص أيضا. فمذهب أهل السّنة المتبعون للسلف الصَّالح أن الإيمان يزِيد بِالطَّاعَةِ، وَينْقص بالمعصية”.[6]

دليل من التاريخ

لقد كان لابن تيمية في عصره كارهون وأعداء كثر من علماء المسلمين، من الفقهاء، والأشاعرة، والصوفية، والشيعة كما كان له محبون وتلامذة ومريدون، وهم الأكثر.

وفي ذلك يقول أبو حفص البزار (ت – 749هـ) : “ولم يزل المبتدعون أهل الأهواء، وآكلوا الدنيا بالدين، متعاضدين، متناصرين في عدوانه، باذلين وسعهم بالسعي في الفتك به، متخرصين عليه الكذب الصراح، مختلقين عليه، وناسبين إليه ما لم يقله ولم ينقله، ولم يوجد له به خط، ولا وجد له فيه تصنيف ولا فتوى، ولا سمع منه في مجلس”[7]

ومع ذلك لم يتهمه أحد منهم أنه كان مغاليا في التكفير، أو مخالفا منهج أهل السنة والجماعة في ذلك، وها هي التهم التي رموه بها مسجلة في كتبهم وفي كتب التاريخ، ليس من بينها تهمة الغلو في التكفير.

فما سر هذا العدد من فتاوى التكفير في كتب ابن تيمية؟

نبين ذلك إن شاء الله في مقال قادم.


[1] – الصواب  ( ابن تيميَّة ) بتشديد الياء الثانية.

[2] – قال ذلك لشيخ عبد العزيز النجار، رئيس منطقة دمياط الأزهرية في مداخلة هاتفية لفضائية “on live ” ويمكن مشاهدة المداخلة: http://bit.ly/2AdNMOa

[3] – منهاج السنة النبوية (5/ 92)

[4] – مجموع الفتاوى (20/ 90)

[5] – مجموع الفتاوى (4/ 475)

[6] – الاستقامة (2/ 185)

[7] – الأعلام العلية ص66.