ميزانان يقع بينهما حكم الإنسان وتقديراته: أحدهما يتلوه الخسران والآخر يتلوه الفلاح والفوز, فأما الأول فهو ميزان الشهود ميزان الحياة الدنيا حيث يحكم به الإنسان على شهوده وغيبه وهو ميزان وضعي: من وضع الإنسان للإنسان قيمه: الهوى والظن..وهذا الميزان لا يرى للغيب أي وجود ويعتبره (كَرَّةٌ خاسرة) ..ويرى أن حياته الدنيا هي المنشأ والمصير (إنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتنَا الدُّنْيَا نَمُوت وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [ المؤمنون:37] وهؤلاء تعتبر شهواتهم ولذات الحياة الدنيا معيار سلوكهم ووجدانهم لا يتحركون إلا بما يشبعها ولا يمتلكون من القيم ما يردعهم عن انتهاك المحارم والحرام والغي والبغي..وهؤلاء الذين اتبعوا هذا الميزان: ميزان الهوى والظن وعبادة الشهوات وصفهم القرآن بأنهم (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسهمْ) وهذه الخسارة في الآخرة ..لأنهم في الدنيا يظنون-خطأ- أنهم كسبوا أنفسهم بإشباع ملذاتها وشهواتها بالبغي والزور والظلم..ويظنون هذا مكسبًا في الدنيا..وهؤلاء الذين سلكوا سبيل الشيطان وأقاموا معه عقودًا أبدية بالعمل تحت كفالته ( وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا) [ النساء: 119] ودخلوا معه في حالة اتحاد وحلول كامل في خلواتهم وفي علنهم في سرهم وفي نجواهم في سكناتهم وفي حركاتهم في قيامهم ونومهم (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [ المجادلة:19].

أما الميزان النافع ميزان الحياة الطيبة: فهو ميزان الغيب أي الإيمان، وهو ميزان قائم بقيم الحق، تفصل بين الخير والشر, والصالح والطالح. وقيم الفرقان، لتفرق به بين الحق والباطل والحلال والحرام فتراعيه في الوزن والتقدير. وقيم النور، الذي يخرج الإنسان من الظلمات أو من الموت إلى الحياة. وهذا الميزان هو ميزان (الْمُفْلِحينَ)..الذين استجابوا لربهم وهداهم إلى الصراط المستقيم فقاموا وسكنوا وتحركوا وقالوا وسمعوا وشاهدوا وهم (يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ) فوعدهم الله بالمغفرة والأجر الكبير (لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ )[ الملك: 12] .

إن المسلم في حركته الكونية من الغيب إلى الواقع والشهود؛ لأنه ينطلق من قوة الإيمان -أي الغيب- التي تمثل له “وقود” حركته في ذلك الكون, ولا ينطلق من المادة أو الواقع إلى الغيب ….يقول تعالى “الذين يؤمنون بالغيب”..وبخطية هذه الحركة ( من الغيب إلى الشهود) أدرك المسلم الكون..واكتشفه.. وجاهد لهداية من فيه..ورخصت أمامه الشهوات والنزوات بكاملها..وهو ما تبدى في النموذج النبوي والراشدي بشكل واضح..وعندما فقد المسلم الغيب عاملًا للحركة عاد وانزوى في التاريخ..لأنه اعتمد على حركة مخالفة لما يعتقده أي الانطلاق من المادة ..وفقد قوة الإيمان ووقوده.. فلم تعوضه المادة ذلك الوقود وكما يقول مالك بن نبي: وما كان لأي معوض زمني أن يقوم خلال التاريخ مقام المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية، ألا وهو الإيمان.  فهذه حركة مناقضة لمنهجه الذي اعتقد فيه.. وهي حركة معكوسة له ولنشاطه الفكري والحركي..  كما ينطلق منها غير المؤمن.

شبكة قيم الحياة الدنيا في القرآن

     معرفة الباطل ضرورية لمعرفة الحق وإتباعه ..ومعرفة الشر ضرورية لإدراك الخير..عن حذيفة بن اليمان قال: (كَان الْنَّاس يَسْأَلُوْن رَسُوْل الْلَّه-صَلَّى الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم- عَن الْخَيْر، وَكُنْت أَسْأَلُه عَن الْشَّر مَخَافَة أَن يُدْرِكَنِي).. والنهج القرآني يقوم على التقابل بين المتضادات لإيضاح طريق الهدى وتبيين الخير, فالوحي يذكر: الأرض والسماء, والخير والشر, والحق والباطل, والظل والحرور, والجنة والنار, والعذاب والنعيم, والأبيض والأسود, والهداية والضلال… (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ *وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ)  فاطر) [19-21]. وهكذا فالتقابل في القرآن نهج أصيل في بيان مراد الحق للخلق.

ومن هذا النهج نستمد إطارنا الفكري لهذا البحث في إدراك مفهوم “الحياة الطيبة” ونبدأ بمضادات الحياة الطيبة في القرآن، وهي “الحياة الدنيا”.

