من الدعوات الجميلة التي كنا صغاراً نسمعها من الشيخ يوسف القرضاوي، وهو يبدأ برنامجه الأسبوعي “هدي الإسلام” بتلفزيون قطر: “اللهم يا معلّم آدم وإبراهيم، علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما”، انطلاقاً من الوصية الإلهية لنبيه الكريم –صلى الله عليه وسلم– الاستزادة من العلم (وقل رب زدني علما)، وفيها إشارة إلى أن قطار التعلم عند الإنسان لا يتوقف، بل لا يجب أن يتوقف، طالما في الإنسان بقية طاقة وقدرة على التعلم وطلب الاستزادة، أو هكذا نفهم الإشارات القرآنية الحاثة على العلم والتعلم.

من قال أنا عالم فقد جهل. أو هكذا نص الحديث –بغض النظر عن درجة صحته– لكن معناه صحيح وواضح؛ إذ لا يمكن لأحد أن يقول عن نفسه عالم، دون تحديد مجال واختصاص معين دقيق. كما أنه لا يمكن لإنسان في هذا العصر الزعم بأنه اكتفى من العلم، أو ليس بحاجة لأن يتعلم أكثر مما تعلمه.

نعم قد يصل المرء منا إلى حد عميق في تخصصه، لكن ماذا عن بقية التخصصات والعلوم والمعارف؟ لا أقول بالطبع أن يتعلم كل العلوم كما يتعلمها المتخصصون فيها، ولكن شيئاً من كل شيء، تماماً كما أخذ تقريباً كل شيء من شيء واحد، في إشارة إلى التخصصية.

موسى والخضر

في سياق التزود بالعلم، يضرب القرآن لنا مثلاً بنبي الله موسى عليه السلام حين جاء يوماً فخطب أمام حشد كبير من بني إسرائيل، ثم سأله سائل: هل هناك من هو أعلم منك يا موسى؟ فأجاب دون تردد: لا. إجابته السريعة تلك ربما لاعتقاده أنه لم يكن هناك على الأرض حينها أحد غيره له صلة بالسماء يأتيه الوحي من الله، وبالتالي هو يعرف ما لا يعرفه بقية البشر.

لكن الله أوحى إليه فوراً أن يا موسى: هناك من هو أعلم منك. فتعجب من ذلك وسأل الله أن يدله على ذاك الذي هو أعلم منه. فكانت قصته مع الخضر -عليه السلام- الذي اتفق المفسرون على أنه كان نبياً كُشف له عن بعض ما في الغيب، فحدثت الوقائع الثلاث معه، كما جاءت في سورة الكهف: إتلاف السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار، وهي مفسرة مفصّلة لمن أراد قراءتها والاستزادة فيها.

من هنا يتبين لنا أهمية الاستمرار في التعلم أو التعلم مدى الحياة ، وهي مفاهيم انتشرت في السنوات الأخيرة، تفيد كما هو واضح دون كثير شروحات، أن المرء لا يجب أن يقف عند حدود معينة في العلم، إنما عليه الاستمرار في التعلم إلى الدقيقة الأخيرة من حياته -إن كان حينئذ على وعي وقدرة كافيتين- لكسب علم جديد. وقد جاء عن الفاروق عمر- رضي الله عنه- قال: “لا تتعلَّمِ العلْم لثلاث ولا تتركهُ لثلاث.. لا تتعلَّمه لتتمارى به، ولا لتُباهيَ به، ولا لتُرائيَ به، ولا تتركهُ حياءً من طلبه، ولا زهادة فيه، ولا رضاً بالجهل به.

