فاتحة التحدي  : تَمُرُّ المجتمعات الإنسانية المعاصرة بأحوال؛ يمكن صرف القول حولها والإقرار فلسفيا بأنها: أحوال قَلِقَة! ومنبع هذا القلق أن الإنسان المعاصر رغم أنه استطاع تقليص الزَّمان والمكان بمخيّلته العلمية، إلا أنّ مخيلته الأخْلاقية لازالت في مرحلة لم تبلغ فيها حالة النُّضج والرشّد[1]، وتظهر هذه السّمة، فيما نراه من أشكالِ للعنف الرَّمزي والمادي في مستوى التَّحقُّق الواقعي، وفكريا فيما نبصره من كثرة التَّنظيرات الأخلاقية التي تُجاهد لأن تُبرم تعاقدات أخلاقية جديدة؛ تتصالح بموجبها الإنسانية في ذاتها وأغيارها المكونة لها، وفي هذا يقول أحد المهتمين بالسُّؤال الأخلاقي في الفكر المعاصر ” نحن نَعيش في حقبة، باتت فيها القيم الأخلاقية تثير أسئلة صعبة، ونشهد أيضا تحولات اجتماعية وثقافية كبيرة، تُغرقنا في اللاّيقين، يجب علينا رفع هذه التحدّيات ومواجهة المشكلات الخفية، ومع هذا كلّه، فإنّه لا يلوح لنا من أجل تحقيق ذلك (أي رفع التحديات ومواجهة المشكلات) أنّ بحوزتنا نظاما في القيم الأخلاقية صَلبا ومتناسقا[2]؟.

ومدلول هذا، أن الحياة الأخلاقية للإنسان ليْست بخير، وأنَّ ثمَّة خلل ضمن الرُّؤى الأخلاقية، التي تجتهد لأجل صرف هذه الأمراض الإنسانية. وبيان هذا الأمر، أنَّ عديد الأمراض الاجتماعية لازالت لم تتحقَّقُ بالعلاج الجذري بعد مثل : العنف (الرَّمزي والمباشر) والظّلم وأشكال الاحتقار الاجتماعي والتعدُّدية الثقافية المُتصادمة، هذه جميعا باتت في امتساس الحاجة إلى قوة تنظيرية أخلاقية تساعدها على التَّخفيف من الأمراض  الاجتماعية التي في عمَّقها هي أمراض للحضارة من الدَّاخل وأعراضُ على أن المسألة تتعدّىَ طور الجزئيات إلى طور الكليات المعرفية أو الأفكار التي رسمت منهج الإنسان في تدبير الحياة. ولأجل هذا، ما هي قيم التعارف الحقيق بنا استعمالها في سياق التحديات التي تواجهنا ؟

الانتساب الإيماني من أجل موضوعية القيم

 والقصد بهذا المفهوم، أننا منتسبون من حيث الوجود عِلْماَ وعيانا إلى المعيار الأعلى والأحق بكل وضع لقيم للإنسان، أي المعيار الإلهي، فهو مصدر التشريع للقيم الأخلاقية التي هي أصل  المشترك  الأخلاقي المتنوّع. وفي مقابل الانتساب الإيماني هناك الانتساب إلى مفاهيم أخرى غير إيمانية،إنّها انتسابات إنسانية؛ لكنها مفرطة  في إنسانيتها؛ مثل ” الإنسان الدَّارويني “[3] الذي يجد قِيمه في التبدُّلات النَّافعة بيولوجيا  و” إنسان إرادة القوة “[4] الذي يمجد الجسد والفن والأرض و”إنسان الدَّوافع اللاَّواعية [5]” الذي اختزل حياته في تلبية الدّوافع الحيوية ” و”إنسان المُتعية و النَّرجسية “[6] الباحث دوما عن  الاستمتاعات الفورية، وكذا ” الإنسان السَّائل “[7] الذي بات أسير الواقع وأسير قفص الثقافة الاستهلاكية السّطحية .

