نعيش اليوم في عالم سماته أن الحكم ليس ثيقراطيا دينيا يلتزم به المتدين وغير المتدين، وأن للشعب الحرية في اختيار دينهم وإن خالف دين الملك والزعيم؛ وذلك خروجا من صراعات طائفية أو دينية لو انطلقنا من أن الحكم ديني؛ إذ بأي دين ستُحكم الدول المتعددة الأديان. فالأمر متروك للناس يختارون ما يرون، وذلك وفق فلسفة الحضارة السائدة والغالبة. وعليه في الوقت الذي تأتي قرارات بعض الدول المتبعة لهذه الفلسفة ضدّ فرض دين معين على الشعب –وإن كان هو الدين الصحيح بنظرهم- نجد أن بعض قرارات هذه الدول تدعم الدين من أجل الدين أو لمبدأ آخر تتفق الدول فيها مع الدين.
أنطلق من هذا لأنه يتفاعل مع “حوار الأديان” أفراد ناشطون ومؤسسات مجتمع مدني، فاعلة في مجال حقوق الإنسان، وحل الصراعات والأزمات والعلاقات الدولية، العاملة على إقرار السلم والحرية والتعايش ومراعاة التعددية، وهي معاني جميلة بمجملها تتوافق مع الفطرة وتنسجم جملة مع تعاليم كافة الأديان، إلا أن هناك أمورا قد تشوب صفاء هذه الدعوات الجميلة وتعدّ شوكة في عصر حراك حوار الأديان، سيطرح الباحث بعض هذه التحديات ومعوقات حوار الأديان وبعض الحلول التي قد تكون مخرجا لهذه التحديات:
1- إشكالية التسمية والمفهوم: لعل من أكبر التحديات وأول عائق دون هضم البعض “حوار الأديان” هو نفرة البعض من المصطلح، وتوجسّهم التسمية، نتيجة سوء فهم المصطلح، أو لأجل الحكم النمطي السابق لديه. فمجرد سماع مصطلح “حوار الأديان” يحدث ما لا يحدثه سماع نظائره الحاملة لنفس الفكرة والمعنى، مثل: “حوار الثقافات” “حوار الحضارات”، “المفاوضات” “حل الأزمات” “العمل الإنساني” “علاقة المسلم مع غير المسلم” علما أن كلها مصطلحات تقابل “صراع الحضارات والثقافات والأديان. ومن هنا يرفض البعض طرح برنامج ومساق دراسي باسم “حوار الأديان”، لكن بتغيير الاسم إلى “حوار الحضارات” فسرعان ما يقبل علما أنه هو هو. فهو حساسية المصطلح والتسمية وعدم الإلمام بالمفهوم.
ويعالج هذا التحدي بالمنهج العلمي الذي دعى إليه الإسلام، بالتعرف على حقيقة المصطلح ومن ثم عرض مفهومه على الكتاب والسنة والمفاهيم الإسلامية الأخرى. والمنهج العلمي يقول لا تحكم على الكتاب من عنوانه، والعبرة بالمفاهيم ولا مشاحة في الاصطلاح.
2- خلط بعض الناس بين مصطلح “حوار الأديان”، وبين غيره من التحديات و المعوقات الجسيمة أيضا، وهو ثمرة التحدي والمعوق السابق. وهو نتاج ظن بعض الناس أن “حوار الأديان” يعني “وحدة الأديان” “صحة جميع الأديان” التنصير” التبشير” “الإبراهيمية” وعلما أن الأخير مصطلح جديد عمره أقل من ثلاث سنوات. بينما “حوار الأديان” موجود كمصطلح أكثر من مائة سنة. وما قيل في النقطة السابقة يصلح جوابا لهذه النقطة.
