إن المدقق في الأحاديث التي يخبر فيها النبي عن وقائع تحصل للمسلمين بعد وفاته أو في آخر الزمان يقف على دلالات مختلفة، ومقاصد متنوعة؛ فليست كلها تعبير عن دلالة واحدة ومقصد واحد كما قد فهمه فئام من الناس، وهو أن كل ذلك واقع على سبيل القدر المحتم، أو هو حتمية تاريخية لا بد منها، وكأن ما يقع – مما أخبر به - للأمة قدرٌ لا مفر منه ولا مهرب، بل ذلك يتنوع أنواعا: فمنه ما لا دخل للعبد فيه، ومنه ما  هو كسبي، له سبب من العبد. وفي هذه المقالة سأتناول فيها نموذجا من هذه الأحاديث، وهو حديث القصعة يخبر عن حال الأمة بعد النبي ، وهو قوله: “يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها… الحديث”.

نحاول فيها  كشف الدلالات والمقاصد الواردة في هذا الحديث. وقبل مناقشة هذا الأمر، أورد الروايات الواردة فيه، وهذه تساعدنا في استحضار المعاني والدلالات أكثر.

روايات الحديث وألفاظه

عن ثوبان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله : “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها”، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: “بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن”، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: “حب الدنيا، وكراهية الموت”[1].

وفي رواية: قال: قال رسول الله : “يوشك أن تداعى عليكم الأمم من كل أفق كما تداعى الأكلة على قصعتها”. قال: قلنا: يا رسول الله، أمن قلة بنا يومئذ؟ قال: ” أنتم يومئذ كثير، ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، تنتزع المهابة من قلوب عدوكم، ويجعل في قلوبكم الوهن”. قال: قلنا: وما الوهن؟ قال: “حب الحياة وكراهية الموت”[2].

وعن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله يقول لثوبان: ” كيف أنت يا ثوبان، إذ تداعت عليكم الأمم كتداعيكم على قصعة الطعام تصيبون منه؟” قال ثوبان: بأبي وأمي يا رسول الله، أمن قلة بنا؟ قال: “لا، بل أنتم يومئذ كثير، ولكن يلقى في قلوبكم الوهن ” قالوا: وما الوهن؟ يا رسول الله؟ قال: “حبكم الدنيا وكراهيتكم القتال”[3].

ومن أحاديث الباب

عن أسلم أبي عمران قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة، فحمل رجل على العدو، فقال الناس: مه مه لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: “إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما نصر الله نبيه، وأظهر الإسلام قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها”، فأنزل الله تعالى: ﴿وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة﴾ [البقرة: 195]، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد”، قال أبو عمران: “فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينية”[4].

وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله يقول: “إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم”[5].

– وفي رواية: قال – ابن عمر-: سمعت رسول الله يقول: “إذا – يعني ضن الناس بالدينار والدرهم – تبايعوا بالعين، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاء، فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم”[6].

فحديث ثوبان: “يوشك أن تداعى عليكم الأمم…” من النصوص التي تثير تأملًا عميقًا، وتدبرا دقيقا، وهو نص نبوي يكثر تداوله في سياق الحديث عن واقع الأمة الإسلامية وتحدياتها، غير أن تأويل هذا الحديث اتخذ مسارين مختلفين، وقراءتين متباينتين: قراءة جبرية، ترى في الحديث قدَرًا لا فكاك منه، وقراءة سننية، ترى أنه تحذير مشروط يمكن تجاوزه. وبين هذين المنهجين تتحدد طبيعة فهمنا للواقع ومسؤوليتنا تجاهه.

أولا: القراءة الجبرية

وهي قراءة تنطلق من فكرةٍ وقناعةٍ بأن ما يقع للأمة إنما هو قدر حتمي لا مهرب منه، وكل ما يجري لها هو واقع بها كما أخبر الني ، فلا تُكلِّف نفسها في التفكير أو المحاولة للخروج مما هي فيه لأنه يستحيل – في قناعتها – تغييره ، وكأن حديث النبي حكم عليها بالهوان والذل قضاء وقدرا، مع أن النصوص الكثيرة تخالف هذه الحال، ومنها قوله تعالى: ﴿وَأَنتُمُ ٱلْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين﴾. كما سيأتي بيان ذلك.