 إن هذه النَّماذج  الإنسانية التي أشرنا إليها،  ليست معدودة أو منحصرة، بل هي ممدودة ومتسعة ونافذة في الفلسفة الأخلاقية والواقع الثقافي المعاصر. ولن يقوى   على إيقاف زحفها إلا قوة الإيمان ويقظة القلب من جديد[8]؛ لأنها لا تؤسس لقيم مشتركة، بل إنها منظورها الذّاتي هو مرتكزها ونقطة انطلاقها، بينما نقطة انطلاق  إنسان التَّعارف هي: الانتساب الإيماني الذي بدوره يورّث موضوعية القيم واستقلالها عن المنظورية الإنسانية (مثل المنظور الذاتي والمنظور النّسبي والمنظور العدمي)؛ وبيان هذا الإقرار المعرفي يكون بصرف سعينا إلى القول بأنَّ المؤمن ” يجعل الحقّية الإلهية أساس إيمانه الذّاتي، بحيث تكون الذّاتية المُؤسسة على أمر حقّي كإرادة الإله غير الذَّاتية المُؤَسَّسة على أمر غير حقي كإرادة الإنسان؛ إذ شأن الأولى أن ترث موضوعية القيم من الأمر الحقي وتورثها لما تفرع منها، بينما الثانية لا يمكن أن ترثها من أمر غير حقي، فلا تستطيع أن تورّثها .. فيتبيّن أن الذّاتية الإيمانية للمؤمن تظل، بفضل الحقية الإلهية التي تتأسّس عليها، موصولة بموضوعية القيم الأخلاقية؛ لذا، لا يمكن أن يُستغنى عنها كما يُستغنى عن الذّاتية غير الإيمانية، لأنَّ في ادعاء الاستغناء عنها دعوة إلى صرف الموضوعية الحقية التي تلازمها، ومثل هذه الموضوعية لا يمكن صرفها، لأنّها ثابتة ثبوت الحق “[9].

وجدير بالملاحظة أمام هذا، أن الانتساب الإنساني إلى الإيمان تكون ثمرته حصول الاتصاف بالصّفات الإلهية، فهي العَلامات التي يسير وفق معانيها الإنسان مع ذاته ومع غيره، وهي المعاني الحُسنى الضَّامنة لموضوعية القيم واستقلالها عن النّسبية الإنسانية، وبيان هذا الأمر ” أنَّ على الإنسان أن يتعامل بعدل واستقامة مع إخوانه، لأنَّ أفعال الله هي دائمة عادلة ومستقيمة مطلقا، ليس للإنسان أن يظلم الآخرين لأنَّ الله لا يظلم أحدا، وفي القرآن كلّه يحض الإنسان على أن لايظلم أحدا أو نفسه في علاقاته بالبشر، وما هذا إلا انعكاس لطبيعة الله الذي يكرر أنّه لن يظلم مثقال ذرّة “[10].

