بحضور ورعاية من سعادة الشيخ عبدالرحمن بن حمد آل ثاني وزير الثقافة القطري استضافت وزارة الثقافة في قطر مساء الخميس السابع من مارس ندوة بعنوان “مفهوم التعايش في الحضارة الإسلامية وأثره في بناء الأمة واستقرارها” تحدث فيها الداعية الجزائري الدكتور مبروك زيد الخير عضو المجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر وأستاذ اللغويات والبلاغة القرآنية وذلك ضمن النسخة الثالثة من موسم الندوات والمقام خلال الفترة من 6 إلى 9 مارس 2024م.

تعريف التعايش

واستهل د.مبروك زيد الخير كلمته بتوضيح التعريف اللغوي لمصطلح التعايش الذي رافق المسار العام للحضارة الإسلامية منذ ابنثاق النور الأول، فالخليل بن أحمد الفراهيدي في كتابه العين ذكر أصل كلمة التعايش قادمة من (عاش) ، (يعيش) والعيش تأتي أيضا بمعنى الحياة، ثم ذكر د. زيد الخير ما قاله الجواهري في كتابه الصحاح بـ “أنه التشارك في الحياة”.

ولفت د. زيد الخير إلى ورود الكلمة في القرآن الكريم بكلمة العيش فاستعمل لفظ (معيشة) واستعملها بلفظ (عيشة) في العديد من السياقات القرآنية، قال تعالى : { فمن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى } (طه : 124)، وكلمة معيشة { فأما من ثقلت موازينه * فهو في عيشة راضية } (القارعة 6 -7)  والمعنى هنا إنما يكون دلالة على ممارسة الحياة التي يدأب الإنسان مدار الزمان على تحقيق وجوده فيها عملا وأملا.

وأشار د. زيد الخير إلى  تعريف العلماء معنى التعايش الاصطلاحي على أنه اتفاق وتفاهم بين طرفين بما يسهم في أداء الحقوق والواجبات، كما لفت النظر إلى أن العبادة والاستخلاف وعمران الأرض بحاجة إلى عنصر فاعل وهو الإنسان، الأمر الذي يتحقق على إثره التعايش، والذي يعد تكريما لهذا الإنسان.

وأضاف أن الله سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان وأدخله الجنة قال له { اهبطوا } وكلمة اهبطوا وردت أكثر من مرة في سورة البقرة : { وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ } (البقرة :36)، وقال تعالى { قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } (البقرة : 38). والمعنى يجمع هنا أمرين اثنين : الإيمان والعمران، وهما أساسيان في تحقيق عملية التعايش لأن الإيمان هو مايكون في الوجدان الإنساني من التحقق بكمال الإله العلوي الذي يكون خشية وتقوى ودافعا وحافزا للعمل، والعمران تحقيق مراد الله  تعالى في عمارة الكون لأن الله تعالى قال: { هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } (هود :61) وتحقيق ذلك هو مناط الأمر كله.

واستشهد د. زيد الخير بقول الراغب الأصفهاني في كتابه المفردات بحاجة التعايش إلى تحقيق ثلاثة أمور:

  • عمران الأرض وتحقيق مراد الله في عمارتها.  

وهذه العناصر تحتاج إلى الإنسان لأنه جوهر هذه الثلاثية بشرط أن يكون صالحا حتى تحقق الغاية من التعايش.

 وقسم الدكتور زيد الخير التعايش إلى قسمين :

  • التعايش الذاتي: يكون داخل أمة الإسلام بين المؤمنين.
  • التعايش الإنساني: يكون مع غيره ممن يخالفونه في المعتقد.

وذكر د. زيد الخير الأسس التي يقوم عليها التعايش الذاتي :

  • التحابب وإفشاء السلام
  • حسن الجيرة
  • التعاون على البر والتقوى
  • الإحسان بن المتعايشين، قال تعالى { وأحسنوا إن الله يحب المحسنين } (البقرة : 195)
  • فاعلية الإنسان فعالية إيجابية تعود بالنفع على الفرد والمجتمع والإنسانية جمعاء.

التعايش في السيرة النبوية

استعاد د. زيد الخير الدروس والعبر المستخلصة من السيرة النبوية من بدايات بعثة النبي وما واجهه الرسول من أذى وعنت من المشركين، حتى إقامته للدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وتدعيمه لأواصر التعايش بين المهاجرين والأنصار، فأصبحت العلاقة بين أفراد المجتمع بعد ذلك قوية ومتينة، وزادت متانة من خلال المسجد الذي شكل رابطا جامعا لهم.