والقراءة الجبرية لهذا الحديث هو إعلان بالعجر، وتعطيل لقدرات المجتمع لرفع الهوان عن الأمة وإصلاح أحوالها، واستقالة عن المواجهة من أجل النهوض.

فهذه القراءة تغلق على أيّ فكرة للمبادرة برفع ما حل بالأمة من الانتكاسة، مع تبرير سبب العجر والهوان، فهي تعطي الانطباع للأجيال بأن الحركة من أجل التغيير عبثٌ، ومخالف للقضاء والقدر، بل تورثهم بذلك ثقافة مشوهة.

هذه القراءة ورّثت ثقافة العجر في الأمة، وكبّلت الطاقات من أجل السعي لاستعادة المبادرة للريادة والتمكين، وهي في الحقيقة صورة من “القابلية للاستعمار” في غطاء ديني عقدي.

وتعجب عندما تقرأ من بعض الطرق الصوفية أو المرتزقة إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر: “الاستعمار دخل بقدر ويخرج بقدر”، ومن ذلك قول بعضهم: (الله هو الذي وضع الجزائر تحت كنف حماية فرنسا.. اقتنعوا بقدركم ولا تصدقوا الأكاذيب، فالدين الإسلامي ينصحنا بأن نرضى بالقدر الذي يقسمه الله علينا)([7]). وفرنسا عملت على تثبيت عقيدة القدرية هذه في الجزائر، وما هذا المنهج ببعيد عن واقعنا اليوم..

لكن الحديث لم يدل على هذه القراءة المشؤومة، بل هو تقوّل على النبي وعلى شريعته.

ثانيا: القراءة السننيّـة

وهذه القراءة للحديث مبنيـّة على مقدّمات موضوعيّة ونتائج حتمية، وفيها تشخيص للواقع تشخيصا حقيقيا، نفهم ذلك من خلال سياق الحديث وما ثبت في بابه، فإنّ قوله : “حبّ الدنيا وكراهية الموت” هما السبب في التداعي، وكلّما وجدت هذه كان ذاك، فهي مقدّمات لنتائج، (معادلة سهلة، 1+1= 2)، وهذه سنّة الله في قيام الأمّة أو زوالها، في عزها أو هوانها. وأحسب أنّ كثيرًا مما أخبر به النبيّ مما يقع بين يدي الساعة من الفتن إنّما خرج مخرج التحذير منها، لا أنّها قدر وجبر لا يمكن دفعه ورفعه، وهذا الحديث واحد منها، يحذّرنا من الوقوع في أسباب التداعي علينا، وله شاهد في موضوعه وهو حديث ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله : “إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلّط الله عليكم ذلًّا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم”[8].. فقوله – -: “إذا تبايعتم”: مقدمة شرطية، وفيها معنى التحذير من الوقوع فيما ذكر، والمعنى أنكم إذا فعلتم ما أخبر به النبي من التبايع بالعينة، وحب الدنيا والحرص عليها وترك الجهاد في سبيل الله، فسيسلط الله عليكم الذل والبلاء، وهذه نتيجة حتمية، قال المناوي في معنى هذه  العبارة – “حتى ترجعوا إلى دينكم”- : (أي إلى الاهتمام بأمور دينكم، جعل ذلك بمنزلة الردة والخروج عن الدين لمزيد الزجر والتهويل)[9].

والحقّ أن هذه الأحاديث تندرج تحت سنّة مطّردة وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ﴾. [الرعد: 11].