 يتضح مما سبق أن التَّعارف يجد ضمانته الأولى  في الإيمان بالله و الاعتراف بأنه مركز الطاعة، فالتَّعارف يستمد معناه من كونه مَعرفة روحية فطرية تسكن في قلب الإنسان  وكلماتها هي التيقُّظ والتذكُّر للميثاق الأصلي بين الإله والإنسان، وقد ورد في القرآن الكريم “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” سورة الحجرات الآية  13. وجدير بالملاحظة أن الغرض من هذا القول القرآني؛ هو صرف الإنسان من النَّظر إلى العالم  بالاستناد لأفكار “الجماعات الثقافية” أو”الأطر القبلية الضيّقة ” التي نبت فيها وتشرَّب منها نظام ثقافته؛ إلى التَّعارف المفتوح  الذي يجد أصله في وحدة الانتماء إلى الإيمان، وعندما يحصل هذا الوعي بتذكر التَّعارف الأصلي بين الإله والإنسان، يحصل التذكُّر للمواثيق الرُّوحية القائمة على : ميثاق الإشهاد وميثاق الإستئمان وميثاق الإرسال[11]؛ وتبدأ حركة الإذابة للرؤى الثقافية التي تُفاضل بين الإنسان و الإنسان وتنحل أيضا؛ الروابط المادية التي كانت سببا في تقسيم الإنسانية إلى طبقات مختلفة ومُتفاضلة من حيث القيمة لأسباب اقتصادية كما هو ماثل أمامنا في سوق العولمة. إن مفهوم التَّعارف الذي ينبني على الانتساب الإيماني وتذكُّر المعرفة الأصلية، التي عِمادها الاعتراف بالوجود الإلهي وشهادة الإله على شهادة الإنسان وإقامة الميثاق على توحيد الإله وخلافته خلافة عُمرانية على الأرض، هو الحافز الرُّوحي الوجيه والأكثر قربا إلى ذات الإنسان والأكثر تأهيلا كي يجعلنا نبصر في  الاختلاف الثقافي آية للاعتبار والعبور نحو تذكُّر النَّفس الواحدة التي منها خَلقنا الله، و”النَّفس الواحدة”[12] بدورها هي التي تُثمر الكَلمة السَّواء  ولوازمها القائمة على : توحيد الإله ونفي الظلم أي الحرية. إذن فالتَّعارف والنَّفس الواحدة والكلمة السَّواء منظومة مترابطة من المفاهيم المتناسقة تسير نحو التحقُّق بالفعل الأخلاقي التّعارفي الذي يتصف بالموضوعية وليس بالذَّاتية، وسِرُّ موضوعيته كما أشرنا ارتكازه على المعاني الإيمانية وأقواها : الإيمان بالإله، فهو  معيار المعايير في رسم الكيفية التي يتخلّقُ بها الإنسان في عالم متعدد الانتماءات الثقافية والجغرافية، فالإنسان نسي هذا المشترك الرُّوحي اللّطيف، وانغرس في السِّمات الثقافية الكثيفة وبسبب جاذبيتها وأثرها على العقول بات يدعو إلى الحقوق الثقافية وإلى التنظير الفلسفي لها كي يجري الاعتراف بها؛ وهي حقوق ذاتية أفقية محجوبة عن الفطرة الروحية أو النَّفس الواحدة التي ننتسب جميعا إليها. وعليه، فالتَّعارف يُقِرُّ بواقعية الاختلافات الثقافية وديمومتها؛ لكنه لا يريد أن تكون عنوانا للتَّواصل بين الجماعات الإنسانية، بل يريد أن تكون هذه الاختلافات علامات اهتدائية لتذكُّر الكينونة الإنسانية المنسية؛ كينونة : النَّفس الواحدة و الكلمة السَّواء والحرية .

