عندما يتناول القرآن الكريم مشهد الطبيعة ويتغنى بجمال الزرع، فهو يعتمد المشهد الجمالي وسيلة، ويتناوله لغرض من الأغراض تلتقي كلها حول العقيدة، ففي ذلك دلالة على الألوهية، والوحدانية، وبرهان على البعث، وتذكير  بنعم الله تعالى على الإنسان، وبيان لعلاقة الطبيعة بالله الخالق وهي علاقة العبودية بالألوهية. ومع ذلك فالهدف والغاية لا ينفيان أن يكون ذلك المشهد هو الحقيقة؛ الحقيقة الكونية، والحقيقة العلمية، والحقيقة الجمالية، فلا تهمل جوانب لإبراز جانب، كل هذا يعرضه القرآن بالأسلوب الجمالي البديع، وكأن الصياغة القرآنية لم يكن همها إلا الإعجاز البياني، وبهذا كان الإعجاز القرآني إعجازاً في كل الاتجاهات.

وقال تعالى في كتابه الكريم: ﴿ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (الرعد : 4).

ومن هذه المشاهد الأرضية، نجد الكثير من الناس يمرون عليها فلا تثير فيهم رغبة التطلع إليها، إلا أن ترجع النفس إلى حيوية الفطرة والاتصال بالكون الذي هي قطعة منه انفصلت عنه لتتأمله ثم تندمج فيه ” وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ” متعددة الشيات، وإلا ما تبين أنها “قِطَعٌ”، فلو كانت متماثلة لكانت قطعة، منها الطيب الخصب ومنها السبخ النكد، ومنها المقفر الجدب، ومنها الصخر الصلد، وكل واحد من هذه وتلك ألوان وأنواع ودرجات ومنها العامر والغامر، ومنها المزروع الحي والمهمل الميت، ومنها الريان والعطشان، ومنها ومنها،،، وهي كلها في الأرض متجاورات.

هذه اللمسة العريضة الأولى في التخطيط التفصيلي، ثم تتبعها تفصيلات: و”وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ” و”وَزَرْعٌ” و”وَنَخِيلٌ” تمثل ثلاثة أنواع من النبات، الكرم المتسلق، والنخل السامق، والزرع من بقول وأزهار وما أشبه مما يحقق تلوين المنظر، وملء فراغ اللوحة الطبيعية، والتمثيل لمختلف أشكال النبات ذلك النخيل، “صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ”، منه ما هو عود واحد، ومنها ما هو عودان أو أكثر في أصل واحد، وكله “يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ” والتربة واحدة، ولكن الثمار مختلفات الطعوم، و”َنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ” فمن غير الخالق المدبر يفعل هذا وذاك؟

من منا لا يذق الطعوم مختلفات في نبت البقعة الواحدة، فكم منا التفت هذه اللفتة التي وجه القرآن إليها العقول والقلوب؟ إنه بمثل هذا يبقى القرآن جديداً أبداً، لأنه يجدد أحاسيس البشر بالمناظر والمشاهد في الكون والنفس، وهي لا تنفد ولا يستقصيها إنسان في عمره المحدود، ولا تستقصيها البشرية في أجلها الموعود “إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ”.

ومرة ثالثة نقف أمام التقابلات الفنية في اللوحة بين القطع المتجاورات المختلفات، والنخل صنوان وغير صنوان والطعوم مختلفات والزرع والنخيل والأعناب، تلك الجولة الهائلة في آفاق الكون الفسيحة، يعود منها السباق ليعجب من قوم هذه الآيات كلها في الآفاق لا توقظ قلوبهم ولا تنبه عقولهم، ولا يلوح لهم وراءها تدبير المدبر وقدرة الخالق، كأن عقولهم مغلولة وكأن قلوبهم مقيدة، فلا تنطلق للتأمل في تلك الآيات، وقد ذكر الدكتور زغلول النجار عدد من الحقائق العلمية في هذه الآية الكريمة:

– تكوّن الغلاف الصخري للأرض من عدد من الصخور والتربة المتجاورة.

– تباين صور الحياة النباتية بتباين التربة ومختلف الظروف البيئية المحيطة بها.

– تباين الشيفرات الوراثية من نبات إلى آخر مما يجعل لكل نبات قدراته الخاصة على استخلاص عناصر محددة من الأرض لتعطي ثمارها ما يفضل بعضها على بعض في الأكل.

– لكل من ثمار الأعناب والنخيل من المميزات ما لا يتوافر لغيرها من ثمار النباتات الأخرى، وكذلك لأشجارها من الخصائص ما يميزها عن غيرها من الزروع.

إن الزرع من الجمال بمكان، بحيث ضربه القرآن الكريم مثلاً لنبينا محمد ولأصحابه رضي الله عنهم، حمل هذا المثل دلالات كثيرة لا شك أن الجمال أهمها:

قال تعالى: ﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ (الفتح : 29).

– ” كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ”، أي: أخرج فراخه، بمعنى: أخرج صغاره.