بعض دلالات الحديث وإشاراته

  • مظاهر الوهن في واقع أمتنا اليوم شامل: للتدين والاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة والوعي والعسكر … الخ.
  • وصف الأمة بغثاء السيل مذمّة، لأن الغثاء من أوصافه الخفّة، فهي بلا وزن ولا إرادة، مع الوساخة يحملها السيل حيث جرى، لا قرار له إلا اتباع التيار حيث صار ودار.
  • ووصف الأمة بأنها غثاء كغثاء السيل متوجه إلى عموم الأمة، ولو كان فيها من ليس بتلك الأوصاف المذكورة، ولكن جرى الخطاب على الأغلب، والعبرة في هذا بمن غلب. فغثائية الأمة إنما هي تراكمات غثائية الأفراد.
  • الأمة اليوم قد قدمت نفسها -بإرادتها- طعاما على قصعة القوى الاستكبارية المعادية بسبب حالة الوهن التي أصابتها، فالجزاء من جنس العمل، ونتيجة حتمية لأسباب واقعية موضوعية. وهذا الوهن على حد تعبير الأستاذ مالك بن نبي هو: “القابلية للاستعمار.
  • وحب الدنيا وكراهية الموت – وهو الجهاد في سبيل أو القتال- إنما يعبران عن استقالة الأمة عن وظيفتها الرسالية، وردّتها عن شهودها الحضاري، ووأدها شرفَها المتمثل في وسطيتها وخيريتها.
  • و”حب الدنيا” بمعنى الحرص الشديد على تحصيلها، والسعي الحثيث من أجلها، وجعلها همًّا أكبر في الحياة، يستلزم كره الموت، لأن من أحب الدنيا عشق الحياة، وكره الجهاد حفاظا على الدنيا التي امتلكها طيلة العمر، قال ابن رسلان: (من أحب الدنيا وركن إلى مساكنها وملابسها وشهواتها، كره مفارقة ذلك، وكان ذلك سبب كراهية حلول الموت بساحته، فإنه قاطع للذاته، مفرق بينه وبين أحبابه، فجبن بذلك عن القتال المؤدي إلى إزهاق روحه، ومهما قلل من الدنيا، واستعمل فيها الخشونة هان عليه الموت، فأحب لقاء اللَّه)[10].
  •  الغثائية لا يمكن أن تكون قضاء جبريا أو قدرا حتميا على الأمة، بل ديننا يدعونا لعكس ذلك، قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾، [البقرة: 143]. وقال عز وجل: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110].، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾. [آل عمران: 139]. وقال جل وعلا: ﴿ فَلَا تَهِنُواْ وَتَدْعُوٓاْ إِلَى ٱلسَّلْمِ وَأَنتُمُ ٱلْأَعْلَوْنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَٰلَكُمْ﴾. [محمد: 35]. وقال سبحانه: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ ۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ﴾. [الفتح: 29]. إننا أمة نزلت فيها سورة الأنفال، وسورة الحديد، وسورة الفتح، وسورة القتال (محمد)، وسورة الصف، وسورة النصر، وليس فيها سورة الهزيمة أو سورة الفشل أو سورة النكسة أو النكبة…أمة يقول نبيها إبراهيم: “لا أحب الآفلين.
  •  لو نظرنا في تفسير المتقدمين للفظ الحديث” ولكنكم غثاء…” فإننا نجزم أنه لم يظهر لهم معناه كما نراه في الواقع، لأن السلف لم يعيشوا مثل هذه الغثائية، وما أحسبهم تصوروها البتة كما هي اليوم. ونقف – مثلا- على قول الحسن البصري– رحمه الله-: “اللهم إليك نشكو ‌هذا ‌الغثاء ‌الذي ‌كنا ‌نُـحدَّث ‌عنه، إن أجبناهم لم يفقهوا، وإن سكتنا عنهم وكلناهم إلى عي شديد، والله لولا ما أخذ الله على العلماء في علمهم ما أنبأناهم بشيء أبدا. قال ابن الأثير: (يريد أَرْذال الناسِ وسَقَطهم).