التَّعارف تَقْويةُ لحركة العِمارة

 بعد ان استبان لنا المُقوم الرُّوحي لمعنى التَّعارف وكيف أنّه يوقظ في الإنسان الشُّعور بالأساس الإيماني لرفع الاختلافات الثقافية المُتصادمة، فإنَّنا نمضي إلى الاستدلال على أن التَّعارف يُقَوّي حركة العمران ويُحَقّقُ التَّبادُل والتَّكامل الوظيفي بين الخُصوصيات الإنسانية. وقبل هذا، يجب لفت النّظر، إلى المنظورات الفلسفية التي كانت مسؤولة عن أزمة القيم في الثقافة المعاصرة، والتي بشّرت بمجيء الإنسان الأعلى ودعت إلى الحط من قيمة كل القيم عدا تلك التي تُقَوي الشُّعور بالقوة، أو ترى العالم من خلال فرديتها[13]. لقد تهكَّمت تلك الفلسفات على التَّفكير العقلي والعلوم التي لا تكون  سوى أدوات في يد إرادة القوة : الغريزة الحاكمة على كل غرائز الإنسان، إنها تلك الرؤى الفلسفية التي وجدت الأنظمة الطّاغية في متونها الفنية ورموزها التأويلية عناوين للفعل ومصادر نادرة لأجل إشباع خيالاتها الوَهمية نحو السَّيطرة والسّيادة على العالم واحتقار الإنسان. لقد سعى الفيلسوف الألماني”فريدريش نيتشه “، إلى محو المعاني الإيمانية من الوجود والدّعوة إلى الوفاء للأرض بمعناها الخالي من قيم الإيمان وقيم العقل. ولم يعد يُبصر إلاَّ دوافع حيوية تجد منبتها في غريزة القوة في كل حركة وحضارة. ونظرا لهذا فقد انتعشت دراسة الأعراق الإنسانية واحتشد العلماء لأجل البحث عن الجينات القوية والسيّدة بالفطرة، وباتت فلسفة نيتشه مَعينا نظريا لهم لتفسير أخلاق المجتمعات انطلاقا من النُّموذج الجسدي بين القوة والضعف. فكانت العلوم هنا مجرد أدوات في يد غريزة القوة لتبرير التراتبات الثقافية ومشروعية السيادة الفطرية لشعب من الشعوب على شعب آخر [14].  لقد قدَّمت هذه المنظورات صورة كئيبة عن الحياة الإنسانية؛ لم يعد يُعامل الإنسان كغاية في حد ذاته كما كان يحلم ” كانط “، بل مجرد وسيلة في يد قوى تتملّكُه وتَصْرِفُ فيض طاقتها فيه شعورا منها بالاختلاف عنه ورغبة منها في الاستمتاع بهذا الاختلاف كذلك. إلا أنَّ  خط فكر التَّعارف يعتبر هذه الرؤى الفلسفية/الواقعية، خصيمة له، لأنَّه يبصر في الاختلافات العرقية والثقافية واختلاف المواطن الجغرافية وتعدد الإمكانات المعرفية  التي تمايز بين النَّاس، آيات يَعْبُر بها العقل نحو الانتفاع بمحاسن الأعمال ؛ فالمَواطن الجغرافية تتباين وتُولّد خصائص إنسانية وإنتاجية متباينة، والتَّاريخ الثقافي يمتدُّ في حاضر المجتمعات ويترك أثره المعنوي فيها؛ وقِيَم الجماعات هي المناظير التي تبصر بها العالم، والتَّعارف يريد أن يستخلص من هذه الاختلافات أقدس وأفيد مافيها، كي تعين كل أمة من الأمم الأمة الأخرى على مَطالب الزَّمان وتحديات الواقع، ولذا كانت حركة العمران مشروطة دوما بالانفتاح الثقافي والتَّكامل المعرفي واستجلاب التّقنية من مواطن أخرى. إنَّ التّحدّيات التي تواجهها الإنسانية اليوم بخاصة مع التوجُّه نحو ما بات يسمى بــــ : الهوية الكوكبية”و”المصائر المشتركة”، يوجب تفعيل فرضية المنحى التّعارفي في رسم العلاقات الإنسانية، فثمة مجتمعات تمتلك رصيدا من القيم الإيمانية التي تتوازن فيها أشواق الروح مع دوافع الجسد، وأخرى تواجه فقرا في القيم الروحية، وثقافات أخرى نمت من حيث المعرفة  وكمية العلوم وأخرى تشق طريقها لأجل الإمساك بأسباب العلم والحضارة. وإذا كان هذا هكذا، فإن التَّعارف هو الفعل الذي يوفر للإنسانية حاجاتها العديدة، وبالتَّالي فالتَّعارف يُقَوي حركة العمارة  من خلال المرافق التالية :

–  التَّعارف فعل تبادلي بين المجتمعات في العلوم والتقنيات.

– التَّعارف مُكاشفة للحُجب النَّفسية والسياسات الثقافية التي تُغَذّي العنف وتَسْقيِ موانع التَّواصل.

– التَّعارف فعل جمالي بين الأمم، فمُطالعة الأقطار المختلفة في الألسنة والألوان والأعراف وفهم خصوصيتها الثقافية وفي المقابل التعريف بخصوصيتنا الثقافية للمختلف عنّا، تثمر جمالية المشترك الثقافي والمؤانسة بدلا من التنميط الثقافي والاستيحاش.

