تطورت المؤسسات التعليمية عبر التاريخ الإنساني، فقد كان التعليم قائما على الأستاذ والتلميذ والمنهج دون وجود مؤسسة بالمعنى المتعارف عليه، و كان المسجد في حياة المسلمين هو المؤسسة في المراحل الأولى من الإسلام، وأبرز تلك المساجد التي كانت تعد مؤسسات تعليمية المسجد النبوي في المدينة والمسجد الحرام في مكة والمسجد الجامع في البصرة ومسجد الكوفة ومسجد الفسطاط في مصر والمسجد الأقصى في القدس والجامع الأموي في دمشق ومسجد القيروان في تونس ومسجد قرطبة في الأندلس، وغيرها من المساجد الأم، ثم طور المسلمون منظومة التعليم وعرفت المدارس كمؤسسات تعليمية.
أوائل المدارس في الإسلام
ولقد حفل التاريخ الإسلامي بالمدارس التعليمية، من ذلك مدرسة الإمام أبي حفص البخاري في القرن الثاني الهجري وهي تعد النواة الأولى للمدارس في تاريخ الإسلام، ثم شهد القرن الرابع الهجري ميلاد عدد من المدارس، منها: مدرسة ابن حيان، ومدرسة أبي الوليد، ومدرسة محمد بن عبد الله بن حماد، ومدرسة الصادرية لمؤسسها شجاع الدولة صادر بن عبد الله، وكانت بدمشق، وفي القرن الخامس ظهرت عدة مدارس، منها: المدرسة البيهقية، ومدرسة أبي بكر البستي ، والمدرسة السعدية، وكانت المدارس الثلاثة بنيسابور، ومدرسة الإمام أبي حنيفة بالعراق، أسسها أبو سعد ابن المستوفى، ثم المدرسة النظامية التي أسسها نظام الملك، وكان بين افتتاح المدرستين خمسة شهور.
ظهور الجامعات
وتعد جامعة الزيتونة بتونس هي أول جامعة أنشئت في تاريخ الإسلام، وذلك عام 737م ، ثم جامعة القرويين بمدينة فاس بالمغرب ، وإن صنفت على أنها أول جامعة أنشئت في تاريخ العالم، وأقدمها على الإطلاق. وقد بنيت الجامعة كمؤسسة تعليمية لجامع القرويين الذي قامت ببنائه السيدة فاطمة بنت محمد الفهري عام 859م، في مدينة فاس المغربي، ثم جامعة الأزهر سنة 970م، ثم تبعتها الجامعات بأوربا.
وبهذا تحول التعليم إلى مؤسسات تعليمية لها أثر كبير في تشكيل شخصية طالب العلم قبل أن يخرج لميدان الحياة.
مجالات تكوين الطالب
إن من الخطأ أن يتصور أن دور المؤسسات التعليمية هو أن ينال الطلاب شهادة جامعية، من خلال مذاكرة ما يدرسون فحسب، فالمؤسسات التعليمية تعنى في المجال الأول بصياغة الشخصية وتكوينها من خلال ثلاثة مجالات رئيسة، تعمل بشكل متكامل، وهي: المجال المعرفي، والمجال الوجداني، والمجال السلوكي والمهاري.
المجال الأول – المجال المعرفي : يقصد به التكوين الفكري والثقافي للطالب خلال هذه المرحلة، ويكون من خلال ما يدرسه من علوم متنوعة، بحيث تشكل عقليته، ولا شك أن المجال الذي يدرسه الإنسان له تأثيره على عقليته وثقافته وتفكيره، وتكون له الصبغة الغالبة، فطالب الهندسة يكون للهندسة تأثير على ثقافته ومعرفته، وطالب الطب كذلك، ومن يدرس علوم الشريعة يكون لها تأثير على تفكيره وعقليته.
ومن المهم أن ينوع الطالب من ثقافته، فلا يقتصر على اختصاصه الذي يدرسه، بل يقرأ في تنوعات مختلفة، حتى تكون ثقافته شاملة، خاصة فيما يتعلق بالثقافة العامة في الحياة، وقد قيل: اعرف شيئا عن كل شيء، واعرف كل شيء عن شيء.
