ليوم بدر في قلوب المسلمين وفي التاريخ الإسلامي مكانة عظيمة؛ فقد سماه الله تعالى يوم الفرقان ومنح لمن حضر هذه اليوم منحة لم ينلها غيره { لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الجَنَّةُ} [1]، وكأن الله تعالى غفر لهم الذنوب الماضية ووعدهم بمغفرة ما يقع من ذنوبهم في المستقبل إذ سيوفقهم تعالى للتوبة.
هذا اليوم لازالت له تجلياته فيما ينبغي أن يكون عليه سلوك المسلمين؛ فليست بدر معركة حربية حدثت فيها مكاسب وخسائر على كافة المستويات، وإنما فيها قيم هي سبب لكل نصر مهما تغيرت ملابسات المعارك وزمنها ،وفيها مفاتيح ينبغي أن نمتلكها حتى نستطيع أن نفك المغاليق.
أولها قبل أن تبدأ الصراعات في العالم يبدأ صراع الإرادات، فإذا امتلك الإنسان إرادته وأعد عدته وطلب من الله المعونة انتصر بتأييد الله تعالى له. والصيام – مع غيره من العبادات – يربي الإرادة ويقوي العزيمة، لكن شياطين الإنس والجن كثيرا ما يوسوسون: إن الباطل قد باض وفرخ وغرس جذوره في الأرض وكل جهد في إزالته واستعادة الحق جهد ضائع، وهذا الوهم يكذبه القرآن {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد: 17] ويكذبه الواقع، فكم هي الإمبراطوريات التي ملكت ثم زالت وذهبت أيامها ليقوم مكانها إمبراطورية أخرى وليدة فيها ما في الوليد من ضعف لكنها تقوى شيئا فشيئا حتى تثبت أقدامها {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران: 140].
ثانيها: أن النصر من عند الله تعالى، وما الأسلحة و الجنود إلا أدوات قد توصل إلى النصر وقد تكون سببا في الهزيمة ،فقد دخل المسلمون معركة بدر وغيرها من المعارك وهم أقل من عدوهم في السلاح والعتاد، ومع ذلك انتصروا ولم تكن أسلحة عدوهم بحامية لهم من الهزيمة، ذلك أن السلاح لا يقاتل وحده مهما كان ذكيا ومتطورا ،مع التأكيد على أن المسلمين قد أخذوا ما يمكنهم من الاعداد والاستعداد استجابة لأمر الله تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ } [الأنفال: 60] واعتقاد المسلمين أن النصر من عند الله تعالى جعلهم يستغيثون بربهم {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال: 9، 10] ومن قبلهم استغاث النبي ﷺ بربه حتى أشفق الصديق عليه وقال: (يَا نَبِيَّ اللَّهِ , كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ)[2].
ولم يكن طلب النصر من الله تعالى من خلال الاستغاثة والدعاء فحسب، بل كان بإعمال القيم الإسلامية وإعلائها ومن هذه القيم الوفاء، خرج حذيفة بن اليمان مع أبيه فلقيهما المشركون فقالا لهما: إنكما تريدان محمدا. قالا: ما نريد إلا المدينة،قال حذيفة: فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله ﷺ فأخبرناه الخبر، فقال: نفي لهم بعهدهم ونستعين بالله عليهم)[3] لقد احترم المشركون عهد الله وميثاقه وسمحوا لحذيفة وأبيه أن يذهبا، فكيف لا يحترمه النبي ﷺ؟ وتكلفة الوفاء أقل من تكلفة الخيانة فالله تعالى لا يحب الخائنين وإذا أبغضهم فكيف يمن عليهم بالنصر والتأييد؟!
بعد الاستغاثة والوفاء انظر إلى المعونة التي أنزلها الله تعالى على المسلمين {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ } [الأنفال: 11] وانظر إلى آثار القوة التي بدت على جيش المسلمين، قال عمير بن وهب الجمحي وقد أرسلوه ليستطلع قوة المسلمين ويقدر عددهم : “يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، الْبَلَايَا[4] تَحْمِلُ الْمَنَايَا، نَوَاضِحُ يَثْرِبَ تَحْمِلُ الْمَوْتَ النّاقِعَ، قَوْمٌ لَيْسَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا مَلْجَأٌ إلّا سُيُوفُهُمْ! أَلَا تَرَوْنَهُمْ خُرْسًا لَا يَتَكَلّمُونَ، يَتَلَمّظُونَ تَلَمّظَ الْأَفَاعِي! وَاَللهِ، مَا أَرَى أَنْ يُقْتَلَ مِنْهُمْ رَجُلٌ حَتّى يَقْتُلَ مِنّا رَجُلًا، فَإِذَا أَصَابُوا مِنْكُمْ مِثْلَ عَدَدِهِمْ فَمَا خَيْرٌ فِي العيش بعد ذلك! فارتأوا رَأْيَكُمْ! [5]
إن الرسالة الخالدة من هذه المعركة الفاصلة والتي ينبغي أن نستحضرها على الدوام { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [آل عمران: 123] أذلة: قليلون في العدد والسلاح ونستحضر قوله تعالى {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} [الأنفال: 18]مهما كان مكرهم شديد فالله تعالى يضعفه.