ذكرت “الحياة الدنيا” في ما يزيد على (60) موضوعًا كلها مواضع ذم تبرز مكانتها في أنواع الحياة المذكورة في القرآن, وقد حملت هذه المواضع إطار قيمي محاط بمجموعة من الصفات والخصائص الأخلاقية التي ذمها الوحي وربطها بهذا النمط من الحياة: بدءًا من استحباب الحياة الدنيا وتفضيلها على الحياة الآخرة, إلى شراء الحياة الدنيا بالآخرة ونورد هذه الخصائص التي ذكرها الوحي وربطها بالحياة الدنيا كما يلي:

– ذهاب الطيبات في الحياة الدنيا (20 الأحقاف)

– الكفر بالآخرة واعتبار الحياة الدنيا منتهى الوجود (24 الجاثية)

– شراء الحياة الدنيا بالآخرة وأثرتها والرضا بها عن الآخرة ( 86 البقرة- 29 النجم-38 النازعات-16 الأعلى-38 التوبة-7 يونس)

– الزينة والمتعة والغرور واللعب واللهو والفرح بالحياة الدنيا ( 107 النحل -79 القصص-28 الأحزاب- 212 البقرة- 185 آل عمران- 212 البقرة- 32 الأنعام- 70 الأنعام- 130 الأنعام-51 الأعراف-26 الرعد-64 العنكبوت-33 لقمان-5 فاطر- 39 غافر-35 الجاثية- 36 محمد- 20 الحديد-179 البقرة -14 آل عمران-88 يونس 26 الرعد- 28 الكهف-36 الشورى-35 الزخرف)

– الخزي ( 85 البقرة- 26 الروم-1 فصلت)

– العجب بالقول والانخداع في المنافقين ( 204 البقرة)

– العرض الزائل ( 94 النساء-33 النور- 7 الروم)

– الجدال بالباطل ( 109 النساء)

– الذلة والغضب من الله ( 152 الأعراف-55 التوبة)

– البغي (23 يونس)

– ضلال السعي (104 الكهف)

 

القلوب الوجلةوالمعمرة

   القلوب الوجلة: الوَجلُ: من الخوف…والفزع..والقلب الوَجلُ: هو القلب الخائف من الله ألا يتقبل  عمله وهو بين الخوف والرجاء لأن الغيب أمامه دائمًا يعيش به في الشهود..فيخشى ألا تُقبل أعماله التي يتقرب بها إلى الله طمعًا وخوفًا..وهذه قلوبٌ صادقة صدقت مع نفسها في الاعتقاد بالغيب وعاشت وتعيش مع ربها في كل حركاتها وسكناتها وهواها وظنها ويقينها ..وقد وصفهم تعالى ووصف حالهم بأنهم (الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [ المؤمنون:60].

وعلى النقيض من ذلك القلوب (المُغْمَرةُ) والغمر هو: الإغراق حتى لا يبقى من الشيء المُغرق شيء: والقلب المُغْمَر الذي يصوره القرآن: هو القلب الذي أغرق صاحبه في الذنوب والخطايا ولم يعد يستطيع أن يخرج منها كأن تلك الذنوب والخطايا -بل هي كذلك- مستنقع الشيطان نزل فيه القلب العاص المصر على الذنب المستهين بجلال الله وغير الآبه بألوهيته..وهي قلوب أدمنت المعصية وعاشت فيها ولها وبها فغرقت في ذلك المستنقع الشيطاني مغمرة بآثار الذنوب والمعاصي التي ارتكبتها وخططت لها وعملت فيها بشغف حتى أهلكتها ويصف القرآن تلك القلوب وحالها بقوله عز وجل (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَٰذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذَٰلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ) [ المؤمنون:63] .

 

إنسان الحياة الطيبة

     إنسان الحياة الطيبة بين أمرين كبيرين وعظيمين هما: (الإتيان) والأخذ بأوامر الوحي ما استطاع منها وبين الترك للنواهي كليا ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) [ الحشر: 7].

وإنسان الحياة الطيبة في زيادة وابتعاد …زيادة في فعل الخير وابتعاد وتجنب للمعاصي والشر ..ولا يمكن أن يتساوا يوماه في ذلك..فعن الإمام عليِّ ” مَنِ اسْتَوَى يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ، وَمَنْ كَانَ يَوْمُهُ شَرًّا مِنْ أَمْسِهِ فَهُوَ مَلْعُونٌ  ومن لم يرَ الزيادة في دينه فهو إلى النقصان ومن كان إلى النقصان فالموت خير له, إن مساحات الخير لدى المسلم الطيب تزداد يومًا بعد يوم وتأكل من مساحات الشر حتى تفنيها فلا يكون للمسلم إلا الخير يقدمه لنفسه ولغيره من الناس.. (. كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [ آل عمران:110].

   إن حرص المسلم الطيب على فعل (الإتيان)  و( النهي) إنما هو حرص قلبي بالأساس يترجم نقاء القلب وسلامته وإخلاصه وورعه وتقواه لله تعالى الذي يصبح شغل المسلم الشاغل في تفكيره وخلواته وانشغالاته ..