وقد برزت محاولات لتبسيط العلوم من خلال الكتب، ومن خلال بعض أعمال الوسائط الإعلامية الحديثة، خاصة من خلال موقع: (YOUTUBE)، وغيره.
وقد كانت المدارس الإسلامية القديمة تحدد مواعيد للتدريس، تبدأ من الصبح حتى صلاة العصر، وللمعلم أن يختار الوقت المناسب للطلاب الذي يكونون فيه على استعداد تام للتلقي، على أن لا يقل وقت الدراسة عن ثلاث ساعات.
ولحرصهم على الإتقان في الجانب المعرفي، فقد كان تعقد اختبارات للمعلمين، فينتقى منهم من كان على درجة عالية من المعرفة والثقافة والإتقان في تخصصه.
بالإضافة إلى المعيد الذي يساعد المعلم، ويعيد على الطلاب ما ألقاه عليهم المعلم، وهو يساعد الطلاب قبل وبعد إلقاء الدروس العلمية.
ثانيا- الجانب الوجداني : ليس من الحكمة أن يقتصر جانب التكوين عند الطلاب في المؤسسات التعليمية على جانب المعلومات والفكر فحسب، لأن الإنسان لا يحتاج إلى الفكر وحده، بل لابد أن يهتم بجانب الوجدان والعاطفة؛ إذ لها تأثيرا كبير في حياته، وهي أيضا تتلاحم مع جانب الفكر والسلوك لتشكل حياة الإنسان.
وظيفة المعيد
وقد عرفت المدارس الإسلامية القديمة رعاية الطلاب من الجانب السلوكي والتربية الأخلاقية بجانب الجانب المعرفي، فقد كان يعين لكل طلاب مذهب من المذاهب في المدرسة مدرس وأربعة معيدين، وكانت وظيفة المعيدين تنظيم أمور الطلاب والسهر على راحتهم، ومراقبة سلوكهم ليلا ونهارا؛ حتى ينمو الطالب على الأخلاق الحسنة والسلوكيات الصالحة، فإنه لا خير في التحصيل العلمي بغير تربية وسلوك، وقد عرف العلماء العالم الرباني بأنه من يجمع بين العلم والعمل. وقد قالت أم مالك له حين ألبسته زي طلاب العلم وهو ذاهب لربيعة الرأي: تعلم من ربيعة الأدب قبل العلم.
ثالثا – الجانب المهاري والسلوكي : كان نظام التعليم في المدارس الإسلامية قديما قائما على المعايشة، والقائم على عملية التدريس لم يكن مدرسا فحسب، بل هو معلم ومرب في المقام الأول، والتدريس جزء من قيامه بوظيفته.
وصف للمؤسسة التعليمية
ولم تكن المدرسة – أيضا- مكانا للتدريس وحده، بل بها غرف لمعيشة المدرسين والطلاب والطبيب ومساعديه وبعض العمال الذين يقومون بخدمة الطلاب من تجهيز الطعام والشراب والاهتمام بالنظافة وغيرها، فقد كان تخطيط المدرسة قائما على شكل مستطيل أو مربع يتوسطه صحن مكشوف، تحيطه مرافق المدرسة، وكان الصحن المكشوف يأخذ الحيز الأكبر من المدرسة.
بالإضافة إلى الصحن المكشوف فهناك الإيوان، وهو بناء متسع مرتفع تحيط به ثلاثة حوائط، ويكون في الساحة الوسيطة، وقد يكون في المدرسة إيوان واحد، وقد تصل إلى أربعة أواوين.
وفي الجهة القبلية من المدرسة هناك بيت الصلاة، بحيث يمكن الاستفادة من الساحة في أداء الصلاة عند عدم كفاية المصلى لوجود عدد كبير من المصلين من الطلاب والمدرسين والعاملين، يضاف إليها حجرات وغرف للسكن وقاعات كبيرة للتدريس، وأماكن خاصة للكتب للاطلاع والقراءة.
