سنة الله في الهدى والضلال: شاءت حكمة الله تعالى أن يخلق الناس مختلفين، وابتلاهم وأعطاهم القدرة على الاختيار بين الهدى والضلال، ليُعين من يتجه منهم إلى الهدى على الهدى، وليمُدّ من يتجه منهم إلى الضلال في غيّه وعمايته. وحكمته وسُنَّته تبارك وتعالى في عباده أن يُكَلِّفهم اختباراً لهم، ويوضح الطريق لهم، ويقيم الحجة عليهم، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضلّ فعليها.

على أن الله جلّ ذكره قادر على أن يخلق بني آدم ابتداءً بطبيعة لا تعرف إلا الهدى، أو يُقهرهم على الهدى: ﴿فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأنعام: 149]. ولكنه سبحانه وفق حكمته البالغة والتامة شاء غير هذا.

ومن الملفت للنظر أن قضية الجبر والاختيار في أفعال العباد قضية قديمة جديدة، تناولها الفلاسفة في كل عصر، ولم ينتهِ الجدل فيها في أية فلسفة أو لاهوت إلى نتيجة مريحة؛ لأنه جدل يتناول القضية بأسلوب لا يناسب طبيعتها، وبعيد عن مصدر الوحي الذي بيّن الحق في هذه القضية.

فالجبر والاختيار في أفعال العباد يُفهم من خلال سُنَّة الله تعالى في الهدى والضلال، ومن خلال التمييز بين الأمر القدري الكوني والأمر القدري الشرعي. فالله جلّ ثناؤه شاء ابتلاء العباد، ولو شاء غير هذا لكان. ومن هنا جعل سبحانه وتعالى في الإنسان قابلية للخير والشر، والهدى والضلال، كما قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس: 7-8] وقوله عزّ من قائل: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: 10].

والناس يهتدون ويضلون بإرادتهم ووعيهم وفق مشيئة الله تعالى في الابتلاء. فمن أراد الهدى سلك طريقه، وجاهد نفسه، وثبت على الدين، واستمسك بالحق. ومن أراد الضلال، وأتبع نفسه هواها، سلك سبل الشياطين، وتمنى على الله تعالى الأماني حتى يأتيه اليقين وهو في درب الغواية.

على أن كتاب الله تعالى يُفسر بعضه بعضاً، ويُصدق بعضه بعضاً. لذلك ينبغي الجمع بين أطراف الأدلة لمعرفة الحق في هذه القضية. فقوله تعالى: ﴿وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ [فاطر: 8] يُفسره قوله تعالى: ﴿وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾ [الرعد: 27]. وقوله تعالى: ﴿فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ﴾ [فاطر: 8] يُفسره قوله تعالى: ﴿وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ﴾ [إبراهيم: 27]. وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ﴾ [التوبة: 115]، يُفسره قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: 5].

فالناس يفعلون أفعالهم حقيقة والله يخلقها، ولا يقع شيء في كونه بغير مشيئته، ولا يُحاسبهم على غير مشيئتهم. ففطرة الإيمان التي فطر الله تعالى الناس عليها هي ما وضعه فيهم من إمكانية التعرف على الحق والاهتداء إليه، إذا ما دُعوا إليه من خلال عمل البصيرة والعقل والتأمل والنظر، فيُساق لهم الهدى بما لا يدع مجالاً للريب، ولا يقطع عليهم مع ذلك طريق الالتواء لو أرادوه، لتتحقق فيهم سُنَّة الابتلاء، وأن يكون إيمانهم نتيجة لعمل بصائرهم.