– “فَآزَرَهُ”، أي: شدّه.

– “فَاسْتَغْلَظَ”، أي: شبَّ وطال. قال الشوكاني: صار ذلك الزَّرع غليظاً بعد أن كان دقيقاً.

– “فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ”، أي: فاستقام على أعواده والسوق جمع ساق.

فهذا الزرع من الجمال بمكان بحيث صار محل إعجاب الناس جميعاً وعلى رأسهم “الزُّرَّاعَ”، قال تعالى: “يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ” أي: يعجب هذا الزرع زارعه لقوته وحسن منظره.

وخصَّ الله “الزُّرَّاعَ” بالذكر، لأن الزّرع إذا أعجب (الزرّاع) وهم يعرفون عيوب الزّرع، فهو أحرى أن يُعجب غيرهم.

وهذا النص القرآني يشير إلى حقيقة علمية وهي تكاثر النباتات بالأشطاء ، وهي عبارة عن سيقان إضافية تنمو من براعم قاعدية عند المنطقة بين الجذر والساق، كما هو الحال في نباتات القمح والشعير والشوفان والأرز وغيرها حيث تنمو الساق الأساسية أولاً من داخل البذرة النابتة ثم ينمو العديد من هذه السيقان الإضافية التي تندفع من قاعدة الساق والتي قد يزيد عددها على الثلاثين من النبتة الواحدة، والتي سرعان ما تنمو حتى تصل إلى طول الساق الأصلية تقريباً وتعطي سنابل مثلها، وهذه الأشطاء تخرج متلاحقة الواحد تلو الآخر، ومن هنا كان التعبير بالأفراد في هذا النص القرآني المعجز “أَخْرَجَ شَطْأَهُ”، وكان وصف التتابع بحرف العطف “ف” الذي يدل على الترتيب مع التعقيب، فقال تعالى: “كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ”، وبهذا النمط من التكاثر، فإن الساق الأصلية للنبات تحاط بعدد من السيقان الثانوية التي تنمو حولها على هيئة حزمة من الأعواد القائمة التي تزيد من سمك النبتة الأساسية وتغلظ من قطرها وتمكنها من الانتصاب قائمة فوق مجموعها الجذري فتزيد من قدرتها على مقاومة هبوب الريح وتبعد كل من الأعشاب الضارة والآفات وتضاعف من غلظها.

وهذه الآية جاءت في مقام التشبه لصحابة رسول الله في التفافهم حوله، وحبهم له وتلقيهم عنه وافتدائهم له بالنفس والنفيس فشبهم الله بالأشطاء حول النبتة الأساسية، ويأتي التشبيه في غاية الدقة والتعبير اللغوي والعلمي والنفسي ليشهد للقرآن الكريم بأنه كلام الله الخالق، ويشهد للنبي الخاتم الذي تلقاه بالنبوة والرسالة.

وعند حديث القرآن الكريم عن جمال جنتي أحد الرّجلين اللَّذين جاء ذكرهما في سورة الكهف، كان الاهتمام بعنصر الجمال واضحاً، وذلك من خلال ذكر الترتيب والتناسق اللذين كانت عليهما الجنتان.

حيث كان الزرع واحداً من أهم ما تجملت وتزينت به هاتان الجنتان، ويبرز الزرع في مكانه المناسب، كعنصر مهم في هذه اللوحة الجميلة التي قصد القرآن الكريم إبراز جمالها، قال الله تعالى: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ﴾ (الكهف : 32). إنه المنظر الرهيب والحيوية الدافقة، ترسمه الآية لهاتين الجنتين، “وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا”، جعلناها أرضاً جامعة للأقوات والفواكه، ووصف الجنتان بأنهما متواصلة، متشابكة لم يتوسط ما يقطعها، أو ما يفصل بينها إلا النهر الذي يضيف إليهما ما يزيد حسناً إلى شكلهما الحسن، وأناقة إلى ترتيبهما الأنيق.


مراجع البحث:

1- د. علي محمَّد محمَّد الصَّلابي، المعجزة الخالدة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، براهين ساطعة وأدلة قاطعة، دار المعرفة، بيروت . لبنان، 2013م، ص (129: 131).

2 – أحمد النظاري، الجمال الحسِّي في القرآن ، ص: 153- 154.

3 – الألوسي، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، دار الكتب العلمية ، بيروت، الطبعة الأولى، 1415هـ، (26 / 128).

4 – د. زغلول النجار، مدخل إلى دراسة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، دار المعرفة، بيروت. لبنان، الطبعة الأولى، 2009م، ص 300- 308.

5- الزمخشري، الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، دار الكتاب العربي ، بيروت، الطبعة الثالثة ، 1407 هـ، (1 / 709).

6 – سيّد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، القاهر، 2008م، (4 / 2270 – 2047).

7 – الشوكاني، فتح القدير، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب – دمشق، بيروت، الطبعة الأولى – 1414 هـ، (5 / 79).

8 – ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، ط2، 1420ه – 1999م (4 / 260).