وهذا النظام كان موجودا حتى العصر الحديث، ومثاله في مصر مدرسة دار العلوم العليا التي أصبحت فيما بعد كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، حيث كان الطلاب والمعلمون والعاملون يعيشون كلهم في مسكن واحد، مما يتيح للطلاب مخالطة معلميهم والاستفادة من أخلاقهم وأدبهم، بل يتعلمون منهم مهارات متعددة تنفعهم في الحياة.
ومع كل هذا، فقد كانت هناك الرعاية الطبية لكل من يعمل بالمدرسة، من خلال وجود طبيب، ومعه عشرة مساعدين، حتى يتعلموا منه مهنة الطب بشكل عملي، وكانوا يوفرون التداوي والدواء بالمجان لمن في المدرسة من خلال الأوقاف.
مخرجات التعليم
إن الأصل في المؤسسات التعليمية أنها تكون الطالب حتى يمتلك مهارات يستطيع أن يعمل بها، فطالب كلية التجارة يتأهل فيها ليكون محاسبا، أو يعمل في مجال الإدارة، وإن خريج الكليات الشرعية يتأهل ليعمل إماما وخطيبا، أو يعمل باحثا شرعيا، أو مدققا في المؤسسات المالية، أو غير ذلك، وكذلك خريج الطب والهندسة والصيدلة والزراعة والحقوق وغيرها.
ومن الأهمية بمكان أن تكون المؤسسات التعليمية مؤهلة لطلابها لوظائفهم في الحياة بعد التخرج، ومن المؤسف أن كثيرا من الكليات خاصة النظرية لا تعتني بهذا الجانب، فيتخرج الطالب وهو لا يجيد أي مهارة مطلقا، ولا يتعلم القيام بوظيفته إلا من خلال الالتحاق بالمؤسسة الوظيفية وليس قبلها.
تنوع المهارات
على أن المهارات التي يتعلمها الطالب في المؤسسات التعليمية لا تتوقف عند مهارات الوظيفة، بل الأولى أن يكون دور المؤسسات التعليمية إكساب الطلاب مهارات في الحياة، بحيث تكون مهارات متنوعة، مثل المهارات الاجتماعية من التواصل وفن التفاوض، وحل المشكلات، وتأهليه لقيامه بدور الزوج والأب، وتأهيل الفتيات لدور الزوجة والأم وغير ذلك.
تعليم الاستثمار
ومن الأفضل أن تكون المؤسسة التعليمية معنية بتأهيل الطلاب للاستثمار وليس لمجرد الوظيفة، وهو مما معمول به في عدد من الجامعات العالمية.
كما أن المؤسسات التعليمية لها دور كبير في إكساب الطلاب المهارات الثقافية والفنية والأدبية، وغيرها من أنواع المهارات التي يحتاجها الطلاب في حياتهم.
إن دور المؤسسات التعليمية سواء كانت مدارس أو جامعات بما فيها من الكليات و المعاهد يجب أن لا يقتصر على حصول الطلاب على شهادات يمكن من خلالها التقديم على وظائف للتكسب، وهذا دور قائم، لكن الواجب أن يكون للمؤسسات التعليمية أدوار أخرى لا تقل أهمية عن هذا الدور، ومن أهمها مساعدة الطالب على صياغة وتكوين شخصية صياغة تؤهله أن يكون مواطنا صالحا، نافعا لنفسه ولأسرته ولدينه ولمجتمعه وللإنسانية كلها، ومن ذلك إكسابه المهارات التي تساعده على القيام بوظيفته في المجتمع، ومساعدته في التربية السلوكية والأخلاقية، وأن يكون قدوة صالحا، ومواطنا ناجحا، فخير الناس أنفعهم للناس” ولن يكون هذا إلا بإدراك المؤسسات التعليمية والقائمين على لهذا الدور، فإن أول العمل الفهم والإدراك.