ثالثها: تقسيم العمل، كان عدد الدواب التي تحمل المسلمين قليل بالنسبة لعدد الجيش، فقسم النبي ﷺ كل ثلاثة يتناوبون ركوب بعير فلما انتهت المدة المقدر لرسول الله ﷺ أراد أن ينزل ليركب من معه فَقَالَا: نَحْنُ نَمْشِي عَنْكَ، فَقَالَ -صلى اللَّه عليه وسلم-: “مَا أنْتُمَا أَقْوَى مِنِّي، وَلَا أنَا بِأَغْنَى عَنِ الأَجْرِ مِنْكُمَا”[6] عندما يقوم كل فرد بعمله مهما كانت مكانته في المجتمع ولا يتكل على غيره، وعندما ينظر كل فرد إلى أن واجبه هو باب من أبواب الأجر يتقرب به إلى الله تعالى، تنشط النفوس ويتسابق الناس إلى الخير.
رابعها: الشورى، لما جاءت الأخبار إلى النبي ﷺ بأن الموقف قد تبدل، وأن القافلة التي خرجوا في طلبها قد نجت، وأن المواحهة الآن مع جيش مسلح كبير، قال النبي ﷺ :” أشيروا علي أيها الناس”[7] مرارا ويجيبه الصديق والفاروق والمقداد بن الأسود بما يقر عينه ويعبر عن الطاعة التامة له ﷺ ،في هذا الظرف العصيب يطلب النبي ﷺ من اصحابه أن يدلوا بآرائهم؛ ترسيخا لمبدأ الشورى الذي هو أحد مفاتيح النصر والنجاح. وحينما تحرم المجتمعات من آراء أصحاب الاختصاص الذين يقدمون خلاصة خبراتهم وتجاربهم بكل صدق وإخلاص تتهاوى هذه المجتمعات؛ لأنها لا تبصر إلا بعين واحدة ،ولا تسمع إلا بأذن واحدة ،ولا تفكر إلا بعقل واحد ،بينما عندما يتاح لأهل الرأي والحكمة أن يقوموا بواجبهم تجاه مجتمعاتهم فيدرسوا مشاكله ويقدمون الحلول المناسبة لاشك أن هذا المجتمع يسعى للخير والرشاد وينتفع بتلاقح الآراء ويستفيد من وجهات النظر المتعددة التي تحيط بالمشكلة من كل جوانبها وبذلك يسلم المجتمع،ويشعر أفراده بقيمتهم ودورهم في الحفاظ عليه.
خامسها: التعليم، أحد أهم المفاتيح التي يتعرف بها المسلم على ربه ودينه ودنياه ،ويتمكن بها من معونة أمته في معاركها المتعددة؛ معركة البناء ،ومعركة الحفاظ على الهوية، ومعركة حماية الأرض والعرض، ولن يتمكن المسلم من القيام بواجباتها المتعددة نحو نفسه وربه وأمته إلا إذا عرف هذه الواجبات، وعرف كيف يقوم بها، وسعيا من النبي ﷺ لنشر العلم بين أبناء المسلمين جعل فداء بعض الأسرى تعليم أبناء المسلمين الكتابة (كَانَ أَهْلُ مَكَّةَ يَكْتُبُونَ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ لا يَكْتُبُونَ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِدَاءٌ دَفَعَ إِلَيْهِ عَشَرَةَ غِلْمَانٍ مِنْ غِلْمَانِ الْمَدِينَةِ يُعَلِّمُهُمْ، فَإِذَا حَذِقُوا فَهُوَ فِدَاؤُهُ)[8] فإذا أتقنوها استحق هذا الأسير أن ينال حريته وبذلك ندرك سعي الإسلام لمحو الأمية.
الصراع بين الحق والباطل قديم قدم الإنسانية ،وللباطل جولة وللحق جولات وليس معنى ضعف فريق أن تغمر الفريق الآخر نشوة الظفر وفرحة النصر ، بل لابد أن تكون اليقظة هي شعار المسلمين في كل عصر رائدهم في ذلك قوله تعالى {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً } [النساء: 102]، فاليقِظ مدرك لغفلة عدوه، ومدرك للجهة التي يمكن أن ينقض عليه منها ، ومدرك كيف يحقق النصر بأقل الخسائر.
[1] الصحيحين واللفظ للبخاري
[2] مصنف ابن أبي شيبة
[3] مسند أحمد وقال محققوه صحيح
[4] البلايا جمع بلية وهي الدابة التي تربط على قبر الميت فلا تعلف ولا تسقى حتى تموت وكان هذا صنيع أهل الجاهلية
[5] مغازي الواقدي
[6] مسند أحمد
[7] دلائل النبوة
[8] عيون الأثر