النبي صلى الله عليه وسلم ترك أقوالا وأفعالا في مجال التعبد لم تؤثر عنه، والذي يعرف بتروك النبي، فهل ما تركه من ذلك يعتبر الترك فيه سنة؟ ومن فعل خلاف مالم يؤثر أو قال خلافه يعتبر مخالفا للسنة؟ أو أن الترك ليس دليلا ولا حجة فيه؟.

 مثلا ترك النبي صلى الله عليه وسلم أداء السنن الرواتب في السفر إلا سنة الفجر، فهل يكون تركه سنة؟ ومن أدى تلك السنن في السفر يكون مخالفا للسنة ؟

وكذلك تركه التلفظ بالنية في غير النسك فهل يكون ترك التلفظ بها سنة في الصلاة والصوم ونحو ذلك أو لا؟.

هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذا المقال.

أهل العلم في هذه المسألة على طرفين وواسطة.

فأما الطرفان فهما: القائل: بسنية التأسي في الترك وأنه كسنية التأسي في الفعل. قال الشوكاني في (إرشاد الفحول) في البحث العاشر من مباحث السنة (فيما تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والقول في الحوادث التي لم يحكم بها) قال: تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للشيء، كفعله له في التأسي به فيه، قال ابن السمعاني: إذا ترك الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئًا وجب علينا متابعته فيه، ألا ترى أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قدم إليه الضب فأمسك عنه وترك أكله، أمسك عنه الصحابة وتركوه إلى أن قال لهم: “إنه ليس بأرض قومي فأجدني أعافه” وأذن لهم في أكله، وهكذا تركه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لصلاة الليل جماعة خشية أن تكتب على الأمة. اهـ([1])

وأما الطرف الثاني فهو: القائل: بعدم حجية الترك وأنه لا دليل فيه، وينسب هذا القول لابن حزم من أجل إنكاره على بعض أصحاب المذاهب الفقهية استدلالهم بالترك،([2]) وقد ألف عبد الله بن الصديق الغماري رسالة سماها: «حسن التفهم والدرك لمسألة الترك»، وقد افتتحها بأبيات يقول فيها:

التَّرْكُ لَيْسَ بِـحُجَّةٍ في شَرْعِـنَا *** لَا يَـقْـتَضِـي مَـنْـعَاً وَلَا إِيجَـابًــا

وأما الواسطة بين هؤلاء وأولئك، فهم من فصل في المسألة، وقال: بأن الترك الراتب يعتبر سنة إذا وجد السبب المقتضي للفعل أو القول، وانتفى المانع منه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: “ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم له مع وجود ما يعتقد مقتضيا وزوال المانع سنة، كما أن فعله سنة، فلما أمر بالأذان في الجمعة وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة كان ترك الأذان فيهما سنة، فليس لأحد أن يزيد في ذلك،..فهذا مثال لما حدث مع قيام المقتضي له وزوال المانع لو كان خيرا. فإن كل ما يبديه المحدث لهذا من المصلحة أو يستدل به من الأدلة قد كان ثابتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الترك سنة خاصة مقدمة على كل عموم وكل قياس. اهـ.([3])

وقال ابن حجر الهيتمي : ” وكذا ما تركه صلى الله عليه وسلم مع قيام المقتضى فيكون تركه سنة وفعله بدعة مذمومة، وخرج بقولنا: مع قيام المقتضى في حياته، تركه إخراج اليهود من جزيرة العرب وجمع المصحف، وما تركه لوجود المانع كالاجتماع للتراويح ” اهـ.([4])

فاستثنوا من التروك إذا ما كان لعدم وجود مقتض أو لقيام مانع فلا يعتبر حينئذ سنة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-:

قال شيخ الإسلام: “والترك الراتب سنة كما أن الفعل الراتب سنة، بخلاف ما كان تركه لعدم مقتض أو فوات شرط أو وجود مانع، وحدث بعده من المقتضيات والشروط وزوال المانع ما دلت الشريعة على فعله حينئذ، كجمع القرآن في المصحف، وجمع الناس في التراويح على إمام واحد، وتعلم العربية، وأسماء النقلة للعلم، وغير ذلك مما يحتاج إليه في الدين بحيث لا تتم الواجبات أو المستحبات الشرعية إلا به، وإنما تركه – صلى الله عليه وسلم – لفوات شرطه أو وجود مانع”.([5])

 ومما يمثل به لهذا القسم من التروك، تركه صلى الله عليه وسلم لصلاة التراويح بالناس في رمضان خشية أن تفرض عليهم؛ لما ثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (قام بأصحابه ثلاث ليال وفي الثالثة أوفي الرابعة لم يُصلّ ، وقال : إني خشيت أن تُفرض عليكم ) رواه البخاري، وفي لفظ مسلم ( ولكني خشيت أن تُفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها).([6])

