إنّ سورة إبراهيم الكريمة تصوّرُ في موضوعاتها حقيقةَ كفاح أهل الحقّ في مواجهة ضلال أهل الباطل، ومن الآية الأولى تظهر طبيعة هذا الصراع في قوله تعالى: “الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ”. فما هي الحكمة أو المغزى في مكر الظالمين ومواجهة الجبال في سورة إبراهيم؟

من بداية السورة يتضح طريقان متضادان لا يجتمعان ولا ثالث لهما الظُّلمات والنّور، وهذه الآية تدلُّ كما يقول الإمام الرازي: “على أنّ طرق الكفر والبدعة كثيرة وأنّ طريق الخير ليس إلا الواحد، لأنه تعالى قال: (لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ) فعبّر عن الجهل والكفر بالظلمات وهي صيغة جمع وعبر عن الإيمان والهداية بالنور وهو لفظ مفرد”. وتأتي الآية الثالثة الكريمة: “الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا عَلَى ٱلآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَـٰئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ”، لتبيّن طبيعة سلوك فريق الظُّلمات تجاه طريق النّور وأهله، فأهل الظُّلمات لم يكتفوا بكفرهم فقط بل انتهجوا محاربة الحقّ مسلكاً من خلال العداء المُباشر بمنع غيرهم من الالتحاق بركب المؤمنين، و من خلال بذل جهدهم في دعاية سوداء تصوّر طريق الإيمان درباً زائغاً يشوبه الانحراف، وهم في قرارة أنفسهم يتمنّون لو أنّ طريق الله كانت كما يدّعون من الميل، وهذا دليل استشراء مرض الضلال والجهل في قلوبهم، لأنّهم علموا الحقّ وأعرضوا عنه وحاربوه.

ثمّ تمضي السورة الكريمة في عرض سُبل دعاة الظُّلمات في محاربة أئمة الحقّ من الرسل عليهم السلام، وهنا لا تتورع الأقوام الضالّة عن محاولات ترويع رسلهم وأتباعهم بالنّفي عن بلادهم، وهذا ديدن أهل الباطل عندما تعجزهم أدلةُ أهل الحقّ وعلامات صدقهم الجليّة وحججهم العقليّة يلجأون إلى إنهاء وجود فريق النّور بأيّ وسيلة ممكنة، كتغريبهم عن موطنهم، في قوله سبحانه: “وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا”. وفي شدّة تسلّط عناد فريق الظُّلمات واستكبارهم على الحقّ، وفي ذروة استعلاء جبروت الظالمين بظنّهم أنّهم يملكون الأرض فيقررون من يبقى ومن يُبعد، يتنزّل الوعد الآلهي: “فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ ٱلظَّالِمِينَ* وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ”. لينقلب الموقفُ من تهديد بشريّ ضعيف إلى موقف قوة وتثبيت لأهل الإيمان ببشرى هلاك الظالمين وعودة الأرض إلى مواطنيها الأصليين من المؤمنين الذين جابهوا ظلم الأقوام الضالّة.

وتواصل السورة العظيمة بيان حقائق الصراع بين الحقّ والباطل، وصولاً إلى خطبة الشيطان زعيم الباطل والضلال وإمام جبابرة الظلم وكبير فريق الظُّلمات، ليقرّ مجموعة حقائق صادمة لأهل الباطل من أهمّها أنّهم هُم مَن اختاروا بخالص إرادتهم اتّباع الشيطان و طريقه الحالك “وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي”. واستكمالاً لبيان حقائق الصراع بين الحقّ والباطل، كان مما اختُتمت به السورة الكريمة موقف الظالمين تحديداً يوم إتيان العذاب، وهؤلاء الظالمون لهم صفات بيّنتها الآيات تدلّ على فظيع جورهم في الحياة الدنيا.

الصفة الأولى: في قوله سبحانه: “أَوَلَمْ تَكُونُوۤاْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ “. يتصف الظالمون بتعلقهم الشديد بالحياة الدنيا إلى حدّ إنكار الآخرة مما أورث لديهم إيمان شديد بأبدية وجودهم إلى درجة القسم بذلك، والزوال كما بيّن أبو هلال العسكريّ “لا يكون إلا بعد استقرار وثبات صحيح”، وهذا يدلّ على أنّ الظالمين وصلوا مرحلة من استقرار الأمر لهم أيقنوا معها امتناع عدمهم، وهذا لبّ داء التكبّر وتسلّط تعظيم النّفس حتى يتعامى العقل والقلب عن حقيقة الفناء المتحقق إدراكها بالبديهة.