[11] فعبر عن الغثاء بوجود أرذال الناس وسقطهم، فهو يرى أن الغثاء الذي كان يقرأه في الحديث ويتحدث فيه الناس في زمانهم إنما تفسيره ما حصل من جهل الناس وقلة وعيهم، وربما سوء سلوكهم. وكلام الحسن رحمه الله يكشف لنا عن  الحالة العامة التي كانت تسود في زمن السلف، فمثل هذه المظاهر كانوا يستعظمونه وتنكرونها ويتبرؤون منها، لأنها دخيلة على واقعهم، خارجة عن تقاليدهم ونهجهم، لكن لم يتصوروا حقيقة الغثائية كما هي جاثية على أمتنا بعد هذه القرون، فليت شعري لو عاش ورأى ما حل بهذه الأمة.. (لقد كان هذا الحديث ضربا من التنبؤ والاستحضار: استحضار صورة العالم الإسلامي بعد أن تتمزق شبكة علاقاته الاجتماعية، أي عندما لا يعود مجتمعا، بل مجرد تجمعات لا هدف لها كغثاء السيل، ولا ريب أن جيلنا الحاضر يدرك هذا الحديث أكثر مما كان يدركه أصحاب النبي- -، لأنه يصف في مضمونه العالم المستعمر والقابل للاستعمار)[12].
  • حالة “الوهن” حالة مرضية، تستدعي المعالجة السريعة؛ لأن كتمان المرض والتغاضي عنه أو تأخير علاجه قاتل لا محالة، وهذه المعالجة ليست فردية، بل هي جماعية، تبدأ بتقوية العلاقات الاجتماعية في الأمة، ومنها يمكن الانطلاق في طريق العلاج من النكبة التي أصابت الأمة، بإحياء أسباب القوة فيها، قال الإمام عبد الحميد بن باديس: (ما أصيب المسلمون في أعظم ما أصيبوا به إلاّ بإهمالهم لأمر الاجتماع ونظامه: إما باستبداد أئمتهم وقادتهم، وإما بانتشار جماعتهم بضعف روح الدين فيهم، وجهلهم بما يفرضه عليهم، وما ذاك إلاّ من سكوت علمائهم وقعودهم عن القيام بواجبهم: في مقاومة المستبدين وتعليم الجاهلين، وبث روح الإسلام الإنساني السامي في المسلمين. فعلى أهل العلم – وهم المسؤولون عن المسلمين بما لهم من إرث النبوة فيهم- أن يقوموا بما أرشدت إليه هذه الآية الكريمة[13] فينفخوا في المسلمين روح الاجتماع والشورى، في كل ما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم، حتى لا يستبد بهم مستبد، ولا يتخلف منهم متوان، وحتى يظهر الخاذل لهم ممن ينتسب إليهم، فينبذ ويطرح ويستغنى عنه بالله وبالمؤمنين)[14]. وتحدّث الأستاذ مالك بن نبي في هذا الحديث في سياق كلامه عن “المرض الاجتماعي”، قال: (فإذا ما تطور مجتمع ما على أية صورة، فإن هذا التطور مسجل كمًّا وكيفًا في شبكة علاقاته .. وعندما يرتخي التوتر في خيوط الشبكة، فتصبح عاجزة عن القيام بالنشاط المشترك بصورة فعالة، فذلك أمارة على أن المجتمع مريض، وأنه ماض إلى نهايته. أما إذا تفككت الشبكة نهائيا، فذلك إيذان بهلاك المجتمع، وحينئذ لا يبقى منه غير ذكرى مدفونة في كتب التاريخ. ولقد تحين هذه النهاية والمجتمع متخم بالأشخاص والأفكار والأشياء كما كانت حال المجتمع الإسلامي في الشرق، في نهاية العصر العباسي، وفي الغرب، في نهاية عصر الموحدين. وربما كانت هذه الحالة من التحلل والتمزق في المجتمع الإسلامي- حين أصبح عاجزا عن أي نشاط مشترك- هي التي أشار إليها قول رسول الله : “يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ – قال: لا … الحديث”[15].

والحاصل

أن هذا الحديث النبوي الشريف – وما ورد في بابه- لا يدعونا إلى التسليم بالهزيمة والهوان والرضا بالواقع المفروض، بل يبصرنا بأسباب الخلل ويحذرنا من الاستسلام والتراخي، وهو بذلك يقدم تشخيصًا منطقيا واقعيًا وحكيمًا لمراحل ضعف الأمة. والقراءة السننية لهذا الحديث ليست مجرد اجتهاد فقهي، بل هي استعادة لروح النبوة في دعوتها إلى الوعي بالسنن والتفاعل معها بالإيمان والعمل.

إننا بحاجة ماسة اليوم إلى تجاوز القراءة الجبرية المشؤومة الموروثة، واستعادة الفهم السنني المتجدد والمثمر، الذي يجعل من النص النبوي منارةً تُضيء طريق الإصلاح، لا قيدًا مكبِّــلا للإرادة والعزيمة.