وأضاف إن الدين الإسلامي هو الخاتم لجميع الأديان وبالتالي يمكن اعتباره بمثابة الشمس المشرقة التي أشرقت حول كواكب منيرة في الكون وهي الديانات التي سبقته وهو دين الكمال والختام، وأن بعث النبي عليه الصلاة والسلام بالرسالة قد سبقه علامات كثيرة وقد بشرت به الكتب السماوية.

وتحدث د. زيد الخير عن مسألة هامة وهي أن الله سبحانه وتعالى أعطى للأمم السابقة كتبًا سماوية للفترة التي عاشت فيها تلك الأمم، بيد أن القرآن الكريم يحمل عناصر البقاء الى يوم القيامة، وليس من بعده كتب سماوية، بما فيه من معجزات وبلاغة وأحكام وما يجعل الإنسان يقف أمامه مندهشًا، مضيفًا أن الله سبحانه وتعالى اعطانا في هذا الدين ما يحقق لنا عزة النفس وعلو الهمة وارتفاع القامة.

وتطرق د. زيد الخير إلى نماذج من التعايش في التاريخ الإسلامي، مؤكدًا أن هذا التعايش انطلق من البيئة التي نبع منها الإسلام المتسامح، والتي تحولت بعد البعثة النبوية إلى خصوصية إسلامية خالصة، بعدما كانت الفوضى تعم المجتمع.

وأكد على نور رسالة النبي وهدايته وأن الله أعطاه من الكرامات والمعجزات وأيده الله بالقرآن الذي يحمل عناصر البقاء ويحمي رسالة النبي بما فيه من معجزات، ثم يأتي دور العلماء في حفاظ المسار على نهج النبي والتذكير به.

الفرق بين التعايش والذوبان

وتطرق  د. زيد الخير لكيفية التفريق بين التعايش والذوبان فقال إن الإسلام متين وصالح لكل زمان ومكان، فقد خلق الله البشر مختلفين، والاختلاف أمر طبيعي وموجود في فطرة الإنسان، والتعايش يضمن القدرة على تقبل الاختلاف، وهذه الصفة من سمات المؤمنين، ومن أجل ضبط العلاقة في التعايش يجب أن تكون قائمة على علاقة { لكم دينكم ولي دين} (الكافرون : 6) فلا يمكن التخلي عن مبادئ الإسلام وقواعده ولا عن أحكام الشريعة لكن في ذات الوقت تبقى العلاقة مع الآخر في إطار الإحسان والعلاقة الطيبة.

وأوضح أن الرسول كان يغرس معاني الإيمان في نفوس الناس، ومن هنا وجب علينا الاقتداء بأخلاقه وتعاملاته، مشيرًا في الوقت ذاته إلى أن الدعوة لله هي تحقيق لمراده من أجل إيصال فضائل الإسلام شريطة ألا يكون بغلظة مع بقاء عزة المسلم وتشبثه بقيمه.

وأعاد د. زيد الخير التذكير بالأسس التي قامت عليها الحضارة الإسلامية منذ عهد النبوة والخلفاء الراشدين مرورا بالدول التي تلاحقت حيث عاش المسلمون في مناخ متشكل من فسيفساء تعبر عن مختلف التوجهات والآراء والأفكار.

ولخص أسباب قيام هذه الحضارة إلى ثلاثة أركان :

واستشهد د. زيد الخير بقصة التقاء كارل بروكلمان بصديقه شكيب أرسلان في قصر الحمراء بالأندلس وتعجب شكيب من التفرد في إقامة هذه الحضارة، فرد بروكلمان قائلا : أقام المسلمون الحضارة عندما كانوا خلائف وضيعوها عندما صارت طوائف.

وشدد د. زيد الخير على حاجة الأمة لقوة في تماسكها وعلمها مع ضرورة التمسك بكتاب الله وسنة رسوله، مؤكداً أن المساهمة في بناء الأمة أمر مناط به كل فرد من أفراد المجتمع، وحجر أساس هذا البناء هو إصلاح النفس.

وختم د.مبروك زيد الخير كلمته بالحديث عن وثيقة المدينة مؤكدًا أنها أعطت الحقوق لجميع الأطراف، ونبه إلى أهمية العودة إليها وللأصول التي بناها نبينا الكريم في تلك الوثيقة المهمة والحاجة لاستخلاص المنافع وإسقاطها على واقعنا.