3- أبطال حوار الأديان ليسوا متدينين بالضرورة: المهتمون عالميا بحقول حوار الأديان في الدول الغربية خاصة ليسوا بالضرورة أن يكونوا متدينين ناهيك على أن يكونوا من رجال دينٍ. إذ الاهتمام بالحوار بين الأديان ينبع من كونه وسيلة من وسائل التعايش السلمي، وحل الأزمات والصراعات، وتحسين العلاقات الدولية، والتخفيف من حدة الحروب والصراعات. ويستأنس ويستفاد في سبيل تحقيق ذلك من كل من يعين على ذلك بما في ذلك القادة الدينيين والأكاديميين.
قد يلاحظ أن الانطلاقة الكبرى هنا هو الحرية والعدالة ومبادئ العصر. وهذا النوع من التحدي يكمن في أنه باسم حوار الأديان قد يتم الدعوة إلى ما قد يتعارض مع مبادئ بعض الأديان أو أكثرها، إما جهلا بالأديان كما قلنا، أو تغليبا لمسمى حقوق الإنسان ومبادئ العصر. يعالج مثل هذا التحدي باهتمام المتخصص بالمجال وعدم إعراض المسلم عن هذا الحوار، وعليه، فقد يكون الخوض فيه فرض كفاية. ولا أحسب أن الإعراض عن حورا الأديان لأجل هذا يخدم الإسلام، بل بالعكس يتم التعاون بالبر لأن يغلب الخير الشر ولئلا يتفرد الآخر بالساحة.
4- خوض غير متخصصين في هذا الحقل: نجد في الجامعات وجود الكثير من المواد التي ليس لها متطلب سابق، فيمكن أن يسجله الطالب ابتداءً، لكن هناك بعض المواد التي لا ينبغي للطالب أخذها إذا لم يأخذ المواد التي تسهّل عليه فهم المادة، ويسمى متطلب سابق. فالمنطق وعلم الكلام ومسمى الفلسفة لا يخوض فيه أكثر الناس، والقلة الذين يفترض أن يخوضوا فيه ضرورة وكفاية لا بدّ أن يكونوا مسلحين ومؤهلين لما يحقق لهم سبب خوضهم فيه. حوار الأديان ليس موضوع كل الناس، وإن كان متخصصا في الشريعة والفقه والحديث. ويعالج هذا التحدي بالاستماع إلى أهل الذكر في الموضوع، وليس كل شيخ يمكنه الإفتاء فيه، وهذا يعني احترام التخصص.
5- ظواهر الإساءة إلى الأديان: في حين يجتمع الناس في القاعات الفارهة ويتحدثون عن حوار الأديان ومسائله، وفي وقت يتناول الإعلام موضوعات الحوار والدعوة إلى التعايش، نجد أن يمينيا متطرفا وإرهابيا يقوم بعكس ما يقال في هذه القاعات، فيُهين رمزا دينيا، أو يحط من مكانة ما هو مقدس في دين ما. مثل هذه الظواهر الشاذة -نعم هي شاذة لأن الأغلب ضده بما في ذلك دين الشخص الذي قام بالإساءة- تلفت أنظار بعض الإعلاميين والمشاهير فينسفوا بها الجهود الكبيرة التي حققها الحوار في سنوات، ويصطاد البعض في هذا الماء العكر معرضا عن الإنصاف والموضوعية. ومثل هذا مثل من قال: لماذا توجد الحوادث رغم وجود إشارات المرور وقوانين السير وما يضبطه، ولماذا لم يؤمن الناس كافة بمحمد ﷺ علما أنه نبي ومبعوث بحق من عند الله؟!
ويعالج هذا التحدي بأن يتخلى الناس عن هذه الشرذمة التي عرفت بالتطرف والإرهاب، وأنهم ليسوا سواء، وأن الدعوة إلى التعايش لا يضمن أن الكل يكون آذانا صاغية لهذا. وإن الدعوة إلى حوار الأديان بنفسه حلّ لهذه الظواهر ونبذ خطاب الكراهية والعنف والتمييز.