– التَّعارف استعانة بخبرات الشُّعوب أو إمداد لها؛ من أجل تطوير المؤسَّسات وتدبير الشُّؤون الإدارية والسياسية والاقتصادية بخاصة وأن الإنسان  أضحى يسير  في مركبة كونية نحو نفي الظُّلم والاحتقار والفساد وإحقاق العدل والاعتراف والصَّلاح.

 يتضح مما سبق، أن حركة العِمارة مشروطة بالتَّعارف كفعل مستمر وتداولي بين المجتمعات والثقافات، لأن ثماره ليست للانتفاع الجزئي أوللمصلحة الخاصة، بل هي موجهة رأسا نحو الانتفاع الكُلي والمصلحة العامة؛ فالعُمران الذي تقترفه المجتمعات في حركتها لن يتجسَّد إلاَّ بالتَّحاور والاستفادة والتعلم ونقل الخبرات وتسويق العلوم والتَّعريف بقيم الإيمان، وأيّة ثقافة تسكن في مكانها وتتجمَّد في زمانها، هي ثقافة مقطوعة الصّلة بحركة العمران وحمولة الزمان. . ولو أننا رسمنا دعائم للعمران الذي ينتجه التَّعارف لقلنا أنها ثلاثة : أحدها دعامة الإصغاء : وتعني إصغاء الإنسان إلى الخطابات والأفعال الجارية والمكاسب الإنسانية المتحققة في الصَّنائع والعلوم، والثانية دعامة الرّضا، وتعني أن يشرع في التَّمييز و الفرز كي يُعيّن الشيء الذي يجلبه والشَّيء الذي يتركه، أو بمعنى آخر يستمع إلى الأقوال والأفعال ثم يهيئ ذاته كي يتَّبع أحْسَنَها، والثالثة دعامة الاقتراف، أي مُبَاشرة فعل التَّعمير الإيجابي للحياة في مرافقها الإنسانية والطبيعية؛ وحريُّ بالقول بخصوص سِمات فعل الاقتراف؛ أن من يقترف المحاسن  سواء في العلوم الفاضلة أم في الأعمال الصَّالحة؛ فإنَّ مُترتباتها هي الزيادة في هذه المحاسن وانفتاح أبواب الخيرات ونمو العمران ورَيّ أرض الإيمان.

التَّعارف رفع للتَّفاضل  بين النّاس : من المحدّدات الثقافية إلى مراتب الكرامة

   جدير بالملاحظة، أن التَّفاضل حكمُ ثاوِ في طبائع العلوم والأشياء وكامن فيها، وإظهارا لهذه الحقيقة، يقول “أبو الحسن العامري “: “على أنَّ خاصية التَّفاضُل ليست بمقصورة على العلوم، بل هي عامة للأشياء :وإلاَّ فمن يشكُّ أن العرش والكرسي أفْضَلُ من الجَواهر السُّفلية، وأن الشَّمس والقمر أفضل من المصابيح و الشُّهب…وقد قال الله تعالى ” ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ ثم أخبر عن التَّفاضل الموجود في النَّاس فقال ”  ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ﴾ ثم أخبر عن تَفَاضل الأنبياء فقال: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾. [15]. وإذا كان هذا الوصف أي التَّفاضل، مُلازم للنَّاس وللأشياء، وإذا كانت رُؤية التَّعارف كما تمت الإشارة  هي إقرار الاختلافات الثَّقافية والإبصار في تَنوعها علامة على : النَّفس الواحدة نحو الكلمة السَّواء والتَّكامل العمراني، فكيف هي الإنسانية المُتعارفة في تَفاضلها ؟.