هل لرحلة التعلم نهاية؟

حتى تتعلم من الآخرين، لابد أن تتوفر في طالب العلم عدد من الصفات. أهمها، وجود شغف وحب مستمرين نحو التعلم. البعض منا قد يكتفي عند بلوغه نقطة معينة، وتحقيق هدفه من التعلم، أو بلوغ منصب معين، أو تحقيق نجاح وإنجاز كان يهدف الوصول إليه. فيلجأ بعد ذلك الإنجاز إلى ما يسمى بمنطقة الراحة عنده، فيتوقف عن التعلم، مكتفياً بما اكتسبه، معتقداً وصوله لنهاية رحلة العلم.

ذلكم خطأ يرتكبه كثيرون، لأن رحلة العلم والتعلم في الأصل لا تتوقف، بل لا نهاية لها (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)، وهي إشارة قرآنية واضحة إلى أن رحلة العلم والبحث لابد لها من الاستمرار، لأن مجال العلم أوسع مما يمكن تخيله، وبالتالي من يرغب في تطوير نفسه واستمرار نموه العقلي والذهني، عليه التنبه لهذه الحقيقة الكونية، وعدم ترك قافلة أو قطار التعلم أبداً.

من الصفات الأخرى المطلوبة في طالب العلم والراغب في استمرار التعلم، ضرورة تقدير الآخرين وعدم التقليل من شأنهم في مسائل التعلم. فقد تحضر مثلاً، ندوة ربما يكون المتحدثون فيها أقل خبرة وسناً منك، فتعتقد أن حضورك مضيعة للوقت. فما الإضافة التي عند هؤلاء يقدمونها لك، أو هكذا يراودك شعور الفوقية ولو للحظات سريعة.

لكن قد تتمالك نفسك وتضبطها فتدخل وتحضر وتستمع إليهم، فتذهلك معارفهم وخبراتهم، لتخرج بعدها وقد أضفت إلى حقيبة خبراتك الحياتية والعلمية الكثير الكثير، والسبب هو ضبطك لذاك الشعور السلبي، أو شعور التعالي على الآخرين ممن هم أقل خبرة وسناً منك، وتواضعك في طلب العلم. تماماً كما حدث مع نبي الله موسى -عليه السلام– الذي دفعه تواضعه مع الخضر لتعلم حكم ودروس معينة قصيرة، وكان بالإمكان أن يزيد عددها لو كان قد تحلى ببعض الصبر على مشقة التعلم مع الخضر، كما ورد عن النبي الكريم –صلى الله عليه وسلم-: “رحم الله أخي موسى، لو صبر لأرانا من عجائب علم الله عند الخضر عليه السلام“.

التواضع والصبر

مما سبق يتبين لنا أهمية التواضع في طلب العلم وأهمية الصبر أثناء التعلم. وهما دعامتان أساسيتان لأي رحلة تعلم ونمو مستمر ناجحة تريد القيام بها، والبحث عن أصحاب القدرات والمهارات التي لا تمتلكها، أو لم تحظ بفرصة لكسبها وتعلمها.

إن استطعت أن تتصل بصاحب مهارة أو علم محدد، ولو كان في سن أصغر منك، وطلبت أن تتعلم منه بصورة وأخرى، ووافق برحابة صدر على ذلك، فهذا إنجاز لابد أن تتواضع وتصبر وتحرص عليه وتستمر فيه. حاول إذن أن تتعلم من أي أحد، أي شيء مفيد. ولا تمنعك مشاعر المكانة الاجتماعية أو المادية أو حتى السن أن تتعالى وتتكبر، لأن الخاسر هاهنا هو أنت لا أحد غيرك.

حتى تتعلم أو تكسب علماً، لابد أن تصفي نفسك من كل موانع عدم التعلم، وأهمها روح الكبرياء، كما أسلفنا، أو التعالي لأي سبب كان. لا يمكن أن تتعلم وأنت لا تحترم وتوقر من يعلمك، بغض النظر عمن يكون هذا المعلم. ولن ترتقي بما تعلمته إذا اعتقدت لحظة واحدة أنك اكتفيت من العلم. وكلما تواضعت تعلمت أكثر فأكثر.. وهذا لب حديث اليوم.