6- قرارات بعض الدول ضد بعض الأديان: نجد أن بعض الدول العلمانية تقنن بعض ما يسيئ إلى الإسلام مثلا، وبخاصة في قضايا متعلقة بالمرأة ومسمى الحريات، ثم تقوم بعد ذلك بأشهر بأنشطة عن حوار الأديان، أو تشارك في فعاليته. وهنا ينسف البعض فكرة الحوار بمثل هذا معرضا عن إيجابيات الحوار وفوائده ونتائجه الكثيرة. وما قيل في النقطة السابقة يصلح جوابا لهذه النقطة.
7- التفسير المؤامراتي لحوار الأديان: يضرب بعضُ الناس بعرض الحائط الكتاباتِ العلمية والأكاديمية المعنية بتعريف حوار الأديان وبيان مفهومه وأهدافه وأهميته. ويستنبط ويحلّل ما ليس من السهل وقوف عامة الناس عليه، وأو يصطد في ماء عكر. فيحاول البعض هدم حوار الأديان بأنه فكرة يهودية، والآخر يقول فكرة نصرانية تبشيرية، ويقول الثالث هو عبارة عن نسف الأديان كافة وإشاعة الفوضى وتذويب الفوارق بين الأديان، ليقول لك رابع هو أجندة خفية لكذا وكذا. وليت شعري أين الكتابات العلمية والأكاديمية من كل هذا، وليت شعري هل الاكتفاء بالظاهر مطلب إسلامي هنا أم لا بدّ من الخوض فيما لا علم للناس به؟!
8- تنزيل آيات قرآنية صحيحة في غير مكانها: هل أستخدم المصطلح العلمي وأقول مغالطة؟! لنقد “حوار الأديان” نجد أن البعض يتلوا آيات من الذكر الحكيم هي في سياق الحديث عن أمور بعيدة عن مجال حوار الأديان، الحق والباطل، أو الدين الصحيح والدين الباطل، أو الكفر والإيمان. أو يحاول البعض التفريق بين الدين والشريعة، ويبين أن شريعة الإسلام ناسخة لكل ما قبل بعثة محمد ﷺ. وهذه الأمور من المسلمات، وكأن حوار الأديان يقول شيئا مغايرا. وسبب هذه الإشكالية كذلك يرجع إلى عدم معرفة مفهوم حوار الأديان، أو تفسيره تفسيرا مؤامراتيا، أو خلطه بغيره. وإلا حوار الأديان لا يستلزم شيئا من ذلك.
ومن المغالطات أيضا قول بعضهم بأن الدين لا يسبب صراعا ولا حروبا بين الناس، بل الاقتصاد والمصلحة والسياسة وغيرها. وكل من تتبع تاريخ الحروب يدرك أن الدين من أهم الصراعات الداخلية أو الخارجية بين الناس. وإذا كان حوار الأديان يسعى لتخفيف حدة الدين في الحرب بين الناس، وأن لا يتخذ الدين مطية حقد وكراهية لا مبرر لها بين الناس؛ لا يعني عدم بحث حلولٍ عن الأسباب الأخرى للحد من الصراعات الأخرى التي تنشأ لعامل آخر غير ديني، وتلك الحلول لا تمنع مساعي الحوار بالنظرة الشمولية والتكاملية.
9- تردّد الكثير من مسائل تعامل المسلم وعلاقته بغيره اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا في الفقه الإسلامي بين رأيِيْ التيسير وغيره: أغلب قضايا علاقة المسلم مع غيره، وما يعرف بالسياسة الشرعية يندرج في الفقه الإسلامي لتحديد تدين المسلم. وكل من قرأ الفقه المقارن يجد أن أغلب هذه القضايا مسائل اجتهادية، مختلف فيها بين المدارس الفقهية، وهي تتردّد بين الرخصة والعزيمة في الموقف أو التيسير والتشدد كما يروق للبعض. يلاحظ أن بعض الآراء السلسلة التي تتوافق مع روح العصر ومبادئه (ولا يشترط التصادم مع الإسلام)؛ أدعى لتأييد فكرة حوار الأديان والانفتاح على الآخر دن ذوبان، بينما الرأي الآخر ليس لصالح الحوار بتاتا ولا روح العصر. الشاهد أن من تبنى الرأي الذي يبني علاقة المسلم مع غيره في دائرة القوة لا السياسة (الجزية أو القتال) يرى أن الحوار ميوع ومحاربة الإسلام وهدمه. ومن أمثلة ذلك: مسألة الأصل في علاقة الإسلام مع الآخر، هل هو الحرب ليكون الدين كله لله أم السلم فتكون الدعوة هي الأاصل.، وكذا مسألة إخراج كل من ليس بمسلم من الجزيرة العربية، ومسألة عدم السماع ببناء كنائس للأقليات في المجتمع الإسلامي ويجب هدمه دون التفريق بين مكة والمدينة، وبين الدول التي فتحت والتي لم تفتح، أو الدول التي فتحت عنوة أو صلحا.. إلخ.