وثبت في الصحيحين أيضا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيَدَعُ الْعَمَلَ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ خَشْيَةَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ النَّاسُ فَيُفْرَضَ عَلَيْهِمْ …”.([7])

والاحتجاج بالترك مقبول إجمالا وهذا هو ما يفهم من صنيع السلف كصحابة النبي صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم فمن بعدهم، ومن ذلك إنكار ابن مسعود رضي الله عنه على القوم الذي فعلوا أمرا لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته يفعلونه من التحلق في المسجد وعد الذكر فقال: “… يا أمة محمد، ما أسرع هلكتكم هؤلاء صحابة نبيكم صلى الله عليه وسلم متوافرون، وهذه ثيابه لم تبل، وآنيته لم تكسر، والذي نفسي بيده، إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم أو مفتتحو باب ضلالة». قالوا: والله يا أبا عبد الرحمن، ما أردنا إلا الخير. قال: «وكم من مريد للخير لن يصيبه،…”.([8])

وكذلك تصريح عبد الله بن عباس رضي الله عنه بترك النبي صلى الله عليه وسلم للأذان قبل العيد فقد أخرج أبو داود في سننه: “أن رسول الله صلى العيد بلا أذان ولا إقامة”.([9])

وعن سفيان بن عيينة قال: سمعت مالك بن أَنس أتاه رجل فقال: إني أريد أن أحرم من المسجد، من عند القبر. قال: لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة. قال: وأي فتنة في هذا؟! إنما هي أميال أزيدها. قال: وأي فتنة أعظم من أنك ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها سول الله -صلى الله عليه وسلم-. إني سمعت الله يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} … “.([10])

فهذا الأثر عن مالك فيه استدلال بالترك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم من مسجده بل أحرم من ذي الحليفة فمن أحرم من مسجده فقد خالف سنته.

وقد ناقش بعض أهل العلم ما يعترض به من ينفي سنة الترك ويقول بعدم حجيتها.

قال ابن القيم -رحمه الله-: “فإن قيل: من أين لكم أنه لم يفعله، وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم، فهذا سؤال بعيد جداً عن معرفة هديه وسنته، وما كان عليه، ولو صح هذا السؤال، وقبل لاستحب لنا مستحب الأذان للتراويح، وقال: من أين لكم أنه لم ينقل، واستحب لنا مستحب آخر الغسل لكل صلاة، وقال: من أين لكم أنه لم ينقل، واستحب لنا مستحب النداء بعد الأذان للصلاة يرحمكم الله، ويرفع الصوت، وقال: من أين لكم أنه لم ينقل، واستحب لنا آخر صلاة الليل من النصف من شعبان، أو  أول جمعة من رجب، وقال: من أين لكم أنه لم ينقل، وانفتح باب البدعة، وقال كل من دعا إلى بدعة: من أين لكم أن هذا لم ينقل، وهكذا”.([11])

وكذلك فعل الإمام الشاطبي في (الاعتصام) فقال: “ثم إطلاقه القول بأن الترك لا يوجب حكما في المتروك إلا جواز الترك غير جار على أصول الشرع الثابتة،…” ثم بين أن سكوت الشارع مع وجود المقتضي وقيام السبب في زمن الوحي :” كالنص على أن القصد الشرعي فيه أن لا يزاد فيه على ما كان من الحكم العام في أمثاله ولا ينقص منه”.([12])

وخلاصة القول في هذه المسألة أن: تروك النبي صلى الله عليه وسلم حجة معتبرة، ويستدل بها كالاستدلال بالفعل والقول شريطة قيام المقتضي للفعل أو القول المتروك، وانتفاء المانع منه.


[1] – إرشاد الفحول للشوكاني، [1/119].

[2] – المحلى لابن حزم، [2/21].

[3] – اقتضاء الصراط المستقيم 1/280.

[4] – الفتاوى الحديثية، ص: 200.

[5] – القواعد النورانية ، ص: 150.

[6] – البخاري حديث رقم: (872) ومسلم حديث رقم:( 1271).

[7] – البخاري حديث رقم: ( 1060 ) ومسلم  حديث رقم: (1174).

[8] – سنن الدارمي، حديث رقم: (210).

[9] – صحيح أبي داود حديث رقم: (1016).

[10] – عارضة الأحوذي لابن العربي [4/ 34 – 35].

[11] – إعلام الموقعين [2/460].

[12] – الاعتصام [2/281].