دعوة إلهية لعباده المؤمنين الصادقين ألا يستسلموا للوهن والحزن الذي نزل بهم في معركة أحد، والاسترسال في ذلك، باعتبارهما أمرين لا يليقان بالمؤمن الصادق، الواثق من ربه. فالحياة مواقف واختبارات، نصيب في بعضها، ونخطئ في بعضها الآخر.

يقول تعالى : { ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } (آل عمران : 139)

إن دعوته سبحانه تتضمن بشرى طيبة للمؤمن، إذا تماسك ولم يضعف أو ينهار أمام مصائب الدنيا المتنوعة، ولم يدع مجالاً للوهن والحزن الدخول إلى نفسه. تلكم البشرى جاءت في قوله تعالى { وأنتم الأعلون } من العلو والغلبة بإذنه على شرور النفس وشرور الأعداء.

لكن متى يحدث ذلك العلو؟

تورد الآية الكريمة الإجابة الفورية في قوله تعالى (إن كنتم مؤمنين). نعم إن كنتم مؤمنين حقاً – كما في تفسير الوسيط للطنطاوي – ولذلك لا تهنوا ولا تحزنوا، بل اعتبروا بمن سبقكم ولا تعودوا لما وقعتم فيه من أخطاء، فإن الإيمان يوجب قوة القلب، وصدق العزيمة، والصمود في وجه الأعداء، والإصرار على قتالهم حتى تكون كلمة الله هي العليا. والتعليق بالشرط في قوله { إن كنتم مؤمنين } المراد منه التهييج لنفوسهم حتى يكون تمسكها بالإيمان أشد وأقوى، إذ قد علم الله تعالى أنهم مؤمنون، ولكنهم لما لاح عليهم الوهن والحزن بسبب ما أصابهم في أُحد، صاروا بمنزلة من ضَعُفَ يقينه، فقيل لهم: إن كنتم مؤمنين حقا، فاتركوا الوهن والحزن، وجدّوا في قتال أعدائكم، فإن سنة الله في خلقه اقتضت أن تصيبوا من أعدائكم وأن تُصابوا منهم، إلا أن العاقبة ستكون لكم.

هكذا هي تربية القرآن لعباد الله الصادقين الواثقين به سبحانه، الموقنين بنصره ولو بعد حين. إنكم أيها المؤمنون في كل زمان ومكان تواجهون الباطل، وهو غالباً يكون أقوى وأكثر عدداً وعدة، وربما بسبب ذلك التوافق المادي يصيبكم منه أذى وآلام كثيرة، وهو أمر طبيعي منطقي في معارك الحق والباطل، فأنتم أيها المؤمنون الواثقون بالله { إن كنتم تألمون فإنهم يألمون } (النساء :104) لكن الفرق بين فريق الحق وفريق الباطل { وترجون من الله ما لا يرجون } (النساء :104). لعل هذا يفسر لِمَ دوماً نفسيات ومعنويات المؤمنين في فرق الحق تعانق قمم الجبال، وتكون هادئة مطمئنة، رغم كل الأهوال والمصائب التي من الممكن أن تنزل بهم، إذ أن العبرة عندهم دوماً بالخواتيم، التي هي حاضرة وواضحة في أذهانه والمتمثلة في نصر من الله وفتح قريب.

كان المسلمون قاب قوسين أو أدنى من نصر ثان مدو على جيش المشركين في غزوة أحد، لكن بعض أخطاء تكتيكية ناتجة عن لوثات حب الدنيا التي أصابت، ساعتها، نفوسا قليلة من الجيش المؤمن، تسببت في تأخير ذلك الانتصار الثاني الحاسم، فانقلبت الأمور وحدث ما حدث، وأصاب الجيش المؤمن نتيجة ذلك بعض الهم والحزن، فثبتهم الله بالآيات التي ذكرناها في بداية هذا الحديث.

تمت لملمة الصفوف سريعاً ولم تبرد أجسام الصحابة الكرام بعد، حيث واصل الرسول الكريم المسير نحو جيش قريش، الذي لم يتبع عادات العرب في الحروب، وهي البقاء في أرض المعركة ثلاثة أيام ، للدلالة على النصر ونشر الهيبة بين القبائل، لكن يبدو أن قادة المشركين يومها كانوا يبحثون عن أي مشهد يبدو لهم فيه بعض النصر، ليذهبوا به إلى ديارهم للتباهي وإعلان الانتصار، فخرجوا من بعد تشتت صفوف المسلمين، وسقوط العشرات منهم شهداء، وظنوا أن المسلمين انهزموا، فأرعبهم خبر مواصلة جيش المسلمين في أثرهم، فما كان منهم سوى مواصلة الطريق نحو مكة، وعدم مواجهة جيش تبدو روحه عالية، رغم جراحاته التي لم تبرأ بعد..

آثر قادة المشركين العودة والوصول إلى مكة بانتصار جزئي، فهو خير لهم من مواجهة المسلمين تارة أخرى، إذ لا شيء يضمن لهم نصراً جديداً، بل خشيتهم من هزيمة جديدة على غرار بدر كانت تسيطر عليهم، فكان قرار الفرار والعودة وعدم لقاء المسلمين في حمراء الأسد، ومن هنا ذهب كثير من رواة السير أن المسلمين لم ينهزموا في أحد بشكل عام، بل خسارتهم كانت في مشهد واحد من ثلاثة مشاهد، فكأنما ظفروا بمشهدين مقابل مشهد واحد لقريش، وبالتالي معركة أحد هي من المعارك التي ظفر المسلمون بها أيضاً، وعادوا إلى المدينة مرفوعي الرأس أعزة، لم يتركوا مجالاً للمنافقين ويهود المدينة للشماتة.