10- دعوات بعض هذه المؤسسات إلى ما قد يتعارض مع تعاليم الأديان نفسها: ومن تحديات حوار الأديان أن بعض المؤسسات الحقوقية أو القانونية (غير المختصة في الدين) قد يطرحون موضوعات للنقاش ويسعون إلى تبني مبادرات هي قد تكون ضد تعاليم الأديان نفسها، علما أن مبادراتهم تصدر باسم الحرية الدينة والتعددية والتسامح. حلّ هذا التحدي هو أن النية طيبة ومنطلق الأمر هو الإخلاص – أو لنقل الحرص- إلا أن هذا الإخلاص والطيبة والنية الحسنة خالف الصواب بعدم تماشيه مع الدين وتعاليمه، فيحل بالوقوف على رأي الأديان في هذا، والوقوف عنده.
11- تركيزها على مناطق معية: من الملاحظ أن المؤسسات الأول لحوار الأديان كان في الدول الغربية، وهذا هو المعهود في الكثير من المبادراة نتيجة الحضارة السائدة، ولعل مبادرات الدول الغربية إلى ذلك مبررة بحكم عنايتهم بحقوق الإنسان وبوجود مؤسسات المجتمع المدني النشطة. لكن وجود المركز في بعض المجتمعات التي لا توجد فيها التعددية الدينية، محل نظر. كما أن غياب هذه المبادرات في القارة الإفريقية وفي شمال شرق آسيا وهي مجتمعات متعددة الأديان والأعراق محل نظر كذلك.
13- استغلال كل دين الحدث: من آخر ما يذكر من معوقات حوار الأديان أن السمة الكبرى للحوار هو العمل على المشترك الإنساني ونبذ العنف والإرهاب، وألا يتخذ الدين مطية بثّ الكراهية والشحناء بين الناس. لكن والأديان تخوض في هذا وتبين موقفها الإنساني من القضايا ذات صلة تضفي صورة جمالية وإعجاب لدينها لتظهر في نسيج جمالي مرونق وفريد. ولا شكّ أن هذا يحمل دعوة غير مباشرة للدين بالتعريف الذي تمّ. مثلا، الدعوة في الإنسان تأتي بمعنى البيان والبلاغ المبين. فكل بيان عن الإسلام للناس دعوة. وهذا الأمر صحيح في الأديان الأخرى. ويحلّ هذا الأمر بالتفطن لهذا، وأن يعدّ لهذه المهمة رجال متخصصون لا تلهيهم تجارة ولا بيع.
أخيرا، إن كان الحوار بشقيه الحضاري والديني مطلب عصري بحكم الانفتاح على الآخر نتيجة الثورة المعلوماتية والتقنية التي جعل من العالم قرية صغيرة، وإن كان الحوار يحمل جماليان التعرف على المشترك الإنساني بين الأديان، ويسهم في تذليل الصعاب بين الاديان، ويحدّ من العداء غير المبرر، ويسهم في أن تكون للأقلية المسلمة في الغرب صوت يسمع، ويتقدمون لبناء مساجد وفتح مراكز إسلامية وينظر إلى قضايهم بحكم الحرية الدينية والتعددية الدينية؛ فإنه لا يخلو من معومات، منها ما ذكر أعلاه.