والصفة الثانية:في قوله تعالى: “وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ”. وهنا ليس المقصود مجرد السُكنى بمعنى قطنوا مساكن الظالمين قبلهم فقط، بل أضف إلى ذلك ما قاله الإمام الزمخشريّ:”سكنوا من السكون، أيّ: قرّوا فيها واطمأنوا طيبي النّفوس، سائرين سيرة مَنْ قبلهم في الظلم والفساد، لا يحدّثونها بما لقي الأوّلون من أيام الله وكيف كان عاقبة ظلمهم، فيعتبروا ويرتدعوا”، وهذه حقيقة ملموسة في واقعنا فكم من حاكم طاغية يُعيد إنتاج الظلم في أعنف صوره الماضية ولا يختلف في طرق إرضاخه للشعب عمّن سبقه من الحكّام الظالمين، كأنّما توارثوا نهجاً خاصّاً بتكريس الظلم وترسيخ القهر يقضي على حياة المجتمع الإنساني في سبيل الإبقاء على حياة الفرد الطاغية.

والصفة الثالثة:في قوله سبحانه: “وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ ٱلأَمْثَالَ”. هؤلاء الظالمون كانوا على علم بمصير مَن سبقهم من الظالمين من الإهلاك، فلم يعانوا من غموض الرؤية بل اتضحت وظهرت لهم عاقبة الظلم دون ارتياب، ويقول الإمام الرازي : “إنّهم علموا أنّ أولئك المتقدمين كانوا طالبين للدنيا، ثم إنّهم فنوا وانقرضوا فعند هذا يعلمون أنه لا فائدة في طلب الدنيا، والواجب الجدّ والاجتهاد في طلب الدين، والواجب على من عرف هذا أن يكون خائفاً وجلاً فيكون ذلك زجراً له”، وهذا أحد أعراض الاضطراب الذي تخلّفه غطرسة الظَلَمة المتحكمة بعقليات تنكر الحقيقة التي تراها بيّنة وتطمئنّ إلى أوهام اصطنعتها على علم منها.

إنّ مجموعة صفات الظالمين السابقة تولّد ممارسات ظلاميّة تنصبّ في مخططات المكر المنظَّمة والمدبّرة بإتقان، حيث يبذل الظالمون فيها عظيم كدّهم في مقارعة الحقّ و محاولات إفشال مشروع فريق النّور، يقول الله تعالى: “وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ”. والمكر عندما يكون من جانب العبد كما يقول الجرجاني هو: “إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر”.

وبحسب البقاعي فإنّ مادة مكر “تدور على التغطية والستر”، ففي ضربات متتالية يدأب فريق الظُّلمات على وضع ترتيبات مُستترة كفيلة بتعويق أهل الإيمان تُنفذ على مراحل، تخلُص إلى إخلاء الساحة من حُماة العدالة و القيم الإنسانية، في معارك استئصاليّة تستهدف الثلّة المؤمنة بالله وحده حاكماً ولا تقبل معه شريكاً، إلّا أنّ العدل الآلهي غالب غير مغلوب وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ فالمكر من جانب الله الحقّ كما شرح الجرجاني هو: “إرداف النّعم مع المخالفة، وإبقاء الحال مع سوء الأدب، وإظهار الكرامات من غير جهد”، أيّ إذا ما اطمأنّ وسكن الظالمون لاستقرار حالهم واستمرار غيّهم فما هي إلا مدّة الإمهال التي سيعقبها نصر المظلومين على حين غرّة تباغت غفلة الظالمين.

يقول الإمام الرازي: “عند الله مكرهم فهو يجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه.. وعند الله مكرهم الذي يمكر بهم وهو عذابهم الذي يستحقونه يأتيهم به من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون”. وليس هذا فحسب بل توثّق الآية الكريمة حقيقة حاسمة في قوله الحقّ: “وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ ٱلْجِبَالُ”. وانظُر إلى عبارة الإمام أبي السعود: “والجبالُ عبارةٌ عن أمر النّبـي صلّى الله عليه وسلم أيّ وقد مكروا، والحالُ أنّ مكرهم ما كان لتزول منه هاتيك الشرائعُ والآياتُ التي هي في القوة كالجبال”.

ولَكَ أن تقف طويلاً أمام هذه الحقيقة لتتدبّر هذا المعنى الذي يستحثّ مشاعرك ويشحذ فكرك ويفيض في جنباتك أملاً وتثبيتاً، فإنْ أطبق الظالمون على صهر النّور وبطشوا بكل معالم الحياة، فإنّ جميع تدابيرهم هذه لن تبارح أن تكون مجرّد مكر في مواجهة جبال راسخات، لن يشقّ ثباتها ووقارها رغام مكر الظالمين، فهل بعد هذه الحقيقة جزع أو تردد؟ وهل بعد هذه البشرى إحباط باستبطاء النّصر والتمكين؟ ألم يأن للغارقين في منحدرات الظُّلمات أن يشرعوا بتسلّق قمم نور تستند على جبال الإيمان، ألم يضيقوا بعد بغياهب الوديان!