قبل صرف القول إلى الإجابة عن هذا السُّؤال؛ فإنَّنا نَصْرف سعينا إلى تمهيد الكلام بأنَّ :سياسة مابعد الأخلاق، التي تُحركها بواعث الحقوق الذَّاتية والبحث عن الطُّرق المؤدّية إلى الاستمتاع وترادف مفهومها للثقافة، مع الحرية النَّفسية والجنس وعبادة الذّات؛ قد باتت هي المتحكّمة في سُلوك الإنسان، فغاياتها النّهائية تلوح في إدمانها ومثابرتها على اللّذات، ولسان حالها هو : لكل جديد لذّة .[16] ولم تكتف هذه الثقافة المابعد أخلاقية بالإدمان والمثابرة على اللّذات والانقياد للطّباع فحسب، بل إنّها قد استعانت بالعلم والعقل؛  كي تأتي مُشتهياتها النَّفسية في وقت فَوري مُلَبّية للنّفس الإنسانية في ذلك أقصى الشُّعور بالمتعة .

وعليه، فإن إضاعة القيم الروحية والإدمان على اللّذات والمثابرة لأجل الظَّفر بها، قد أورث ازدهار الفردانية والأخلاق المَرحة، أي الأخلاق بلا إلزام ولا جزاء ولا واجب[17]؛ وهنا أصبح التَّفاضل الأخلاقي بين النّاس لا تحدّده معايير مثل: تهذيب النُّفوس أو تأديب السُّلوك أو حفظ الحدود وترك المشتهيات؛ وإنما معايير أخرى مثل : اللُّهاث السائل نحو جودة الحياة وتسارع الأنفاس للاستمتاع بها، وكذا البحث المستمر عن الرفاهية الشَّخصية وهجر أنساق المعنى الكُبرى. ويبدو أنّه من الأسباب الوجيهة  التي كانت وراء هذا الخروج عن القيم الرُّوحية والاكتفاء بالوجود الجميل والانهماك في السّعادة الفردية؛ ذلك التّمتع التَّاريخي للإنسان الحديث بالأشياء، فالتمتُّع ليس إرادة نفسية فردية غرضها تَمَلُّكْ الأشياء والاستمتاع بها فحسب، إنما هو عنصر مُؤَسّس للحركة الحديثة المسكونة بالتفكير في السَّعادة والاسترسال مع التّرف[18]؛ ثم بعد التمتّع يحصل النّسيان الذي هو مشكلة الإنسان الكبرى، وما سمي الإنسان[19] إلاّ لنسيانه، ففي غمرة التّمتع والتّرف والتفنن في أصناف الملاذ والتَّوسُّع في الاستهلاك؛ ينسى الإنسان انتساب روحه إلى المعنى الإيماني وليس إلى المعنى الجَسداني، لتكون بعد التمتع والنّسيان لحظة تخدُّر الوازع الأخلاقي وانتفاء الاستجابة الروحية، ويحصل الكساد الذي تكون نهايته الفساد وانحطاط الإنسان/القيم.

  وإذ تعيَّنت سمات ثقافة مابعد الأخلاق، فإننا جُدراء بأن نكتفي بها، ونمضي إلى مطلوبنا من مفهوم التَّعارف في رؤيته التَّفاضلية بين النّاس. إن التَّعارف يرسم المسالك نحو الارتقاء في مراتب السُّلوك الروحي، فالاختلاف بين الشُّعوب الذي ينبني على تذكُّر انتساب الإنسان إلى الإيمان بالله، وعلى التّعاون لأجل التّكامل العمراني، يُلْفِت نظر الإنسان إلى أنَّ دوام التَّعارف ممدود نحو الاجتهاد من أجل تقوية الصّلة مع الله، لأنَّه معيار الكمال، فالكرامة الحقيقة تستمد معناها لا من التَّقوُّل بطهارة الدَّم ونقاء الأصل وأفضلية الحضارة والمفاخرة بالسّمات البيولوجية، لأن المعرفة الموضوعية بهذه التواريخ غير ممكنة؛  كما لا يحصل التَّواصل بين الثقافات بطريق العلاقات الاقتصادية المنفصلة عن محاسن الأعمال وأفضل الأخلاق[20]، بل إنّ روح الكرامة الإنسانية تظهر في الأفعال المحمودة، والكَريم من الأفعال هو من كان فعلا يقصد به نيل الرّضا من الله واستمداد الرَّحمة ونور الإيمان منه، لأنه لو لم يجتبيهم لخلافته لما أوجدهم، فخروج النَّاس من علم الوجود إلى عين الوجود مبني على اجتباء إلهي مقصود، وبما أن الإله قد اجتبي الإنسان وأمَدَّه بالنُّور وبالرحمة، فإنَّه حقيق به أن يجتهد لأجل تعديل ذاته وبناء سلوكه وفق أوامره الإلهية وليس أن يُكَيّف الأوامر الإلهية وفق مشتهيات نفسه. إذن، فمعيار التَّفاضل في منظور التَّعارف هو بذل  الروح لأجل فعل الواجبات الإلهية وترك المنهيات، إنّها وصية الله للإنسان ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ “النساء:131”.  فتقوى الله توجب على الإنسان أن يتعلَّم المعاني الرُّوحية للفضائل وأبعادها الاتساعية ولا ينظر إلى محلّها الذّاتي الإنساني فقط مثل : التَّواضع والإحسان والإخلاص والصّدق والرَّحمة والرأَّفة والحرية، والمثال الذي نسوقه على الأصل الإيماني للقيم وأبعادها العمودية و الأفقية هو التَّواضع بعامة، والتّواضع في المجال الثقافي خاصّة؛ وبيان هذا أنَّ “التّواضُع  ليس شعورا بتواضع إنّيتنا أمام الله …إنّما هو وعي ميتافيزيقي بأنّنا لا شيء أمام المطلق، وأنّ الآخر يشبهنا في عدم كماله، وحتّى في عدم كماله، يمتلك وجودا صادرا عن اللّه، الذي يجب علينا أن نقف بتواضع أمامه “[21]. إذن، فهذا المفهوم للقيم باعتبار أنّ أصلها هو  الأمر الإلهي والصفات الحُسنى المطلقة لله، هي المراتب التي ترتقي بها الثقافات وتتنافس من أجل تفعيل سمات : الإحسان الثقافي والتّواضع الثقافي والصّدق الثقافي والاختلاف التَّعاوني والإخلاص كغاية نهائية تسكن عند الله. وهكذا فإن التَّعارف هو منهج إعادة تَأسيس الثقافة على القيم، لأن القيم هي المُشترك المنسي في التَّواصل بين الثَّقافات.


الهوامش :

.[1]  يقول هانس يوناسHans Jonas (1903-1993) “إنّه على الرّغم من أنّه لا المكان ولا الزّمان يستطيعان الحد من أفعالنا، فإنّ مخيّلتنا الأخلاقية لم تتقدّم كثيرا إلى ماوراء المدى الذي اكتسبته في عصر آدم وحواء “.

[2] Métayer Michel,

[3] نسبة إلى رأي البيولوجي البريطاني تشارلز داروين(1809/1882) Charles Darwin .

 [4] رأي الفيلسوف و الفيلولوجي الألماني  فريدريش نيتشه

[5] رأي  الطبيب النفسي النمساوي سيجموند فرويد (1856/1839) Sigmund Freud .

[6] رأي الفيلسوف وعالم الاجتماعي الفرنسي جيل ليبوفتسكي  (1944/…) Gilles Lipovetsky

 [7] رأي الفيلسوف وعالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان (1925/2017).

[8]  جاء في بعض كتب الأخلاق، “من لم يجد في قَلبه زاجرا فهو خَراب ” أنظر، أبي مدين شعيب الأشبيلي، أنس الوحيد ونزهة المريد، تحقيق عبد الحميد حاجيات،

[9] عبد الرحمن طه، المفاهيم الأخلاقية بين الائتمانية والعلمانية

[10]  إزوتسو، توشيهيكو، المفهومات الأخلاقية الدينية في القرآن،

[11] ” هذه المواثيق تمثل درجات ثلاث في الإيمان بعضها فوق بعض، فــ” ميثاق الإشهاد : مواثقة الرب على الاستعداد للحياة الفردية الصَّالحة، وميثاق الإستئمان : مواثقته على تحمّل مسؤولية هذا الصلاح في العالم، و ” ميثاق الإرسال ” مواثقته على إقامة أسباب الصلاح في الفرد والعالم”، أنظر: عبد الرحمن طه، المفاهيم الأخلاقية بين الإئتمانية و العلمانية،

[12] جاء في القرآن الكريم ” ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ “﴾  سورة الأعراف الآية 189. وجاء أيضا في القرآن الكريم ﴿ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً  وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ  إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ النساء الآية 1.

[13] يقول  ماكس شتيرنر (1806/1856)Max Stirner  أحد المصادر الفلسفية لنفي القيم المتعالية  والتبشير بثقافة مابعد الأخلاق ” الإلهي ينظر إلى الإله والإنساني ينظر إلى الإنسان.قضيتي ليست لا إلهية ولا إنسانية، إنّها ليست الحق ولا الجيّد ولا العادل و لا الحر، إنّها لي؛ إنّها ليست عامة بل –مفردة-، مثلما أنا مفرد.لاشيء بالنّسبة إليَّ يعلو عليَّ !” الأوحد ومِلكيَّتُه،

.[14] للإطلاع على تأثير نيتشه في الاتجاهات التي تغذّت على مفاهيمه  في إرادة القوة أنظر، ستيبان أودويف، على دروب زرادشت، ترجمة فؤاد أيوب، دمشق، دار دمشق، 1983.

 [15] العامري، أبو الحسن، كتاب الاعلام بمناقب الاسلام، 

[16] Voir ,  Gilles Lipovetsky , L Empire de l éphemére, Paris, Glimard, folio essais,1987.

 [17] هناك كتاب للأخلاقي الفرنسي جون ماري غويو  JEAN-MARIE GUYAU  (1854/1888) عنوانه Esquisse d’une morale sans obligation ni sanction خطوط عامة نحو أخلاق بلا إلزام ولا جزاء . وفيه نقد  لمقولة الواجب الصُّورية والإلزامية عند كانط والانطلاق من فيض الطاقة الحيوية نحو الفعل الأخلاقي وفي مقدمته الواجب.

[18] يقول جيل ليبوفتسكي ” يشهد عصرنا تَوسُّع الحق في امتلاك الكماليات للجميع، الميل المعمم للماركات الكبرى، ازدهار الاستهلاكات الموسمية في أجزاء موسّعة من السكان…إن النّظام الجديد يحتفل بزفاف التّرف والفردانية اللّيبرالية، تحولات كثيرة تدعوا لإعادة التفكير في المعنى الاجتماعي والفردي للاستهلاكات الثمينة…إنّها حقا ثقافة ترف جديدة تكبر أمام أعيننا ” أنظر كتابه، التّرف الخالد، من عصر المقدّس إلى زمن الماركات

[19]  يقول الراغب الأصفهاني ” النّسيان ترك الإنسان ضبْط ما استودع إمّا لضعف قلبه، وإمّا عن غفلة وإمّا عن قصد حتى ينحذف عن القلب ذِكْرُه ”  معجم مفردات ألفاظ القرآن، ب

[20]  بيّنت لنا جائحة كورونا (كوفيد 19) أن المؤسَّسات الاقتصادية العالمية مثل الاتحاد الأوربي وحركة العولمة الاقتصادية؛ لم تحقّق التَّضَامنات المطلوبة والتَّعاون اللازم، وهذا دليل على  أنَّ الارتباط الاقتصادي وحده غير كاف، كي تتضامن الإنسانية فيما بينها، بل يجب تنمية القيم الإنسانية ذات الطابع الروحي، والتعارف في مقدمة هذه القيم التي من الأفضل أن تسود .

  [21]  نصر، سيّد حسين، فردوس الحق، الرؤية والوعد الصوفيان في التّعاليم الصوفية الإسلامية.